بدأت ملامح سياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إفريقيا تتضح بشكل كبير بعد أسابيع من بدئه مهامه؛ ومن أهم هذه الملامح ممارسة ضغوط اقتصادية مباغتة، وتضمين سياسة الازدراء التي طالما عبر عنها ترامب تجاه القادة الأفارقة، عمليًا في مقاربته الإفريقية، وخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع عدد من الدول الإفريقية، التي لا تلتزم كلية بالطموحات والمطالب الأمريكية، وكذلك، وهو المظهر الأهم مرحليًا، الدفع بأوراق القوى الإقليمية التي تصطف خلف سياسات واشنطن للقيام بأدوار أكبر في إفريقيا، والمساهمة في أعباء هذه السياسات، وتمويلها بالكامل في بعض الحالات (كما في حالة جنوب السودان على سبيل المثال). ويتضح المظهر الأخير في مقاربة واشنطن نحو إقليم أرض الصومال، المطالب بالاستقلال عن جمهورية الصومال الفيدرالية، والذي تسعى إدارته لنيل اعتراف دولي بهذا الاستقلال، ربما تمثل الولايات المتحدة بوابته الملكية.

واشنطن وهرجيسا: تفاهمات ومشروطيات

يتطلع مواطنو إقليم أرض الصومال منذ عقود لنيل اعتراف دولي باستقلال “دولتهم”؛ وقد حظي هذا التطلع بزخم جديد منذ وصول ترامب لقيادة الولايات المتحدة (في ولايته الثانية بداية من يناير 2025)، وتجلى ذلك في عدة مناسبات مثل الحديث عن الإقليم كوجهة محتملة لتهجير مواطني قطاع غزة إليه، مقابل اعتراف أمريكي وإسرائيلي بدولة “جمهورية صوماليلاند“، ثم ما تردد عن عزم إسرائيل التمركز في الإقليم في سياق ضربة محتملة لإيران (بدعم مباشر من واشنطن والإمارات التي تملك تاريخًا من النفوذ في الإقليم ودول جوار الصومال)، وأخيرًا ما تردد في وسائل إعلام أمريكية مهمة (كما في تقارير مكثفة في جريدة النيويورك تايمز في إبريل الجاري) عن وجود صفقة يتم بمقتضاها حصول الولايات المتحدة على قواعد عسكرية بحرية في “الإقليم”، مقابل منحه اعترافًا أمريكيًا بالاستقلال؛ وهي الصفقة التي أثارت مخاوف أغلب المراقبين للشأن الإفريقي لما ستثيره من اضطرابات في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وكذلك تهديد مباشر لمصالح حلفاء مقربين للولايات المتحدة مثل تركيا ومصر ومجمل توجهات الاتحاد الإفريقي، إضافة إلى إرساء الصفقة (حال جديتها وتحققها) لسابقة للحركات الانفصالية في أرجاء القارة.

وجاءت تصريحات لمسئولين بالإقليم (نقلتها النيويورك تايمز) لتعزز وجود مثل هذا السيناريو، وكان مفادها: أن الإقليم يوفر موقعًا حصريًا وأقل ازدحامًا “a less congested option” لوجود عسكري أمريكي لمراقبة الممر المائي (المار بخليج عدن والبحر الأحمر) والقيام بضربات محتملة ضد الحوثيين في اليمن. لا سيما أن القاعدة المحتملة تملك مهبطًا للطائرات بطول 2.6 ميل، وهو واحد من أطول مهابط الطائرات في القارة الإفريقية (وهو موروث من عهد المساعدات السوفيتية للصومال في سبعينيات القرن الماضي).

كما يبدو التقارب بين واشنطن وإقليم ارض الصومال منطقيًا في الوقت الراهن، مع سعي الأولى إحداث تغيرات حادة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر لصالح أهدافها بغض النظر عن عواقب هذه التغيرات في الإقليم ككل، وداخل دوله. ووصل هذا التقارب لمستويات غير مسبوقة بعد تولي إدارة ترامب، التي تضم كثيرا من المسئولين المدافعين عن فكرة الاعتراف بأرض الصومال (دولة مستقلة)، كما تتوفر لدى الأخير– حسب مراقبين أمريكيين- القدرة على بناء قواعد للدعم مع أعضاء من الحزب الجمهوري بالولايات المتحدة ومؤسسات السياسة الأمريكية المحافظة المقربة من الرئيس (لاسيما مع سابقة دعم إدارة ترامب الأولى ومجلس الأمن القومي بها لخطوة تايوان بالاعتراف بأرض الصومال (في يوليو 2020)، وقرار الرئيس سحب القوات الأمريكية من الصومال، وهو ما اعتبره مسئولون بأرض الصومال وقتها “تحولًا هامًا نحو مفهوم جديد عن الصومال في واشنطن”، يناقض من بعض الأوجه مبدأ ترامب الخاص “بصومال واحد”.  

ومع علامات التقارب الأمريكي مع أرض الصومال، وتداعيات ذلك على علاقات واشنطن ومقديشو، يجمع دبلوماسيون ومحللون أمريكيون على وجوب مضي واشنطن في هذا المسار؛ وبشكل مباشر دعم تايوان وأرض الصومال كركيزة للعمل الأمريكي الجديد في القرن الإفريقي. واقترح معنيون بإنجاز هذا التقارب بوجوب إنشاء الولايات المتحدة مكتبًا للتمثيل الدبلوماسي او معهدًا أمريكيًا في هرجيسا على غرار مثيله في تايبيه. كما اقترح هؤلاء تشجيع الولايات المتحدة تايوان على تقديم دعم سياسي وتقني لأرض الصومال، لا سيما في مجال الكشف عن البترول والموارد المعدنية في الإقليم. وتلتقي هذه الدعوات مع سياسات ترامب المعلنة والرامية لمزيد من استنزاف موارد الدول الإفريقية، وفرض مزيد من المشروطيات الأمريكية المفروضة على هذه الدول، إما لحمايتها من تهديدات متفاقمة، أو عدم سحب غطاء الدعم السياسي الأمريكي عنها (كما في حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية)، أو تفادي ضغوط من الدول الشريكة للولايات المتحدة في القارة.       

هرجيسا ومأزق العلاقات بين واشنطن ومقديشو

حاولت مقديشو نهاية مارس الماضي تدارك تهديدات التقارب بين الولايات المتحدة وإقليم أرض الصومال، وجاءت المحاولة في شكل عرض يتم إعداده للولايات المتحدة لمنحها “سيطرة على قواعد جوية ومواني استراتيجية داخل الصومال” حسب خطاب أرسله الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود للرئيس الأمريكي دونالد ترامب  (مؤرخ في 16 مارس، وكُشف عنه لاحقًا). وشمل العرض قواعد جوية في بربرة (داخل إقليم أرض الصومال) وباليدوجل، وقواعد بحرية في مينائي بربرة وبوصاصو. وسيقود ذلك، حسب نص الخطاب، إلى توفير فرصة “لتقوية الانخراط الأمريكي في الإقليم، وضمان وصول عسكري ولوجيتسي مستدام، فيما يحول دون تأسيس منافسين خارجيين (لواشنطن، في إشارة صريحة للصين) لوجود (عسكري أو لوجيستي) في هذا الممر الحيوي”.

ويمثل عرض مقديشو ضربة متعددة الأهداف في واقع الأمر؛ إذ سيعني ذلك توفير قواعد عسكرية لازمة للولايات المتحدة بشكل مباشر عبر مقديشو، بدلًا من هرجيسا، وحرمان الأخيرة من استغلال حاجة الولايات المتحدة لهذه القواعد ونيل اعترافًا ثمينًا منها باستقلال الإقليم؛ وحصول مقديشو على أوراق إضافية تعزز سياسة “صومال واحد” الأمريكية على الأرض.

وفي المقابل، فإن واشنطن ستكون المستفيد الكبر من هذا الوضع المعقد بين حكومة الصومال الفيدرالية وحكومة أرض الصومال: إذ بات في حكم المحسوم حصول واشنطن على قواعد بحرية وجوية بالغة الأهمية، تطل على خليج عدن ومدخل البحر الأحمر الجنوبي سواء من قبل هرجيسا أم من قبل الصومال نفسه؛ وأن واشنطن لديها قدرة تفاوضية أكبر في احتواء مواقف الصومال وأرض الصومال دون حسم خيارات واشنطن بشكل دقيق لأبعد مدى ممكن: بمعنى الاستفادة من عروض القواعد العسكرية في الصومال دون تقديم واشنطن اعترافًا كاملًا باستقلال أرض الصومال، وكذلك دون قطع الطريق على مسار التقارب مع إقليم أرض الصومال.

كما يتوقع أن تكون هرجيسا الطرف الخاسر حال تمكن مقديشو من إقناع واشنطن بالحصول على عرضها المشار له، وضمان تقديم واشنطن مواقف أكثر وضوحًا وفق سياسة “صومال واحد”، والبناء على صومال مستقر لصالح خدمة مجمل أهداف واشنطن في القرن الإفريقي وأطراف الشرق الأوسط.        

واشنطن وورقة الإمارات في القرن الإفريقي

وبقراءة خريطة تمدد أنشطة الشركة في القارة الإفريقية، يلاحظ ارتباط توسعها الاقتصادي عبر عمليات الاستحواذ في قطاع اللوجيستيات وسلاسل الإمداد برغبة أبوظبي الواضحة في امتلاك مواطئ قدم عسكرية في مختلف أرجاء القارة، وهو ما يثير تساؤلات حول طبيعة دور الإمارات العسكري في القارة في ضوء ضآلة القوات المسلحة الإماراتية وترجيح أن يكون هذا الدور واجهة لقوى إقليمية أخرى، وعاملًا مؤثرًا في تبديل خريطة التوازنات الإقليمية بين الدول الإفريقية نفسها.

وثمة مثال محدد للغاية على خطورة دور شركة مواني دبي، وتعهيدها لأدوار قوى إقليمية في القارة، جاء في إعلان الحكومة الهندية، بالشراكة مع الشركة الإماراتية (11 الجاري)، إطلاقهما مبادرة تجارية ضخمة لمضاعفة تجارة الهند وإفريقيا وتقوية “تعاون الجنوب- الجنوب”؛ وتقوم المبادرة، التي حملت عنوان Bharat Africa Setu، على ربط المواني التي تديرها الشركة الإماراتية، وكذا المناطق الصناعية والمناطق اللوجيستية في نحو 53 دولة إفريقية، بحركة الصادرات الهندية للقارة عبر ما وصفه بيان وزارة التجارة والصناعة الهندية “260 ألف نقطة بيع (في إفريقيا) في نظام بيئي تجاري متكامل تمامًا”. ويشمل التعاون توفير مواني دبي خدماتها في 10 مواني إفريقية، وثلاث مناطق صناعية، وأكثر من مائتي مخزن كبير في أرجاء القارة للصادرات الهندية؛ مما سيعني تصعيدًا صينيًا مقابلًا للدفاع عن مناطق نفوذها في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، ويلحق ربما أضرارًا كبيرة بهذه الدول.

ويشي هذا النشاط الإماراتي- الهندي في شرق إفريقيا، والذي لا يمكن فصله عن مجمل سياسات واشنطن الإفريقية، وربطها بمشروعات دولية أبرزها طريق الهند- الشرق الأوسط- أوروبا، بوجود خطوات على الأرض إعادة بناء نظام أمني محكم بقيادة الولايات المتحدة في القارة الإفريقية، ويقوم بالأساس على توظيف فاعلين إقليميين (في مقدمتهم الإمارات والهند بقدراتهما المالية والعسكرية الضخمة). وإذا أخذنا في الاعتبار صلة الإمارات القوية بإقليم أرض الصومال، وطرح أبوظبي السابق لما يعرف بممر أديس أبابا- بربرة لتميرير التجارة الإثيوبية في طريق سريع داخل إقليم أرض الصومال (وبشروط سيادية تنتقص من سيادة الصومال على أراضيه لصالح إثيوبيا والإمارات ممثلة في شركة مواني دبي العالمية) فإنه يمكن بكل ثقة وضع سياسة لولايات المتحدة التقاربية مع إقليم ارض الصومال ضمن ترتيبات إعادة بناء النظام الأمني في القرن الإفريقي.