كتبت- إيمان رشدي

تقف الثمانينية زرقة سباهية “أم أيمن” -86 عاماً- بمسقط رأسها بقرية قبو العوامية في ريف اللاذقية، الذي بات مسقط نكبتها، تحبس دموعها، وهي تواجه عناصر مسلحة، قتلوا ولديها كنان وسهيل وواحدا من أحفادها.

يظهر أفراد تلك الجماعات أمامها يظهرون الشماتة بمأساة المسنة العجوز، يمطروها بالإهانات، ويتوعدوها بفواجع عديدة فيما تبقى من أولادها.

تندرج هذه الأعمال الوحشية القائمة على الهوية ضمن هجمات غير مشروعة، تتضمن قتلا ميدانيا، واعتداءات طائفية، وغير ذلك من صور الاضطهاد الطائفي. حيث استفحلت حالة التغول على الحقوق الأساسية للإنسان السوري، وفي مقدمتها حقه في الحياة.

هذه الوقائع الدامية شهدتها وتشهدها المحافظات السورية بعد سقوط حكم الأسد بداية من العدوان ضد العلويين وصولا لاضطهاد الفئات الأضعف من النساء والمسيحيين، دون أن تنتهي بانتشار خطابات كراهية وتغلغلها.

فبعد ما يقرب من 14 عاما من الصراع الدائر بسوريا، فقد خلالها مئات الآلاف من الأرواح، واختفى أكثر من 100 ألف شخص، وأجبر نحو 14 مليون شخص على النزوح من ديارهم، في ظل ظروف وحشية، يقفز السؤال، هل تتوقف معاناة الشعب السوري عند هذا الحد؟

قطعا لا، إذ بدأت احداث جديدة، تتصاعد داخل الأراضي السورية منذ نوفمبر 2024، بداية من اضطهاد العلويين وحالات الإعدام الميدانية، وخطابات كراهية وتهديد للتماسك الاجتماعي.

العلويون بمرمى الاضطهاد والنساء والأطفال الأكثر سقوطا

يبلغ تعداد العلويين نحو 1.7 مليون نسمة، ويشكلون 9% من سكان سوريا، وأبرز المناطق التي يسكنون فيها هي اللاذقية وطرطوس، إضافة إلى مناطق في حمص وحماة وريف دمشق.

السادس من مارس الفائت شهد أعمالا عدائية متصاعدة في محافظات طرطوس واللاذقية وحمص وحماة، سقط خلالها ما يقارب 1383 من المدنيين معظمهم من العلويين، فحسبما قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن القتلى بينهم 745 مدنيا على الأقل و125 من عناصر قوات الأمن السورية و148 مقاتلا موالين للرئيس السابق بشار الأسد.

يأتي ذلك بالمخالفة للمساواة السياسية والتمثيل للفئات المختلفة من السكان السوريين بكافة أعراقهم وأديانهم وطوائفهم.

حيث أفادت الشبكة السورية في تقرير نشرته على موقعها الإلكتروني يوم 11 مارس، أنها سجلت مقتل 172 شخصا على الأقل من قوى الأمن العام والقوات العسكرية على يد مجموعات مسلحة.

وأضاف التقرير، أن تلك المجموعات قتلت أيضًا ما لا يقل عن 211 مدنيًا، بينهم عامل في المجال الإنساني، جراء إطلاق النار المباشر.

أيضا وثق التقرير مقتل ما لا يقل عن 420 مدنيًا وأشخاص مسلحين تمت مصادرة أسلحتهم، وقتلوا خارج إطار القانون، برصاص القوى الأمنية والعسكرية والفصائل المسلحة.

وبحسب التقرير، فإن حصيلة الضحايا والتي تضمنت أعدادا من النساء والأطفال، توزعت كما يلي: فباللاذقية سقط 185 قتيلًا، بينهم 15 طفلًا، و11 سيدة، واثنان من الكوادر الطبية أما في طرطوس، فبلغت الحصيلة 183 قتيلًا، بينهم 9 أطفال، و28 سيدة، و24 من الكوادر الطبية وفي محافظة حماة، تم تسجيل 49 قتيلًا، بينهم 15 طفلًا، و10 سيدات، وأحد الكوادر الطبية، بينما سجل مقتل 3 أشخاص في حمص.

العديد من الحالات الموثقة كانت إعدامات بإجراءات موجزة، ويبدو أنها نفذت على أساس طائفي في تلك المحافظات على يد أفراد مسلحين مجهولين، وأعضاء في جماعات مسلحة، يُعرف على نطاق واسع أنها تدعم قوات الأمن التابعة لسلطات الحكم الجديد الذي يترأسه الرئيس أحمد الشرع، وعناصر مرتبطة بالحكم السابق.

الخطير في الأمر أن عائلات بأكملها، قتلت بما في ذلك نساء وأطفال وأفراد عاجزين عن القتال مع استهداف المدن والقرى ذات الأغلبية العلوية بالأخص.

 ووفقًا للعديد من الشهادات داهم الجناة المنازل، وسألوا السكان، عما إذا كانوا علويين أم سنة قبل قتلهم أو إنقاذهم ووفقا لشهادات الناجين، فإن العديد من الرجال قُتلوا رميًا بالرصاص أمام عائلاتهم.

على إثرها فرّ العديد من المدنيين من منازلهم إلى المناطق الريفية، بينما أفادت التقارير، أن عددًا منهم لجأ إلى قاعدة جوية تسيطر عليها القوات الروسية في المنطقة.

من بين الانتهاكات والتجاوزات الأخرى المسجلة في الأيام الأخيرة، نهب واسع النطاق للمنازل والمحلات التجارية، وعمليات حرق الممتلكات في القرى، فعبر فيديو مدته 45 ثانية، ظهرت ألسنة النيران ودخان يتصاعد من منازل في إحدى القرى بالساحل السوري، خلال الفيديو، تحدث الشخص الذي يوثق الحادثة، مهددًا العلويين، بأنهم لن يكتفوا بحرق البطاقات الشخصية والمنازل، بل سينهون أيضًا حياة كل من يتحدث بلهجة أهل الساحل.

ليست الأولى

لم تكن أحداث الساحل السوري الأولى من نوعها تجاه الطائفة العلوية، حيث وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان 65 جريمة قتل على الأقل منذ تولي الإدارة الجديدة الحكم، راح ضحيتها 120 شخصًا من أبناء الطائفة العلوية.  

وأكد رامي عبد الرحمن- مدير المرصد، أن تلك الحوادث تم ارتكابها بشكل متعمد، وليست مجرد حوادث عابرة، لافتًا إلى أن مسئولية تلك الحوادث قد لا تتحملها الإدارة السورية الجديدة، إلا أن فصائل تندرج تحت عباءتها هي من ارتكبت تلك الجرائم.

أعمال متعددة ومتنوعة جميعها غير مشروعة وتشكل جرائم ضد الإنسانية.

الأكثر دموية.. القتل خارج القانون

مشهد مروع تختصره عدة ثوان من فيديو انتشر، وثق عملية قتل خارج القانون، استهدفت “مازن كنينة” على يد مسلحون محليون بشكل علني صباح يوم الجمعة- 10 يناير 2025- بأحد أحياء ضواحي دمشق.

باتت هذه الحوادث جزء من حالة تتوسع بالتدريج يوما بعد آخر، فقبل كنينة شهدت ساحات عامة في مدن سورية عدة توثيق عمليات إعدامات ميدانية ضحاياها رجال ونساء، بل وأحيانا أطفال لم يتجاوزوا السادسة عشر.

وبينما كان سكان رجال ونساء وأطفال يشاهدون هذه العمليات، تم توثيق حالات أخرى بشكل فردي، بإقدام شخص على قتل آخر أو مجموعات تقوم بتصفية آخرين، ونشر صور الجثث في وقت لاحق على مواقع التواصل.

ففي الثامن من مارس وثق المرصد عمليات تصفية وإعدام ميداني لـ 171 مدنيًا في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة .

كما جرى قتل ما لا يقل عن 109 مدنيين في مدينة جبلة وريفها، منهم 13 مدنيًا؛ جراء إطلاق النار المباشر في قرية بيت لوحو، بالإضافة إلى ذلك سقط 3 مدنيين، بينهم امرأة وطفلة، قرب جسر جبلة، و50 مدنيًا في قرية الصنوبر، و22 مدنيًا، بينهم 3 نساء في قرية شريفا.

وأوضح المرصد، أنه وثق مقتل 19 مدنيًا في مناطق متفرقة من الساحل السوري، بالإضافة إلى مقتل 31 مدنيا بينهم 9 أطفال و4 نساء في قرية التويم بريف حماة.

وطالب المرصد السوري لحقوق الإنسان، السلطات السورية بمحاسبة المتورطين في عمليات القتل والإعدام الميداني، ودعا المجتمع الدولي إلى إرسال فريق تحقيق دولي متخصص في توثيق الانتهاكات التي ارتكبت ضد المدنيين.

تشكل عمليات الإعدام الميداني أو الإعدام خارج نطاق القانون التي تقوم بها تلك المجموعات المسلحة عملا محظورا بموجب القانون الداخلي السوري، ويكفل القانون الدولي اعتبار هذه العمليات جرائم، ولا يجوز التذرع بالحالات الاستثنائية، بما في ذلك حالات عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو أي حالة طوارئ عامة أخرى، لتبرير تلك العمليات.

الأدهى من ذلك وصفها، بأنها محاكمة شرعية لمكافحة الفساد في الأرض، ولا يجوز تنفيذ عمليات الإعدام هذه أيا كانت الظروف، حتى في الظروف التي تضم، على سبيل المثال لا الحصر، حالات النزاع المسلح الداخلي– وفقا لدليل الأمم المتحدة لمنع ممارسات تنفيذ عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة، والتحقيق في تلك الممارسات.

ويعتبر المحامي السوري المقيم في دمشق، عارف الشعال، حالات الإعدام الموثقة تلك ما هي إلا جرائم قتل يجب محاكمة مرتكبيها.

فمن اقتحام قرية المختارية، وقتل أكثر من 30 مدنيا من قبل الجماعات المسلحة، بعد فصل الرجال عن النساء والأطفال، تم إعدام الرجال، إلى انتشار فظائع مماثلة في بلدة الحفة وقرية القبو، في ريف اللاذقية، فعبر مقطع فيديو آخر، يظهر ثلاثة أشخاص يضربون شابًا أعزل، يرتدي ملابس مدنية باستخدام أسلحة نارية، ثم أعدموه ميدانيًا بطلقات عدة، بينما صرخ أحدهم آمرًا بتصفية الشاب وسط صيحات، تعود لعبارة “الله أكبر” ووصمه بـ “الخنزير”.

على الصعيد الدولي، العديد من المحاكم الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، قد تتعامل مع حالات الإعدام الميداني، باعتبارها انتهاكًا لحقوق الإنسان، فيمكن أن يُحاكم المسئولون عن الإعدام الميداني أمام محاكم دولية، إذا تم ارتكاب هذه الأفعال في سياق النزاع المسلح أو على نطاق واسع ضد المدنيين وفقًا للمادة 7 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

بالتالي، يعتبر الإعدام الميداني من الأفعال غير المشروعة في إطار القانون الدولي، ويعتبر انتهاكًا صارخا لحقوق الإنسان وإجراءات العدالة يجب محاكمة مرتكبيه.

وعليه، دعت الأمم المتحدة عبر موقعها الإلكتروني يوم 11 مارس، السلطات السورية إلى ضمان تحقيقات سريعة وشاملة في أحداث الساحل السوري.

وقالت الأمم المتحدة، إنها وثقت مقتل 111 مدنيًا في الساحل السوري، وأن عدد القتلى قد يكون أعلى بكثير، وأشارت إلى أن بعض القتلى هم من عائلات بأكملها بينهم أطفال ونساء في المدن والقرى ذات الغالبية العلوية.

للمسيحيين نصيب

“تعرّضنا كمسيحيين في معلولا -بلدة شمال شرق دمشق- للكثير من المضايقات والتهديدات، وتم تهديدنا بترك منازلنا ومزارعنا وبالقتل أكثر من ثلاث مرات، وكل ذلك موثق بالأدلة”.

بتلك العبارات عبر المسيحيون في سوريا عن أوضاعهم.

فلا يزال مسيحيو سوريا في خطر دائم متجدد وتهديدات متواصلة، من قتل وخطف وتعذيب وتهجير، وحتى الكنائس لم تسلم من التدمير والسرقة والنهب، وتهديدات المسلحين المتوالية.

 “سمعان صمعة” و”هيلانة خشوف” زوجان مسيحيان من قرية “الجميلية”، لقيا مصرعهما في منزلهما بوادي النصارى بمدينة حمص، تعرض “سمعان” للنحرِ وقُطع رأسه، فيما أُطلقت النار على “هيلانة”.  

خطاب الكراهية يهدد التماسك الاجتماعي

قالت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إنها وثقت شهادات ولقطات مصورة للكثير من الانتهاكات والتجاوزات، وبالأخص انتشار الفيديوهات المحرضة على قتل العلويين.

وهو ما دفع لتزايد التوترات أكثر؛ بسبب تصاعد خطابات الكراهية تلك، سواء عبر الإنترنت أو خارجه.

وأعربت مفوضية حقوق الإنسان عن خشيتها، من أن يؤدي الانتشار المتزايد لخطاب الكراهية، إلى جانب المعلومات المضللة، إلى تهديد التماسك الاجتماعي في المجتمع السوري.

إدانة أممية

عبر بيان منفصل، أدان المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا “آدم عبد المولى” بشدة أعمال العنف التي أودت بحياة العديد من المدنيين حتى الآن.

وقد أرسلت الأمم المتحدة بعثة لتقصي الحقائق لإجراء تحقيق في أحداث العنف في سوريا.