شهد عام 2024، وما مضى من هذا العام استخدام استراتيجيات متنوعة لمواجهة الجماعات المسلحة غير الحكومية في الشرق الأوسط. واجهت بعض الجماعات، مثل “محور المقاومة”، إجراءات تهدف إلى إضعاف قدراتها -خاصة العسكرية. في المقابل، كانت هناك حالات دعم حكومي محتمل لبعض الجماعات المسلحة، كما هو الحال في سوريا بعد الأسد، وجهود لدمج جماعات أخرى في هياكل الدولة- كما يجري مع قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وجهود للمصالحة مع الدولة عن طريق حل جناحها العسكري مع قبول لاندماجها في العملية السياسية كحزب شرعي- كما يجري مع حزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا.

“محور المقاومة” الذي يضم جماعات مثل حزب الله والحوثيين وجماعات المقاومة الفلسطينية شهد انتكاسات كبيرة في عام 2024. كان هذا العام مدمرا لهذه الشبكة، فقد أدى إلى إضعاف موقفهم العام. أما حماس، فمن المرجح أن تخرج من الصراع الدائر منذ أواخر ٢٠٢٣ حتى الآن بقدرات عسكرية ضعيفة إلى حد كبير؛ بسبب العدوان العسكري الإسرائيلي. وتضمن التحول في السياسة الأمريكية تجاه الحوثيين الانتقال من الضربات المستهدفة إلى حملة أوسع وأكثر عدوانية؛ تهدف إلى تعطيل قدراتهم بشكل نشط، بما في ذلك استهداف قيادتهم السياسية إلى جانب الأصول العسكرية، وهذا يشير إلى وجود محاولة لإضعاف الحوثيين إلى ما هو أبعد من مجرد احتوائهم.

وافقت الولايات المتحدة على تمويل القوات المسلحة اللبنانية لتعزيز قدرتها على مواجهة التهديدات من حزب الله. ورغم أن تعزيز القوات المسلحة اللبنانية لا يشكل مواجهة مباشرة مع حزب الله، فإنه يمثل وسيلة غير مباشرة لإدارة نفوذ جهة فاعلة غير حكومية قوية داخل لبنان من خلال تعزيز قدرة الدولة.

في سوريا، يسلط الوضع الضوء على مشهد معقد، حيث لعب “المسلحون الموالون للحكومة” دورًا في إسقاط نظام الأسد، وبات مطلوبا أن يحلوا أنفسهم ليتم دمجهم في مؤسستي الأمن والدفاع في سوريا الجديدة. علاوة على ذلك، كان الهدف من الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة في مارس/ آذار 2025 هو دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد في الجيش السوري الجديد. هذه الخطوة، وإن كانت تهدف إلى استقرار سوريا، ومنع إعادة ترسيخ النفوذ الإيراني، إلا أنها تُشير أيضًا إلى شكل من أشكال التكامل بين الدولة مع جماعة مسلحة، ومع ذلك، ظلت تفاصيل هذا التكامل ومدى الحكم الذاتي الكردي موضع تفاوض.

وفي ٢٧ فبراير/ شباط ٢٠٢٥، أعلن عبد الله أوجلان- زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المسجون دعوته لحل الحزب. وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الدعوة، بأنها “فرصة لاتخاذ خطوة تاريخية نحو هدم جدار الإرهاب”، وفي ٣ مارس/ آذار أعلن حزب العمال الكردستاني عن وقف إطلاق النار استجابة لدعوة زعيمه.

هذه التطورات التي يمكن أن نضم إليها تجميد الصراع في ليبيا، والتعامل مع الجماعات المسلحة الشيعية في العراق يعكس تطلع الولايات المتحدة وشركائها في الاتحاد الأوروبي والمنطقة نحو شرق أوسط بلا جماعات مسلحة، أو على أقل تقدير يختفي فيه أكثرها.

يبدو أن الولايات المتحدة وشركاءها يهدفون على الأرجح إلى شرق أوسط، يتقلص فيه نفوذ بعض الجماعات المسلحة غير الحكومية وأفعالها المزعزعة للاستقرار بشكل كبير.

الهدف الاستراتيجي من ذلك هو: تهيئة الشرق الأوسط ليكون معبرا وممرا لخطوط التجارة العالمية، بما يتطلبه ذلك من تطبيع العلاقات السياسية بين دوله المختلفة، والقدرة على دمج بعض دول المنطقة – بما فيها إسرائيل- في مشاريع للتكامل الإقليمي.

تتجلى أهمية الوضع الحالي لمشروع ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) في جوانب متعددة. ويكشف عن عدة جوانب مهمة حول المنطقة والتجارة العالمية. لم يُصوَّر مشروع IMEC كطريق تجاري فحسب، بل كوسيلة لتعزيز الاستقرار الإقليمي وتطبيع العلاقات السياسية، لا سيما من خلال ربط الهند بأوروبا وأمريكا عبر الخليج العربي والأردن وإسرائيل. ويُعد وضعه الحالي، المتأثر بشكل كبير بالحرب على غزة والصراعات الإقليمية المرتبطة بها، مؤشرًا واضحًا على حالة عدم الاستقرار العميقة التي لا تزال تعوق مشاريع التكامل الطموحة هذه. إن حقيقة أن بناء البنية التحتية اللازمة، وخاصة بين إسرائيل والأردن، يُعتبر الآن أمراً غير محتمل إلى حد كبير على المدى القصير، تؤكد التأثير الضار للصراعات المستمرة على التعاون الإقليمي الأوسع.

يرتبط مستقبل طرق التجارة المقترحة وممرات الطاقة في الشرق الأوسط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل الجماعات المسلحة. ويمكن أن يُسهم نجاح هذه الطرق في تهيئة بيئة أكثر استقرارًا وازدهارًا اقتصاديًا، مما قد يُقلل بمرور الوقت من نفوذ الجماعات المسلحة. ومع ذلك، يُشكل عدم الاستقرار الذي تُسببه هذه الجماعات حاليًا تهديدًا كبيرًا لتحقيق هذه المشاريع وأمنها. لذلك، من المرجح أن تتطلب الجهود المبذولة لإنشاء هذه الطرق التجارية والحفاظ عليها معالجة نفوذ الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية في المنطقة، ويمكن للديناميكيات المحيطة بهذه الطرق، بدورها، أن تُشكل المسار المستقبلي لهذه الجماعات.

هذا الهدف الاستراتيجي للرأسمالية الأمريكية، يعني أيضا بعدين متكاملين: مواجهة ممر الحزام والطريق الذي تدعمه الصين، والتفرغ لمواجهة الصين بالانسحاب من الشرق الأوسط المستقر. هذا الهدف يتطلب خمس عمليات متكاملة من الولايات المتحدة وشركائها:

١- مواجهة التهديدات المتصورة: تنظر الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى بعض الجماعات المسلحة غير الحكومية، باعتبارها تهديدات مباشرة لمصالحها والاستقرار الإقليمي وأمن شركائها، وخاصة إسرائيل. اتخذت الولايات المتحدة إجراءات عسكرية ضد الحوثيين؛ بسبب هجماتهم على إسرائيل وعلى الشحن التجاري في البحر الأحمر.. إن القلق المحيط بـ”محور المقاومة”، الذي يضم جماعات مثل حزب الله والحوثيين، يشير أيضًا إلى الرغبة في الحد من قوتهم ونفوذهم.

٢- تعزيز الاستقرار الإقليمي: تم تحديد النشاط المستمر للجماعات المسلحة كعامل رئيسي، يعوق الاستقرار الدائم في الشرق الأوسط. تفضل الولايات المتحدة وشركاؤها عمومًا منطقة مستقرة، لا تسبب صراعات واسعة النطاق أو أزمات إنسانية أو اضطرابات في التجارة العالمية أو هجرات غير شرعية.

٣- تأمين طرق التجارة: إن ضمان الأمن وحرية الملاحة العالمية يمثل مصلحة أساسية للولايات المتحدة وشركائها؛ نظرًا للتداعيات الاقتصادية العالمية.

٤- دعم سلطة الدولة: إن صعود ونفوذ الجماعات المسلحة غير الحكومية القوية يمكن أن يشكل تحديًا لسلطة وشرعية الجهات الفاعلة في الدولة. تدعم الولايات المتحدة وشركاؤها عمومًا تعزيز مؤسسات الدولة وقدرتها على حفظ النظام والأمن داخل حدودها. وتُبذل جهود لدمج القوات الكردية في الجيش السوري. ويمكن النظر إلى هذا الأمر في ضوء هدفه المتمثل في استقرار الحكومة السورية الجديدة.

٥- مكافحة التطرف: تتبنى بعض الجماعات المسلحة غير الحكومية أيديولوجيات متطرفة، وتنخرط في أنشطة إرهابية. تُعدّ مكافحة هذه الجماعات أولوية مُعلنة للولايات المتحدة والعديد من شركائها في مكافحة الإرهاب. تقارب الحكومة السورية مع قسد أحد أهدافه هو مواجهة داعش.

لكن على الرغم من هذه العمليات المتكاملة؛ إلا أن المؤشرات تظهر أن من المرجح أن تستمر الجماعات المسلحة في لعب دور مهم في الشرق الأوسط، على الرغم من أن مستقبلها قد ينطوي على تحولات وتغيرات.

“محور المقاومة” على الرغم من مروره بصعوبات وجودية تتعلق بمستقبله، إلا أن هذه الشبكة لا تزال تحتفظ بالقوة الاقتصادية والسياسية، والقوة النارية الكبيرة، فضلاً عن آلاف المقاتلين. يزعم تقرير حديث صادر من أيام عن مؤسسة سينشري، أن المحللين تسرعوا في نعي جماعات هذا المحور، لأنها تتمتع: “بقوة محلية كبيرة، ومرونة كشبكة لامركزية” و “قد تعود بقوة، وإن كان ذلك في أشكال جديدة” ويشير هذا إلى أنه حتى المجموعات التي واجهت انتكاسات من المتوقع أن تظل ذات أهمية، وربما تظهر مرة أخرى بأشكال مختلفة.

يُسلّط الوضع في سوريا الضوء أيضًا على استمرار وجود جماعات مسلحة مختلفة. بعد سقوط نظام الأسد، تواجه البلاد “مزيجًا هشًا من الأمل والخوف، والفرصة والخطر”، حيث يلعب كلٌّ من الميليشيات السنية السابقة والجهاديين وبقايا النظام دورًا في هذا. إن أعمال العنف الطائفية الأخيرة التي تورط فيها ” مسلحون موالون للحكومة ” والحملة العسكرية التي شنتها الحكومة الجديدة على أنصار نظام الأسد، تُظهر استمرار نشاط الفصائل المسلحة وهشاشة السلم الأهلي. تشير هذه الأحداث إلى أن مستقبل سوريا، وربما أجزاء أخرى من الشرق الأوسط، سوف ينطوي على التعامل مع التفاعلات والصراعات المعقدة بين هذه الجماعات المسلحة.

وعلاوة على ذلك، فإن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي تجسده الإبادة الجماعية من قبل الجيش الإسرائيلي في غزة، يسلط الضوء على الدور الدائم للجهات المسلحة وإمكانية التصعيد. وفي حين أن جماعات مثل حماس قد تخرج من حرب غزة بقدرات عسكرية ضعيفة إلى حد كبير، فإنها لا تزال قادرة على الاحتفاظ ببعض الدعم الشعبي، وخاصة إذا لم تتم معالجة المظالم الأساسية للشعب الفلسطيني. كما يمكن أن تؤدي الأزمة الإنسانية إلى خلق بيئة مواتية للتطرف والتجنيد من قبل الجماعات المسلحة المختلفة.

أما المصالحة بين الأكراد في سوريا وتركيا مع دولتيهما؛ فلا يزال أمامها شوط بعيد حتى تظهر ملامحها. بشكل عام يمكن وصف الوضع الحالي بين حزب العمال الكردستاني (PKK) والدولة التركية، بأنه فترة من الترقب الحذر بعد خطوة مهمة من أوجلان، ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه المرة التي سبقتها محاولات سابقة ستشهد نهاية حقيقية لعقود من الصراع. أما أكراد سوريا فأمامهم شوط طويل من التفاوض حول أوضاعهم الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية في سوريا الجديدة.

وفي الختام، ورغم أن الجماعات المسلحة غير الحكومية قد تضعف أو تتحول بمرور الوقت، فإن الظروف والديناميكيات الأساسية في الشرق الأوسط، تشير إلى أن هذه الجماعات من المرجح أن تظل جهات فاعلة مهمة، تشكل أمن المنطقة واستقرارها في المستقبل المنظور.

إن القضية الفلسطينية العالقة، والتنافسات الجيو سياسية والجيو اقتصادية، وغياب القيادة الإقليمية الفعالة، ووسطاء السلام المتعددين، والمشهد السياسي المعقد، والصراعات المستمرة داخل كل بلد، ومرونة هذه الجماعات كشبكات لامركزية وقدرتها على التكيف.. إلخ تجعل احتمال وجود بيئة خالية تمامًا من الميليشيات غير الحكومية أمرًا مستبعدًا للغاية.