لا يجب أن يؤخذ حديث ترامب عن مرور السفن الأمريكية مجانا من قناة السويس على إنه حديث عابر أو زلة لسان، إنما هو يعكس طريقة تفكيره في التعامل مع العديد من الملفات الداخلية والخارجية، وأيضا نظرته “كتاجر” لقضايا سياسية وتاريخية، ومع ذلك فإن ما يقوله ليس مقدسا، ولا يعني بالضرورة أنه قادر على تحقيقه.
تصريح ترامب بخصوص قناة السويس كان واضحا، حين قال: “يجب أن تمر السفن الأمريكية بحرية عبر قناتي بنما والسويس، فهاتان القناتان ما كان لهما أن توجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية، وإنه طلب من وزير الخارجية ماركو روبيو الإشراف على هذا الملف، بما يعني إنه يؤكد على متابعته وإصراره على متابعة الموضوع.
والحقيقة أن أهمية ما قاله ترامب، إنه يأتي في ظل توجه “ترامبي” عابر للقارات، قائم على إنه لا يوجد حليف له إلا من يدفع أو يشاركه صفقاته، وإن من يتصور في مصر، أن البلد ستكون في مأمن من شطحاته، إذا كانت مطيعة للتوجيهات الأمريكية، ولم تخرج عن حدودها مخطئ خطأ فادحا، لأن ترامب واجه حلفاءه الأوروبيين رغم قوتهم، ورغم أنهم يشاركونه نفس القيم وفرض تعريفة جمركية، لم تميز بين المنافسين أو الخصوم في روسيا والصين وبين الحلفاء الأوروبيين، فما بالنا ببلد عربي مثل مصر لا يُعتبر شعبه جزءا من القيم الغربية، وهناك نقاط خلاف بحكم الواقع والجغرافيا والتاريخ لا يمكن تجاهلها.
إن الموقع الجغرافي لمصر جعلها على حدود غزة، وهنا فإن توقيع اتفاقية كامب ديفيد منذ 1978، واعتبار الرئيس أنها نموذج يحتذى للسلام وحل الصراعات بالطرق السلمية، لم تحل دون طرح ترامب مشروع التهجير الذي يستهدف الأمن القومي المصري مباشرة ناهيك عن تصفية القضية الفلسطينية.
كما أن وجود معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل وتحالف استراتيجي مصري أمريكي، لم يحل دون أن يطالب ترامب بمرور السفن الأمريكية مجانا من قناة السويس، رغم أن من حفرها هم المصريون، ومن حارب من أجلها هو أيضا الشعب المصري.
إن قرار إنشاء قناة السويس كان في 30 نوفمبر 1854، حين منح محمد سعيد باشا، امتيازاً للفرنسي “فرديناند ديلسيبس” لتأسيس شركة قناة السويس برأس مال قدره 200 مليون فرنك (حوالي 8 ملايين جنيه مصري)، وبعد افتتاحها بعقود قرر الزعيم جمال عبد الناصر في ٦ يوليو ١٩٥٦ تأميم القناة، ونقل جميع أصولها للدولة المصرية، مع تعهده بتعويض المساهمين، وهو ما حدث بالفعل مع حلول الأول من يناير 1963، كانت مصر قد سددت، التعويضات، التي بلغت حوالي 28300000 جنيه بقيمة 800000 سهم بالعملة الصعبة، قبل تاريخ استحقاقها بسنة كاملة.
إن السيادة القانونية المصرية على القناة قاطعة لا تقبل اللبس، حتى بعد اتخاذ القرار التاريخي الذي غير خريطة العالم بتأميم قناة السويس، لأن التعويضات التي كان يمكن أن تكون محل نزاع قانوني سددتها مصر بالكامل.
أما بالنسبة للجانب السياسي الذي يستدعيه ضمان ترامب، ربما يتعلق بدعم الرئيس الجمهوري في ذلك الوقت أيزنهاور لموقف مصر في صد العدوان، فقد طالب القوات الغازية متمثلة في فرنسا وبريطانيا وإسرائيل بالانسحاب من سناء، واحترام قرار الأمم المتحدة الذي دعمته أمريكا في ذلك الوقت، كما طالبت إسرائيل بالانسحاب من سيناء، وهدد الرئيس أيزنهاور رئيس وزراء إسرائيل بن جوريون بوقف المعونة الأمريكية (100 مليون دولار في ذلك الوقت)، إذا لم تمتثل لقرارات الأمم المتحدة بالانسحاب، وهي التهديدات التي يقوم بها ترامب حاليا بحق مصر، وليس بحق إسرائيل.
إن موقف أيزنهاور كان مع الحق والشرعية الدولية، وليس مع القوة الباطشة، كما يفعل ترامب حاليا، صحيح إنه من الوارد أن يكون موقفه راجع لحسابات سياسية واستراتيجية مشروعة، تتعلق برغبتها في أن تملأ الفراغ الذي تركه أفول الاستعمار القديم بالمنطقة، وخاصة فرنسا وبريطانيا.
كما يجب التأكيد على أن الموقف الأمريكي في ذلك الوقت جاء ليدعم صمود الشعب المصري الذي صمد في مدن القناة الثلاث في وجه العدوان الثلاثي، وإنه لولا التفاف الشعب حول عبد الناصر ودعمه لقرار التأميم، لما كان للموقف الأمريكي أو السوفيتي الداعم لمصر؛ لكانت القوات الغازية أسقطت النظام القائم، وسيطرت على القناة، كما حدث في تجارب تغيير كثيرة مؤخرا في العالم العربي، كان التدخل الخارجي مقبولا وسهلا؛ نتيجة انعدم شرعية النظم القائمة.
الدعم الأمريكي كان للإرادة الشعبية المصرية، وهو يحسب لها بالتأكيد، ولكنه على عكس ما جرى مؤخرا لا ينتمي للتجارب التي صنعت فيها الولايات المتحدة التغيير، وكانت نتائجه كارثية، أو وقفت أمام التغيير والإرادة الشعبية، وكانت أيضا نتائجه كارثية.
سيادة مصر القانونية والسياسية على قناة السويس لا تقبل الشك، ولكنها لم تعد كافية لحمايتها من “تحرشات” ترامب، فعلينا أن نعي أن القوة التي طالما دافع عنها البعض في مصر، ولو على حساب القانون أصبحت هي السمة الحالية للمنظومة الدولية التي يقودها ترامب، وأن القانون الذي في صف مصر، ويجب أن تتمسك به، وتدافع عنه يجب أن تدعمه القوة الاقتصادية والسياسية، وهي لا زالت تعاني من ضعف وقصور لن تخفيه شعارات الرفض والإدانة لمواقف ترامب وتصريحاته.