سواء قبلت حماس بتسليم سلاحها مقابل إنهاء الحرب وإتمام عملية تبادل الأسرى أم لا، فإن أفقا جديدا قد فتح بحكم الواقع أكثر منه انحيازا فكريا أو سياسيا، وهو خيار المقاومة المدنية السلمية، بعد أن انكسر خيار المقاومة المسلحة في غزة، وقبله خسر حزب الله معركة “الإسناد” التي أطلقها من لبنان تضامنا مع غزة، وبدأ في تسليم سلاحه للجيش اللبناني، كما اختفت نظم الممانعة مع بدايات الألفية الثالثة، فسقط نظام صدام حسين، ثم القذافي، وأخيرا النظام السوري، وهي نظم رفعت شعارات الممانعة، دون أن تمثل أي تهديد حقيقي لإسرائيل، بل بعضها مثل النظام السوري، تفاهم مع تل أبيب على معظم الملفات. أما إيران “رأس حربة” محور الممانعة، فلم يكن دعمها لفصائل المقاومة المسلحة فقط لوجه الله والقضية الفلسطينية، إنما أيضا وربما أساسا حفاظا على مصالحها وحماية لبرنامجها النووي ودورها الإقليمي، وبالتالي فأنها لن تستطيع أن تواجه إسرائيل من أجل فلسطين، إنما قد تواجه دفاعا عن مصالحها وأمنها القومي.

ومن هنا، بات من الصعب أن نتحدث عن إحياء في المدى المنظور لتجارب فصائل المقاومة المسلحة، بعد أن تم تفكيك القدرات العسكرية لحركة حماس ولحزب الله والضربات الموجعة التي تلقاها الحوثي في اليمن وانكفاء إيران على نفسها، وبات الباب مفتوحا على مصراعيه أمام “فرصة” تبني المقاومة المدنية السلمية كأسلوب للكفاح، والضغط من أجل استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال، خاصة بعد التغيرات التي شهدها العالم، وصعود التيارات المؤيدة لفلسطين في مختلف دول العالم، شمالا وجنوبا شرقا وغربا.

والحقيقة، أن حرب غزة بقدر ما تركت آلاما وجراحا كثيرة، وخلفت شهداء ومصابين بعشرات الآلاف، إلا أنها أعادت إحياء القضية الفلسطينية من جديد في نفوس العرب والعالم، وأيقظت أصوات الضمير العالمية في مواجهة جرائم الإبادة الجماعية، كما شهدنا تحركات ملهمة لدولة غير عربية مثل، جنوب إفريقيا حين ذهبت لمحكمة العدل الدولية، تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وطالبت المحكمة بإجراءات لحماية الشعب الفلسطيني، لم تحترمها إسرائيل، وعلى إثرها أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارا بملاحقة نتنياهو ووزير دفاعه السابق بتهم ارتكاب جرائم حرب، كما قادت السعودية تحالفا دوليا من أجل قيام دولة فلسطينية، وأعلنت دول أوربية مهمة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفُتحت أبواب كثيرة للنضال السلمي والقانوني ضد دولة الاحتلال.

إن التحركات الدولية والجمعيات والمؤسسات التي تشكلت في العالم دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني انتزعت مساحة مدنية للتعبير عن موقفها بنضال وضغط، ودفع كثير منها ثمنا باهظا نظير إدانته للجرائم الإسرائيلية.

ويصبح السؤال، هل تأسست في العالم العربي جمعيات توثق جرائم الاحتلال وتحصر أعداد الأسر التي مسحت من السجل المدني وتفاصيل عن 17 ألف طفل، استشهدوا في غزة، بحيث لا تجعلهم مجرد أرقام، وهل تواصل أو دعم حملة الشعارات في العالم العربي مع مؤسسة (HRF) “هند رجب” (الطفلة الفلسطينية التي تعمد جيش الاحتلال قتلها)، والتي تأسست في بروكسل كذراع قانوني لجمعية 30 مارس من أجل عدم إفلات إسرائيل من العقاب.

هناك عشرات الجمعيات تشكلت في أوروبا وأمريكا لدعم الشعب الفلسطيني، وهناك تحركات ملهمة لدولة مثل، جنوب إفريقيا من أجل محاسبة إسرائيل على جرائمها في محكمة العدل الدولية، وهو التحرك الذي لم يجد له داعمين بين النظم العربية.      

إن إعادة الاعتبار للمقاومة السلمية ليس فقط خيار فكري وسياسي، إنما هو حصيلة ما أنتجته حرب غزة التي لم تؤد إلى إضعاف القدرات العسكرية لإسرائيل، ولا صعود القدرات العسكرية لحماس أو حزب الله أو ردع إيران لإسرائيل بالقوة المسلحة، إنما كانت حصيلتها إضعاف تنظيمات المقاومة المسلحة وتفكيك قدراتها العسكرية، بالمقابل فقد أسفرت الحرب عن فتح أبواب حقيقية لصعود التيارات المدنية السلمية المناصرة للقضية الفلسطينية في العالم، وهو أمر يتطلب نخبا وقيادات فلسطينية جديدة، تتجاوز خطاب حماس والسلطة على السواء، وتكون قادرة على التفاعل مع هذه التيارات والمشاركة في الضغوط والحملات القانونية على دولة الاحتلال، حتى تنصاع لقرارات الشرعية الدولية وتتوقف عن ارتكاب جرائمها وتحاسب على ما اقترفته.

إن الأصل الذي أفرز مسار التسوية السلمية الوحيد كان انتفاضة الحجارة الشعبية في ١٩٨٧ التي فتحت الباب أمام اتفاق أوسلو للتسوية السلمية، والذي أجهضته إسرائيل بالاستيطان في الضفة الغربية وبحصار قطاع غزة، وإنه حان الوقت لإعادة الاعتبار للنضال الشعبي والمدني الذي لم يكن غريبا عن تاريخ النضال الفلسطيني.

صحيح، إنه لولا صمود المقاومة المسلحة والتضحيات الاستثنائية التي دفعها الشعب الفلسطيني، لَمَا فُتح باب المقاومة السلمية، وأن الوضع الفلسطيني الحالي لم يعد يحتمل سجال المقاومين والمعتدلين، وانقسام فتح وحماس، إنما ما يجب، استدعاء ما أنتجه الواقع، الذي يقول إن فصائل المقاومة المسلحة تفككت قدرتها العسكرية، وإن تيارات المقاومة السلمية عبر العالم تصاعد حضوره وتأثيره، وحان الوقت لكي نترجم هذه الفرصة إلى تحرك وخطة عمل، لإنهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني.

سيبقي النضال المدني والشعبي هو الأصل والخيار الغالب في تجارب التحرر الوطني، وإن خيار المقاومة المسلحة هو خيار مشروع، لكنه يجب أن يكون اضطراريا واستثنائيا، وبعد فشل كل الخيارات المدنية والسلمية.

الواقع الحالي يقول إن هناك فرصة لبناء مشروع مدني عربي وفلسطيني، يعمل على إنهاء الاحتلال وبناء نموذج سياسي جديد قادر على التأثير في العالم والتواصل مع كل الحركات المدنية التي دعمت مؤخرا القضية الفلسطينية.