مع دخول الحرب السودانية عامها الثالث، وتفاقم الأزمات الإنسانية والسياسية، لم تعد تداعياتها محصورة داخل الحدود، بل تجاوزت السودان نحو الإقليم والعالم، مما يستوجب وقفة عميقة؛ للتأمل في جذور هذه الحرب ومصادر استمرارها. فداخلياً، تواصل حالة الاستقطاب الحاد بين مختلف القوى السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مهددةً بتكرار سيناريوهات الانقسام التي شهدها السودان سابقاً، وأبرزها انفصال الجنوب. أما خارجياً، فتتباين الرؤى الإقليمية والدولية حول سبل الحل، كما ظهر جلياً في مؤتمر لندن الأخير، مما يزيد من تعقيد الأزمة.
إن هذه المقدمة الموجزة تختزل المشهد السوداني الراهن، حيث يقف المواطن السوداني، رغم كونه الأكثر تضرراً، كحامل محتمل لمفاتيح الحل، باعتبار أن جذور الأزمة نابعة من الداخل، ولن تُحل إلا من خلاله. في هذا التقرير نسلّط الضوء على قضية التنوع العرقي والقبلي، باعتبارها واحدة من أبرز العوامل التي أُسيء توظيفها، فتحولت من مصدر غنى إلى وقود يغذي نار الحرب ويعمّق الانقسام.
ما قبل الحرب– التنوع بوصفه فرصة ضائعة
لطالما عُرف السودان تاريخياً، بأنه نقطة التقاء لهجرات بشرية من محيطه العربي والإفريقي، ما جعله موطناً لتنوّع استثنائي في القبائل، واللغات، والديانات، والثقافات. غير أن غياب مشروع وطني جامع يُعلي من شأن المواطنة والمساواة، ويحتفي بهذا التنوع بوصفه رصيداً استراتيجياً، فتح الباب لتوظيف هذا التنوع في مشاريع خارجية وداخلية مشبوهة، ساهمت في إضعاف اللحمة الوطنية، وأدت إلى هشاشة مؤسسات الدولة.
لقد اُستُغل هذا التنوع العرقي والقبلي سلباً، مما ساهم في تأجيج النزاعات المسلحة منذ الاستقلال. فقد شهدت دار فور مثلاً بروز ميليشيات قبلية متقابلة: قوات الدعم السريع التي تمركزت على قبائل عربية مثل، الرزيقات والمسيرية والعطاوة، في مقابل الحركات المسلحة ذات التكوين الإفريقي من الزغاوة والفور وغيرهم. كذلك، ظهرت قوات الحركة الشعبية في جنوب كردفان والنيل الأزرق، بتكوين قبلي يغلب عليه النوبة والأنقسنا والفلاتة. وقد أُزهقت في هذه الحروب أرواح آلاف الشباب، وضيعت على السودان فرصاً للتنمية والاستقرار أسوة ببقية دول العالم.
الحرب الحالية– التمليش القبلي وتهديد كيان الدولة
فاقمت حرب 15 إبريل من حجم المأساة، إذ أفرزت موجة جديدة من التمليش القبلي المسلح في مختلف أرجاء البلاد، فظهرت إلى جانب الميليشيات القديمة، تشكيلات جديدة مثل “درع السودان” التي تنتمي إلى قبائل الشكرية، وقوات مؤتمر البجا والجبهة الشعبية وقوات تحرير شرق السودان المنتمية لقبائل الهدندوة والبجا والحباب متخذة من إريتريا قاعدة لها، فضلًا عن دعوات انفصالية متجددة في وسط البلاد تحت شعارات مثل “دولة النهر والبحر” متخذة من عبد الرحمن عمسيب قائدا لها.
تسعى هذه المجموعات المسلحة إلى فرض أجندات خاصة بها، تستند في الغالب إلى مظالم تاريخية حقيقية، لكنها توظف في سياق، يهدد بتفكك السودان إلى دويلات متناحرة. وإلى جانب الميليشيات القبلية، بالإضافة تشكيلات سياسية مسلحة متجددة، تتبع لتنظيم الحركة الاسلامية مثل كتيبة البراء بن مالك الذي تحول قبل أيام لفيلق وكتيبة البرق الخاطف وغيرهم وجميعها تقاتل إلى جانب الجيش، وأخرى تلاشت بفعل انهيار مرجعياتها، مثل فيالق البعث.
إن التمليش القائم على الانتماء القبلي يمثل التهديد الأشد على وحدة الدولة السودانية. إذ عمدت هذه المجموعات إلى استغلال التهميش والفقر والإقصاء لاستقطاب الأفراد، مما زاد من إنهاك الدولة وجيشها الذي يقاتل بلا انقطاع منذ عام 1956.
وما تزال هناك قبائل ومكونات اجتماعية كبيرة لم تدخل بعد في أتون الحرب، مثل الجموعية والشنابلة والمجانين والرشايدة، غير أن المؤشرات تنذر بأن استمرار الحرب قد يدفع بهذه المجموعات نحو الدخول في الصراع، لا سيما مع تأثر مصالحها الاقتصادية والاجتماعية. ومع اعتماد الأطراف المتحاربة على القبيلة كسلاح تعبوي، فإن إدخال هذه المكونات في الصراع سيؤدي إلى تعميق الأزمة وتوسيع رقعتها، بما ينذر بانهيار شامل للكيان السوداني.
على الرغم من المحاولات المتكررة التي يبذلها بعض قادة الحركات المسلحة لإضفاء طابع القومية على قواتهم، إلا أن هذه المحاولات لا تعدو كونها محاولة للتغطية على الطابع الحقيقي لتكوين هذه المجموعات، والذي يستند في جوهره إلى دوافع جهوية ضيقة. بل إن الأمر يتجاوز ذلك ليأخذ منحى أكثر ضيقًا، حيث تُحصر المصالح ضمن إطار قبلي، بل أحيانًا تُختزل في مصالح أفراد بعينهم، مما يؤدي إلى تقزيم هذه الحركات وفقدانها لأي مشروع وطني جامع.
وقد تجلّى هذا الواقع في سلسلة الاتفاقيات التي أُبرمت في منابر متعددة مثل، الدوحة وجوبا ونيفاشا، والتي لم تسفر عن سلام حقيقي أو معالجة جذرية لمسببات النزاع. وينطبق ذات الوصف على بنية القوى السياسية المدنية، سواء التقليدية منها أو الحديثة، حيث ظل خطابها يعكس اهتمامات وتطلعات نخب المثقفين في العاصمة وبعض المناطق المحددة، دون أن يلامس قضايا الهامش واحتياجات الأطراف المهمّشة في البلاد.
ويرجع هذا القصور إلى طبيعة تكوين هذه القوى، من حيث خلفيات أعضائها ودوائر نفوذها، وهو ما بدا جليًا في أدبياتها السياسية وأولوياتها التي اقتصرت على مناطق بعينها، دون بناء مشروع وطني شامل يُعبر عن تطلعات كل السودانيين، في المركز والهامش على حد سواء .