“الولايات المتحدة لم تكن قوة من أجل الديموقراطية طوال الوقت”، هكذا استهل أحد قيادات العمل الحقوقي المصري البارزين حديثه، مستحضرًا كيف أجهضت واشنطن في الماضي العديد من تجارب التحول الديمقراطي في دول أمريكا اللاتينية، وكيف أخفقت بشكل واضح في بناء دول ديموقراطية مستقرة مثل، العراق وأفغانستان.

في تقديري المتواضع؛ تشهد حقبة ترامب ثلاثة تأثيرات كبرى ومتشابكة تلقي بظلالها على ملف حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية على مستوى العالم:

الأول: أنه وقد تحرر- إلى حد كبير- من التدخلات الخارجية؛ هل يمكن اعتباره- أي ملف حقوق الإنسان- شأنا وطنيا صرفا؟

طالما دأبت الحكومات العربية وغير العربية على اتهام المدافعين عن حقوق الإنسان في بلدانها بالعمالة للخارج، وتلقي الدعم “المشبوه” من جهات أجنبية، والعمل وفقًا لأجندات خارجية خفية؛ تهدف في نهاية المطاف إلى زعزعة الاستقرار وتقويض الأمن القومي. فماذا يمكن أن يكون رد هذه الحكومات إذن، وما هي الذرائع التي ستسوقها، بعد أن تخلت إدارة ترامب بشكل ملحوظ عن هذا الدعم الخارجي لحقوق الإنسان؟

في المقابل، اعتمد جزء كبير من النشطاء الحقوقيين في جهودهم على الحصول على التمويل والمناصرة والدعم السياسي من الخارج، سواء من حكومات أجنبية متعاطفة أو آليات دولية متعددة الأطراف تابعة للأمم المتحدة وغيرها. فهل يمكن لهؤلاء النشطاء اليوم إعادة تركيز جهودهم على الأرض، وغرس بذور العمل الحقوقي في التربة الوطنية، وتوسيع قاعدة الدعم الشعبي المحلي لحقوق الإنسان لتصبح أكثر أصالة واستدامة؟

التحدي المطروح بإلحاح على أصحاب المصلحة والمعنيين بهذا الملف هو: هل يمكن صياغة رؤية جديدة وسردية مشتركة ومتوازنة بين الحكومات والمجتمع المدني، تعتبر حقوق الإنسان جزءًا لا يتجزأ من المصلحة الوطنية العليا، وضرورة حتمية لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والتنمية الشاملة؟

تتضمن هذه الرؤية ثلاثة عناصر رئيسية، تستحق قدرًا كبيرًا من التفصيل والتحليل والإضافة:

١- مزيد من الاعتناء بحقوق الإنسان؛ يؤدي إلى مزيد من التماسك الوطني في ظل عالم، يموج بالتحولات والتهديدات الاستراتيجية وعدم اليقين.

إن تعزيز احترام وحماية حقوق الإنسان بشكل فعال يؤدي بشكل مباشر وحاسم إلى تقوية التماسك الوطني وتعزيز الوحدة الداخلية في مواجهة التحديات، خاصة في ظل عالم يموج بالتحولات العميقة والتهديدات الاستراتيجية المتزايدة، وحالة عدم اليقين والقلق التي تتسم بها المرحلة الراهنة (والتي تجسدها إلى حد بعيد إدارة ترامب وسياساتها المتقلبة.

٢- مزيد من استعادة السياسة بفتح مجالها؛ من شأنه أن يخفف حدة التوتر المجتمعي والاستقطاب السياسي. إن توسيع نطاق المشاركة السياسية واستعادة الدور المحوري للسياسة في معالجة قضايا المجتمع وهموم المواطنين، من شأنه أن يخفف إلى حد كبير من حدة الاحتقان الاجتماعي المتزايد والتوترات الناتجة عن الأزمات المعيشية الخانقة التي يعاني منها قطاع واسع من السكان، والتي تزيدها حدة وتفاقمًا التداعيات الإنسانية الكارثية للإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة.

٣- إن المنفعة الحدية المرجوة من اللجوء إلى القمع كوسيلة للحكم تتناقص باستمرار في العصر الحالي، كما أن هناك إمكانية لتحقيق الأهداف المرجوة (إن كانت هناك أهداف للقمع) بأساليب أقل كلفة، وأكثر استدامة على المدى الطويل.

الثاني: ديمقراطية بنكهة محلية، والسؤال هنا: هل يفتح اهتزاز النموذج التقليدي للديمقراطية الليبرالية في الغرب، والذي تجلى في صعود شخصيات مثل، ترامب وتنامي الحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة في العديد من الدول الغربية، الباب واسعًا لظهور نماذج ديمقراطية بديلة، تعكس الخصوصيات الوطنية والثقافية لكل مجتمع على حدة؟

هذا النقاش الجوهري، لم يبدأ عندنا بعد بشكل جدي وموسع، وإن كان قد انطلق على نطاق واسع عالميًا في الأوساط الأكاديمية والفكرية والسياسية.

الثالث: مستقبل الإنسانية على المحك، ففي ظل التصاعد المأساوي لوقائع الإبادة الجماعية والنزعة المتزايدة لتجريد الإنسان من إنسانيته وقيمه الأساسية النبيلة، يبرز تساؤل وجودي عميق: هل يمكن الحفاظ على عالمية القيم الإنسانية المشتركة، في عالم يتجه بخطى حثيثة نحو التعددية القطبية؟ أم أننا نتجه حتمًا نحو حوكمة دولية متصارعة ومتشرذمة، تتخلى تدريجيًا عن هذه القيم العالمية المشتركة لصالح صراعات جيوسياسية واقتصادية ضيقة؟

عواقب إيجابية غير مقصودة

مع انخفاض التمويل وضعف هياكل الدعم الدولي؛ تظهر سياسات وقرارات ترامب- على المدى القصير- عواقب سلبية مباشرة. ومع ذلك، فإن تزايد النشاط الشعبي حول قضايا مثل غزة، وإمكانية قيام عالم متعدد الأقطاب، قد يُمثلان ديناميكيات متطورة في كيفية مناصرة حقوق الإنسان وحمايتها في المستقبل. لذلك، قد يكون من الأدق القول، إننا ندخل فترة من التغيير الكبير وعدم اليقين في مشهد حقوق الإنسان بعد إدارة ترامب، وفي ظل الأزمات العالمية المستمرة التي لن يكون آخرها التعريفات الجمركية.

إن انخفاض التمويل المخصص لأعمال حقوق الإنسان قد يؤدي إلى إحياء العمل التطوعي- وفقا لأحد المتخصصين في قضايا حقوق الإنسان في مصر. إن التحول عن التفرغ المهني المحض في مجال حقوق الإنسان إلى نموذج يعتمد بشكل أكبر على المتطوعين، على غرار بداياته في الثمانينيات من القرن الماضي، يمكن أن يكون تطورًا إيجابيًا. قد يؤدي هذا إلى تعزيز الشعور بالمشاركة والالتزام الشعبي، على الرغم من التحديات التي يواجهها النشطاء في موازنة حياتهم مع العمل المتطلب في مجال حقوق الإنسان.

إن غياب الولايات المتحدة عن بعض المنظمات الدولية قد يخلق فرصة لحكم أكثر ديمقراطية داخل تلك الهيئات، ويمكّن مناطق أقل نفوذاً تاريخياً.

يرى بعض المراقبين، أن تقليص مشاركة واشنطن في العمل الدولي المشترك قد يدفع إلى منح سلطة أكبر لمناطق مثل، إفريقيا وعالم الجنوب، وقد يؤدي هذا إلى منظمات عالمية أكثر فعالية. إن هذا يتماشى مع الفكرة التي يروج لها البعض وهي: أن العالم الذي لا تهيمن عليه قوى كبرى قليلة، يمكن أن يكون عالمًا أكثر عدالة.

يعمل المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي بنشاط على تقديم روايات بديلة، تؤكد على الحقوق الفلسطينية. وتدعم حملات التبرع للأطفال الفلسطينيين، ويتسع المتضامنون مع غزة التي تضم مجموعات مختلفة بما في ذلك اليساريين والنسويات ومجتمعات LGBTQ+ والأفراد السود والمسلمين والعرب، إلى جانب اليهود المناهضين للصهيونية… تشير هذه التجربة إلى إمكانية التضامن الأوسع وبناء التحالفات داخل حركات حقوق الإنسان. إن الدعوة إلى “توحيد” المتظاهرين العالميين تُشير أيضًا إلى شعور متزايد بالنضال المشترك.

لم يعد التهديد في ظل حقوق “الرجل الأبيض المحافظ”

  • ــ كما تطرحه إدارة ترامب، ومناهضة الأفكار التقدمية، والرغبة في ضم الأراضي بالقوة، والتحلل من الالتزامات الدولية… هي سياسات ضد شعوب بعينها أو المقصود بها فئات محددة؛ بل تشمل فئات عديدة في داخل أمريكا وخارجها. يمثل هذا التهديد المشترك إمكانية لبناء تحالفات أكثر اتساعا.

في سياق ولاية ترامب الثانية والسياسات الموصوفة، فإن التخفيضات الجذرية في تمويل الترويج للديمقراطية مثل، الصندوق الوطني للديمقراطية (NED)، الذي يدعم المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان وسيادة القانون وحريات الإعلام، وإلغاء تمويل كيانات مثل، الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، والتي تدعم منافذ مثل صوت أمريكا وإذاعة آسيا الحرة، يتم تقديمها على أنها ذات عواقب سلبية شديدة لدى البعض، ومع ذلك، وكما ذكرنا سابقًا، فإن هذه التخفيضات قد تشجع بشكل متناقض العودة إلى العمل التطوعي في بعض السياقات، علاوة على ذلك، فإن التخلي الصريح عن التركيز على الديمقراطية وحقوق الإنسان من جانب الولايات المتحدة قد يجبر جهات فاعلة أخرى على التدخل وملء الفراغ، مما قد يؤدي إلى نهج تعددية الأقطاب في مجال الدعوة إلى حقوق الإنسان ودعمها.

استراتيجيات جديدة

في ظل السياق الأوسع الذي يحيط بحركة حقوق الإنسان- وطنيا وعالمياــ تبرز عدة استراتيجيات، ربما تطرح فرصا جديدة:

١- تنويع مصادر التمويل وشبكات الدعم: نظراً لتقليص المساعدات الخارجية الأمريكية، فمن المرجح أن تحتاج حركات حقوق الإنسان إلى التعاون مع منظمات حقوق الإنسان في مناطق أخرى. قد يوفر هذا دعمًا معنويًا وسياسيًا، وربما ماليًا بالغ الأهمية. إن النقاش حول عالم لا تتحكم فيه دول عظمى وحيدة- كما ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة؛ ربما يكون مفيدا، لأنه يدعم- بشكل غير مباشر- فكرة البحث عن الدعم من مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة العالمية. رفضت بعض المؤسسات ذات الخلفيات الاشتراكية والمستقلة في الواقع المصري والعربي، تلقي الدعم الأمريكي- حكومي وغير حكومي، باعتبار أن الأخيرة قوة إمبريالية مساندة للكيان الصهيوني.

٢- إعطاء الأولوية لوسائل الإعلام المستقلة ونشر المعلومات: مع القيود المحتملة على تمويل المنافذ الإعلامية التي خدمت المصالح الأمريكية، وفي ظل التحديات التي يفرضها العمل في البيئات التي يتم فيها التحكم في تدفق المعلومات، يتعين على حركات حقوق الإنسان أن تعمل على: إيجاد وسائل بديلة لدعم مصادر المعلومات الحيوية، وكذلك على ضرورة حماية وسائل الإعلام المستقلة.

٣- بناء تحالفات واسعة: لقد أظهرت أزمة غزة إمكانية بناء حركات شعبية واسعة النطاق تضم مجموعات متنوعة. ينبغي لحركات حقوق الإنسان، أن تعمل بنشاط على بناء وتعزيز التحالفات بين مختلف حركات العدالة- العرقية والبيئية الجندرية… إلخ- لتعزيز تأثيرهم الجماعي وتشكيل جبهة موحدة ضد انتهاكات حقوق الإنسان في سياقات مختلفة.

٤- التكيف مع القمع العابر للحدود الوطنية ومواجهته: من الملاحظ تصاعد القمع العابر للحدود الوطنية، حيث يواجه المعارضون من الدول الاستبدادية تهديدات حتى في الدول المجاورة. تحتاج حركات حقوق الإنسان إلى التطور، بما في ذلك تعزيز التدابير الأمنية للنشطاء، وإنشاء قنوات اتصال آمنة، وإيجاد طرق مبتكرة لدعم وحماية الأفراد الذين تستهدفهم الأنظمة الاستبدادية.

٥- التركيز على التمكين المحلي والتعبئة الشعبية: من الضروري بناء القدرات المحلية، وتشجيع المبادرات المجتمعية، وإيجاد سبل لحشد السكان للمطالبة بحقوقهم من الداخل. من الضروري زيادة مشاركة أصوات وتمثيل المجموعات المحلية والمهمشة في النضالات من أجل حقوق الإنسان.

٦- التعامل مع المؤسسات المتعددة الأطراف (مع الاعتراف بالقيود): على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة من هيئات حقوق الإنسان الدولية مثل، مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أو إضعاف مشاركتها في مؤسسات دولية أخرى، لا تزال حركات حقوق الإنسان قادرة على الاستمرار في التعاون مع الهيئات الدولية ومنظمات الأمم المتحدة، مع الاعتراف بحدودها وقيودها وضرورة إصلاحها.

٧-التكيف مع المشهد العالمي المتغير واستكشاف البدائل المتعددة الأطراف: ينبغي للمجتمع الحقوقي أن يتعامل بشكل استراتيجي مع عالم متعدد الأقطاب بشكل محتمل. أبرزت القضية المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية وجود طيف واسع من الدول، تنتمي لقارات كثيرة، يمكن أن تكون داعمة ومناصرة لحقوق الإنسان.

٨- تعزيز النشاط الرقمي ومكافحة التضليل: في عصر يتم فيه خفض التمويل للمنافذ التي تكافح الرقابة على الإنترنت، ومع ظهور الروايات البديلة على وسائل التواصل الاجتماعي أثناء أزمة غزة وغيرها، يجب على حركات حقوق الانسان تعزيز استراتيجياتها في النشاط الرقمي. ويشمل ذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر المعلومات، وحشد الدعم، ومكافحة التضليل الإعلامي… هنا يصبح دعم وإنشاء منصات إعلامية بديلة أمرًا بالغ الأهمية، عندما تواجه المصادر التقليدية تخفيضات في التمويل.

٩- إعطاء الأولوية لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان من العنف والاستهداف أمرٌ بالغ الأهمية . وهذا يتطلب وضع بروتوكولات سلامة، وتوفير شبكات دعم، والدعوة إلى تعزيز الحماية على المستويين الوطني والدولي. إن الضعف المحتمل لآليات حقوق الإنسان الدولية نتيجةً لتراجع التدخل الأمريكي يجعل هذه الجهود أكثر أهمية.

١٠- توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والدعوة إلى المساءلة: حتى مع تغير الديناميكيات الجيوسياسية، يظل التوثيق الدقيق لانتهاكات حقوق الإنسان والدعوة إلى المساءلة أمرًا بالغ الأهمية. ويشمل ذلك جمع الأدلة، والتعاون مع الهيئات القانونية الدولية كلما أمكن، ومواصلة الضغط على الجناة بغض النظر عن تقلبات الأوضاع السياسية.

توفر هذه الاستراتيجيات المستمدة من التحديات التي أبرزتها التطورات الأخيرة، مسارات محتملة لحركات حقوق الإنسان للتعامل، مع مستقبل يتسم بالأزمات وتحولات الإرادة السياسية العالمية. تؤكد هذه التوصيات على ضرورة أن تكون حركات حقوق الإنسان مرنة وقادرة على التكيف وتعاونية في بيئة عالمية متغيرة، حيث قد تضعف هياكل الدعم التقليدية، ولكن قد تظهر أيضًا فرص جديدة للتضامن والتعبئة.