بقلم: محمد جمعة آلا
كاتب وباحث سياسي سوري
هذا التساؤل بات لدينا شكوكياً يحمل معه دائماً أجوبة خجولة أو تدخل في باب عدم التيقن، والسبب أن تحليلاتنا للسياسات الدولية والأمريكية خاصة، تتم داخل السياق الاقتصادي بمعنى أن أدواتنا السياسية دائماً ما تتأثر بطغيان الحركة المادية للدول. وبالعموم فإن هذه الذهنية كانت منتشرة خلال القرون الفائتة وبالتحديد من القرن الثامن عشر إلى حدود القرن العشرين، فكنا نرى مفهوم المصالح الدولية بعين المتتبع الاقتصادي وهذا لا يعني عدم جدوى هذا التحليل، لكن هذا السياق لم يعد كافياً لشرح الجدل القائم في منظومة السياسات الدولية. إن هذا النمط من التفكير قدمه وأرّخه الفيلسوف الألماني “كارل ماركس”، حيث عدّ جميع البنى المتوفرة ضمن واقعٍ ما خاضعة للبنية التحتية، والتي سمّاها البنية المادية، وبالتالي فتحليل المصالح الاقتصادية للدول كما يدعي ماركس يعطيك نتيجة حتمية لمعرفتك بسياسات تلك الدول، ونحن في هذه الحالة نقع ضحية زيف الحتمية. وراهننا السياسي لا يزال يعوّل على جدوى هذا السياق، ويبدو لنا شبح ماركس ملتصقاً بعقولنا السياسية، ولا نستطيع أن نفلت من قبضته، وفي النهاية ومع هذا الزيف نصطدم بواقع مغاير، تبدو أدواتنا السياسية هزيلة، تنتهي بالفشل.
تعوّل الولايات المتحدة كثيراً على هذه العقلية التي نملكها وتمارس سياساتها من خلف هذا القصور الذي يتملكنا أي قصور الرؤية السياسية. يقدم لنا ترامب أفضل نموذج للسياسات الأمريكية الجديدة، فهو يطرح نفسه، باعتباره رجلاً مادياً نفعياً، لا يهمه سوى المصالح الاقتصادية أي باعتباره الابن البار للفلسفة الأمريكية النفعية ميل- بنتام “كل شيء بمقدار ما ينفعنا” فتتحول اللوحة الأخلاقية “الجيد- السيئ” إلى صيغة نفعية “نافع- غير نافع”. لكن في الحقيقة هي أن الترامبية تقدم لنا هذه السياسات على المستوى الإعلامي لتكوين رأي عام مغلوط، يزيحنا عن رؤية الواقع الفعلي الذي يُظهر نفسه بطريقة مختلفة. في هذا السياق يُفرّق الفيلسوف الفرنسي جاك لاكان متأثراً بالألماني كانط بين نوعين من إدراك الحقيقة الأولى، هو إدراك الواقعي والثانية إدراك الفعلي، فيدعي لاكان إن الواقعي لا يقدم لنا دائماً الصورة الصحيحة للشيء “الحقيقة” وهدف هذا الواقعي هو إنشاء تشويش على رؤيتنا للفعل، فقد نعتقد أن ما يهم سياسات الولايات المتحدة هي مصالحها الاقتصادية، وهو ما يحدث في الواقع لكن إنشاء هذا الاعتقاد، إنما الهدف منه نقل العملية الإدراكية وإزاحته عن الفعل الذي يقدم الحقيقة، والذي يُمارس بطريقة خفية خلف هذا الواقع “أي تقديم الواقع السياسي، كما يُراد لنا، وليس كما في ذاته”. ومن ثم فإن السؤال متى تخرج أمريكا من الشمال السوري، يصطدم بفقر مساحات أدواتنا السياسية المرتبطة دائماً بالرؤى المادية هذه المساحات التي تُعد بالنسبة للآخر منطقة عملياتها واعتماداً على سطحية عقولنا يُنشئ لنا الآخر نوعاً من “الكاووس- الفوضى” اللايقينية. تتعامل أمريكا مع متحالفيها السياسيين والعسكريين بمنطق اللا يقين المتعمد، والمعتمد على هذا الجدل المادي لعقولنا السياسية، بالنتيجة فإن كل تفكير للمعطيات السياسية داخل السياقات الاقتصادية هو تفكير مات وعفى عنه الزمن منذ عقود، وما نحتاج إليه هو إعادة ضبط أو تنقيح مفاتيح السياسة لدينا.
يساعدنا أوجلان، ويمدنا بإحدى أهم الأفكار السياسية لتحليل الواقع المُعاش، وهو ينطلق لبناء تحليله مما يسمى بـ”الريادة الأيديولوجية للدول”، وهو قريب من مفهوم هيجل عن “روح الشعب” يطرح أوجلان هذه الفكرة كبديل وكانتقاد لأدوات تحليلنا السياسية الواقعة تحت طغيان الجدل المادي، والتي لم ننفك منها. المقصود بهذه العبارة أن الدول العظمى لا تمارس سياساتها مع الآخر في الوقت الراهن حسب مصالحها الاقتصادية، وإنما حسب قدرتها في المحافظة على ريادتها الأيديولوجية، وبالتالي فإن السؤال هل تخرج أمريكا من الشمال السوري غير مرتبط بمدى ما ستكتسبه من منافع اقتصادية أي إنها لا تقع تحت مفهوم الجدل المادي، وإنما بمدى الريادة الأيديولوجية، وهذه الريادة التي لا تتحقق إلا من خلال الفكر، وهنا يستدعي أوجلان الفيلسوف الألماني هيجل بطريقة نشطة فريادة الدول لا تتحقق إلا من خلال العامل الذهني، وما تريده أمريكا ليس تحقيق المصالح الاقتصادية، وإنما الاستمرارية في الريادة الأيديولوجية، وبالتالي يبدو لنا أن ترامب يخون فلسفة آبائه الأمريكيين لصالح الانتماء للجدل الهيجلي، فمقولة “أمريكا أولاً” إنما تختصر ذاك المعنى.
سيصبح التساؤل مبنياً على الشكل التالي، هل تنسحب أمريكا من الشمال السوري وتتنازل عن ريادتها الأيديولوجية للعالم؟
يبدو أن أمريكا مع ترامب تريد أن تضاعف من هذه الريادة، ولكن بطرق مغايرة وكل نقاشٍ حول الانسحاب الأمريكي يدخل تحت باب الثرثرة والقصور السياسي، فالولايات المتحدة لن تترك هذه الريادة لصالح قِوى أخرى، بل ستسعى إلى أن تثبّت ذلك باعتبارها زعيمة العالم الجديد، وهذا الانسحاب لن يُطرح إلا في حالة تغيير نظام الأقطاب، والتي تسعى إلى استحداثها “نظام الأقطاب اللامركزية” في هذه الحالة فقط، ستنسحب أمريكا من الشمال السوري لصالح إنشاء قطب أيديولوجي جديد في الشرق الأوسط، وهو القطب الإسرائيلي وستسلّم أمريكا مفاتيح الشرق لحليفتها الإسرائيليين، ولكن ليس بذات الكيفية التي تخلت فيها بريطانيا عن حكم الشرق لصالح الولايات المتحدة الأمريكية عشية الحرب العالمية الثانية، وإنما الهدف هو إنشاء نظام دولي جديد ينقذ الرأسمالية من أزمتها والتي يمكن تسميته “الرأسمالية الإنقاذية”.