تمثل السندات الأمريكية، حاليًا، السلاح الأهم في الحرب التجارية، وهي السلاح الذي أجبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على تأجيل رسومه الجمركية 3 أشهر، فحجم تلك السندات يعادل حاليًا 36 تريليون دولار، والصين هي ثاني أكبر حامل لتلك السندات بقيمة تناهز نحو 770 مليار دولار منها.
تلقت الصين في الأيام الأخيرة تحذيرات من استخدام سندات الحكومة الأمريكية كسلاح في الحرب التجارية؛ لأنها ستضر جميع حاملي تلك السندات بما فيها الصينيون، كما قد تزعزع استقرار الأسواق المالية العالمية بدفع عائدات السندات إلى مستويات أعلى، لكن المبيعات التي تحدث للسندات الأمريكية تثير القلق.
تمول الحكومة الأمريكية نفقاتها عبر إصدار سندات الخزانة، التي يشتريها المستثمرون للاستفادة من عوائدها واستقرارها في ظل هيمنة الدولار على المعاملات التجارية والاحتياطيات عالميًا، وتُغذي هذه الأداة المالية الدين القومي الأمريكي، الذي يتجاوز الآن 36 تريليون دولار.
وتعتبر الصين، ثاني أكبر دولة تمتلك ديونًا أجنبية أمريكية، بعد اليابان مباشرةً التي تملك تريليون دولار من الدين الأمريكي، وسبب إقبال الصين على تلك السندات ليس حبًا في واشنطن، ولكن إعادة استثمار فوائضها التجارية في قطاعات تدر عائدا دون أن تضطر لرفع قيمة عملتها “اليوان”.
مبيعات للخزانة الأمريكية.. هل الصين متورطة؟
يقول جون هيجنز، كبير اقتصادييّ الأسواق في كابيتال إيكونوميكس، إن القلق الذي يسود العالم حالًيا يتعلق بإمكانية تخلص الصين من حيازاتها الضخمة من سندات الخزانة، حتى لو هدد ذلك بآثار جانبية كبيرة، مثل تكبد خسائر فادحة في محفظتها الاستثمارية وتقويض قدرتها التنافسية أمام الولايات المتحدة من خلال رفع قيمة اليوان مقابل الدولار.
تسعى الصين بكل الوسائل للحفاظ على اليوان منخفضًا، باعتباره كلمة السر في تنافسية بضائعها في الخارج، وإذا خفضت بكين حيازاتها بشكل كبير، فسيؤدي ذلك لانخفاض الدولار أمام اليوان، وهو أمر تدرسه جيدًا، خاصة في ظل ارتفاع الرسوم الجمركية الأمريكية، فالرسوم التي تصل لـ 245% ترفع أسعار السلع الصينية ولا تريد بكين أن تزيد العملة، فتضيف مشكلة جديدة على سعر البضائع المٌصدررة.
واستخدام السندات الصينية قد يُثير ذعرًا بالأسواق العالمية التي تعاني أصلًا من توترات؛ بسبب سياسات الإدارة الأمريكية الحمائية، وارتفعت عائدات السندات الأمريكية إلى مستويات، لم تشهدها منذ أكتوبر الماضي، ما أثار دهشة المحللين، وسط تصاعد التقلبات، لكن لا تزال التكهنات حول تورط الصين غير قاطعة.
أقدم المستثمرون الأجانب على تصفية استثماراتهم في سندات الشركات الأمريكية خلال الأسبوع الماضي بأعلى سرعة منذ 5 سنوات، في خطوة تعكس تحولًا جذريًّا في توجهات الأسواق المالية العالمية.
وتشير بيانات من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي “البنك المركزي الأمريكي” ووزارة الخزانة، إلى أن الصين باعت سندات أمريكية بقيمة تقارب 5 مليارات دولار في فبراير، أي قبل إعلان ترامب المسمى “يوم التحرير” في 2 إبريل، ويصعب تتبع التحركات الأحدث بدقة بعدها.
الصين تمارس ضبط النفس بمجال السندات
وفقًا لبنك “باركليز” فإن أي مبيعات سندات من جانب الصين، من المرجح أن تكون مرتبطة بجهود استقرار العملة المحلية، وليس محاولة متعمدة للضغط على تكاليف الاقتراض الأمريكية.
ويُعد هذا التمييز بالغ الأهمية، حيث تواجه السلطات الصينية ضغوطًا متزايدة للدفاع عن اليوان في مواجهة ارتفاع الرسوم الجمركية، ولكن أي تصفية كبيرة لسندات الخزانة قد يكون لها تأثير معاكس من خلال تعزيز العملة الصينية وتآكل القدرة التنافسية للصادرات.
كما يمتلك البنك المركزي الصيني وصناديق الاستثمار الحكومية أصولًا مقومة بالدولار، تُقدر قيمتها بنحو 3 تريليونات دولار، ومن شأن انهيار سوق السندات الأمريكية، أن يُضعف بشدة قيمة هذه الأصول، مما يُقوّض الاستقرار المالي الأوسع في الصين في وقت يتباطأ فيه النمو بالفعل.
هل تحتاج الصين البيع بنفسها؟
تعتبر سندات الخزانة الأمريكية من بين أكثر الأصول أمانًا في العالم، حيث تبيعها وتدعمها القوة الاقتصادية، لكن المبيعات التي شهدتها أخيرًا قد تمثل لحظة فارقة، فقدت فيها الولايات المتحدة ثقة المستثمرين العالميين، ما يعني الآن أن السندات الأمريكية والدولار لم يعودا يُعتبران من بين أكثر الاستثمارات أمانًا في العالم.
خلال 100 يوم فقط أثار ترامب قلق المستثمرين بتصريحات فوضوية بداية من الإعلان عن الرغبة في الاستحواذ على جرينلاند و”استعادة” قناة بنما، وكذلك الرغبة في ضم كندا، وانتقاده رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول والدعوة إلى إقالته، الأمر الذي يُثير قلق المستثمرين.
بشكل عام، يُؤدي هذا إلى خلق ما تكرهه الأسواق بشدة: عدم القدرة على التنبؤ، وفقدان ثقة المستثمرين الأجانب بالولايات المتحدة، وبالتالي فإن مجرد التلويح الصيني باستخدام السندات حتى ولو تحذيرا، سيُشكّل خطرًا جسيمًا، سيثير مخاوف مستثمري الدول الأخرى من سحب كامل للاستثمارات، ويثير حالة من الذعر في الأسواق العالمية.
هذا الهلع قد يضر بباقي حيازات الصين المقومة بالدولار، كما ستضطر للبحث عن أسواق أخرى لضخ تلك المبالغ فيها، ولكن سيتبقى مسألة ما إذا كانت حكومات تلك الدول سترحب بعمليات الشراء أم لا.
ماذا تستهدف الصين؟
البنك المركزي الصيني أمر الشركات الحكومية الصينية باستخدام اليوان في كل تعاملاتهم التجارية الخارجية، وأعلنوا عن توسيع “نظام المدفوعات عبر الحدود CIPS باستخدام أحدث تقنيات البلوكتشين الخاصة للعملات الرقمية المشفرة، لتقليل تكاليف التحويلات المالية الدولية.
منذ شهور طويلة رفعت الصين احتياطيها من الذهب بأكثر من 333 طنا في الربع الأخير من 2024 فقط بزيادة 54% مقارنة بالسنة السابقة، بينما تسببت مخاوف إقالة ترامب لرئيس الاحتياطي الفيدرالي ودخول الاقتصاد الأمريكي في ركود وتصاعد الحرب التجارية، في دفع المستثمرين نحو العزوف عن شراء السندات والأذون الأمريكية وغيرها من الأصول التقليدية، والاندفاع نحو حيازة الذهب الذي حقق مستويات قياسية.
بحسب علاء عتمان، خبير الإدارة الاستراتيجية، فإن الصين تبيع كميات كبيرة من السندات الأمريكية، إذ قللت حيازتها منها لأدنى مستوى من 2009، وفي نفس الوقت زادت استيراد الذهب من بريطانيا وروسيا وغيرها بكميات ضخمة، وذلك لعدة أسباب استراتيجية عميقة ومترابطة أهمها تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، وهو تفكير بدأ منذ قيام الغرب بتجميد الأصول الروسية.
أضاف أن الصين تريد تعزيز اليوان كعملة عالمية، وتمارس التخلص التدريجي من السندات الأمريكية، وتحويل الفائض للذهب، لأنه أصل ثابت ليس له تبعية سياسية، وملاذ آمن عالميًا، لكن المعدن النفيس أصبح أكتر من مجرد ملاذ آمن، بل سلاحا اقتصاديا وأداة استراتيجية للدول الكبرى في مواجهة تقلبات السياسة النقدية الأمريكية والعقوبات الدولية.