واحد من أهم الأمور التي تعكف النظم السياسية وصناع القرار بها على توافرها في بلدانهم، هي الخدمات التي يجب أن تكون في متناول الكافة سواء مواطنين أو مقيمين، من هنا يأتي الحديث عن قطاع مهم من القطاعات الخدمية، وهو القطاع الطبي، والذي تتحدث عنه السلطات في البلاد النامية، ومنها مصر على أنه حق من حقوق الإنسان، يفوق بكثير الحقوق السياسية له.

النظر إلى حال القطاع الطبي في مصر يشي بأننا أمام كارثة بمجمل المقاييس، وذلك في واحدة من أهم النواكب التي ضربت هذا القطاع الحيوي، بسبب عدم توافر الأطباء وأطقم التمريض، وتظهر المشكلة في أوج صورها بعدم الاعتراف بتلك المصيبة الكبرى، ما يجعل الفشل عاما، فلا كان العجز المزري في الحقوق السياسية قد أفضى للتعويض بحل المشكلات الاجتماعية كمشكلتنا موضوع الحديث هذا، ولا نحن تقدمنا في مجال الحقوق المدنية والسياسية للمواطن المصري، ففتحنا المجال العام الموصد مع بقاء الأمور على حالها بشأن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية المتدنية؛ بسبب أزمات مردت السلطة أن تعزوها دوما لأسباب خارجية لتبرير الفشل.

مظاهر الأزمة

وتظهر أزمة غياب الأطباء وأطقم التمريض في المستشفيات، خاصة العامة أو الحكومية منها، من خلال تطور متدهور على طول الخط. ففي العام 2021 تشير البيانات لوجود 100700 طبيب مصري عامل على أرض الوطن، انخفض هذا العدد إلى 97400 طبيب عام 2022. وقتئذ كان عدد سكان مصر نحو 113 مليون نسمة، وكان الانخفاض في عدد الأطباء قد قدر بـ 3,3%. هنا كان المعدل هو وجود طبيب واحد فقط لكل 1162 فردا، وهو رقم متدني للغاية، لا سيما إذا عُرف أن المعدل العالمي وفقا لتقديرات منظمة الصحة العالمية WHO هو طبيب واحد لكل 434 فردا.

في دراسة حكومية جرت مطلع العام 2025، أشارت البيانات إلى أن هناك 8,6 أطباء لكل 10 آلاف فرد، وأن المعدل العالمي المنضبط والسليم هو وجود 23 طبيبَا لهذا العدد!!

وبالانتقال إلى أطقم التمريض، ووفقا لنقيبة مهنة التمريض، فإن العجز الحالي في عدد الممرضين والممرضات هو 75 ألف موزعين على كافة أنحاء الجمهورية، وأن هذا العجز سيتضاعف عام 2030، إذا طبقت منظومة التأمين الصحي الشامل والعام، لأن الحاجة إلى هذه الأطقم ستزداد.

آثار ونتائج الأزمة

ما من شك أن آثار الأزمة تلك أسفرت عن تدني الوضع الصحي، فالأطباء وأطقم التمريض يعملون بالمستشفيات لساعات طويلة لتعويض العجز، وفي كثير من الأحيان، ونتيجة هذا الإرهاق، تحدث أخطاء متوقعة بسبب حالات الإعياء التي تصيب هؤلاء، وهو ما يظهر في توالي أكثر من 100 مريض على الطبيب الواحد في اليوم الواحد، وهو ما يعرضهم بالتبعية للسباب، وربما الأذى البدني من أهل المرضى. هنا من المهم أن نرصد ما تناولته نقابة الأطباء البشريين عام 2022 من وفاة 149 طبيبا أثناء العمل في المستشفيات خلال هذا العام!!. كل ما سبق يحدث ولا توجد حماية مباشرة للأطباء، بل على العكس يتعرض هؤلاء للمساءلات الإدارية، وربما الجنائية نتيجة الأخطاء، وفقا لقانون العقوبات، في غياب قانون خاص للمسئولية الطبية، الذي أدركت السلطة أهميته مؤخرا، فشرعت في سنه في نهاية مارس الماضي، رغم كونه قائما ليس في البلدان الغربية فحسب، بل في نحو 8 دول عربية!!.       

 في أحد الدراسات الحكومية الحديثة، يظهر عدد حاملي ترخيص مزاولة مهنة الطب لمن هم أدنى من سن التقاعد في مصر إجمالا، بأنه 212835 ترخيصا. ضمن هؤلاء يوجد 82 ألف طبيب عامل في مصر، أما الباقون فهم من العاملين في الخارج، ومعظم هؤلاء يعملون في مجال الطب، وبعضهم قد قدم استقالته، وبعضهم ذهب للعمل بإجازات بدون راتب، أو ذهب لاستكمال الدراسة. هذه الأرقام مفجعة في بلد تجاوز عدد سكانه الـ110 ملايين نسمة. وبشأن الذهاب إلى الخارج بغرض العمل، يرصد نقيب الأطباء بأن هناك نحو 80 ألف طبيب في الخارج منهم نحو 70 ألفا في بلدان الخليج، و10 آلاف في بلدان أوروبا والولايات المتحدة، ويقول إن الاتجاه الساري الآن لمن لا يجد مكانا في تلك البلدان هو الذهاب إلى إفريقيا، وهو ما يظهر في وجود حالات هجرة مؤخرا في كل من تنزانيا وغينيا.

الأرقام السابقة تشير إلى أن الهجرة إلى الخارج سواء بشكل مؤقت أو دائم أصبحت هي ديدن الطبيب المصري. وهذا الأمر يسير بشكل متصاعد، إذ تقول بيانات نقابة الأطباء، إنه خلال العام 2016 فقط استقال 1044 طبيبا من العمل بالحكومة، وقد ارتفع هذا العدد في عام 2021 وحده إلى 4127 طبيبا، وفي العام 2022 كان العدد قد أصبح 4300 طبيب.

الرواتب على رأس الأسباب

ضمن الأسباب التي أدت إلى عزوف أهل مهنة الطب عن العمل في مصر، التعقيدات الإدارية والتي قد تصل إلى حد الفساد الذي يضرب كغيره من المظاهر السلبية دولاب العمل ببعض أجهزة الحكومة. فالأمور المتعلقة بالإجازات بدون راتب، وقواعد الترقي، والأمور الخاصة بالنقل، وكذلك ساعات العمل، والتفرغ لنيل درجة الماجستير والدكتوراه، كل ذلك من واقع استطلاعات الرأي التي أجرتها وسائل الإعلام مع أطباء مقيمين ومهاجرين، تبدو أسبابا رئيسة لهجرة الوطن.

لكن رغم ذلك فإن نقص الرواتب يبدو على قمة الأسباب التي تجعل الطبيب يتجه للعمل في الخارج. في الخلفية أن الحكومة لا تعير الطبيب اهتماما، لكونها لم ترصد له مخصصات مالية معتبرة كتلك التي ترصد للعاملين بدرجة مستشار أو خبير عامل في الوزارات المختلفة، وبعض هؤلاء من حملة المؤهلات العليا العادية، وقد تم تعيينه بالمجاملة من شباب صغار السن، وهؤلاء يفوق الراتب الشهري للواحد منهم الـ100 طبيب. واحد من مشكلات التعامل مع أزمة الرواتب في مصر هو هلامية الحدين الأدنى والأقصى للأجور، فالأول قد لا يطبق بالفعل على العامل في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص، والثاني قد يصل بالوزير في الحكومة إلى ما يفوق الـ200 ألف جنيه شهريا.

مقابل ذلك، فإن راتب الطبيب المصري المقيم حديث التخرج وفقا لنقابة الأطباء هو 6000-7000 جنيه أي ما يعادل 140 دولارا. المؤكد أن نظام التأمين الصحي يرفع الرواتب لتصل إلى 17 ألف جنيه شهريا، حسب هيئة التأمين الصحي، لكن نظام التأمين الصحي لا يخضع له اليوم سوى عدد قليل من الأطباء لعدم شموله جغرافيا.

في الماضي كانت الشكوى الرئيسة من عدم قيام الحكومة بتنفيذ الاستحقاق الدستوري لرفع موازنة الصحة كنسبة من الناتج القومي، اليوم يبدو أن موازنة 2023/2024، قد رفعت تلك النسبة لأكثر من الاستحقاق الدستوري، ببلوغها 496 مليار جنيه، بزيادة 77,4 مليار جنيه عن الاستحقاق الدستوري. لكن على ما يبدو ونتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة، فقد ابتلع التضخم تلك النسبة المرتفعة، ولم تعد كافية لسد رمق الطبيب، كما هي غير كافية لسد رمق الكثير من العاملين الكادحين في القطاعين الحكومي والخاص. إضافة إلى ذلك يظهر عدم وجود مردود لتلك الزيادة في رواتب الأطباء، لكون الزيادة المذكورة تتجه إلى أمور عديدة منها الدواء والعلاج على نفقة الدولة والخدمات الطبية المتعلقة ببناء وتأسيس المستشفيات والوحدات الصحية وغيرها.

مشكلات يجب سرعة حلها

في بلد واحد وهو المملكة العربية السعودية يتواجد 60 ألف طبيب مصري، وبباقي دول الخليج يوجد 10 آلاف طبيب مصري، وذلك حسب ما يذكر نقيب الأطباء في مصر. وفي بلد آخر وهو بريطانيا تُظهر الإحصاءات أن العمالة الطبية المصرية تأتي الثالثة في القطاع الطبي بعد كل من الهند وباكستان، وقد زادت تلك العمالة خلال الفترة من 2017 إلى 2021 بمعدل 200%. هذه الأمثلة تُظهر مدى ضرورة تدخل الدولة في حل مشكلة رواتب الأطباء، التي باتت مؤثرة بشكل بالغ على كفاءة الخدمة الطبية المقدمة، خاصة وأن بلدانا لا تختلف كثيرا عن مصر قد قفزت في المجال الطبي بشكل كبير؛ بسبب التعليم الطبي والرواتب المجزية، خذ على سبيل المثال الأردن، ونصيب الفرد من الناتج الإجمالي بها 4400 دولار سنويا، وهو ما يقترب من الحالة المصرية التي هي 4089 دولارا، لكن الحد الأدنى لراتب الطبيب حديث التخرج في الأردن هو 850 دينارا شهريا أي نحو 1200 دولار!! من هنا لا سبيل إلا بإعادة رسم أولويات التنمية، ودراسة هذا الأمر بشكل علمي ومتزن، لأن إغفال دراسات الجدوى التنموية وغيرها، سببت بلاء كبيرا، لن ينتهي إلا بالعودة للاستثمار في البشر لا الحجر.