لا تُقرأ الوثائق على الهوى، أو بالاجتزاء خارج سياق حوادث التاريخ.

أسوأ قراءة ممكنة لأية وثيقة أن تتوه الحقائق في التفاصيل، أو أن تركز على نصوص بعينها، وتستبعد أخرى لاعتبارات وأسباب لا علاقة لها بأي بحث جدي عن الحقيقة.

الاجتزاء خطيئة سياسية وتاريخية متكاملة الأركان.

هذا ما حدث بالضبط في المقطع الصوتي المجتزأ لمحضر مباحثات الرئيس “جمال عبد الناصر” وقائد الثورة الليبية “معمر القذافي” في قصر القبة يوم (3) أغسطس (1970).

لم يكن هناك جديد في المقطع الصوتي، فالمحضر منشور ونصوصه الكاملة، يمكن الرجوع إليها على موقع مكتبة الإسكندرية.

بالاجتزاء افتقدت الوثيقة تاريخيتها وصدقيتها معا.

السياق ضروري لفهم الوثيقة الصوتية.

عندما طرحت مبادرة وزير الخارجية الأمريكي “وليام روجرز” لإيقاف النار لمدة (90) يوما بين مصر وإسرائيل، وأن يدخل الطرفان في مفاوضات جديدة لتنفيذ قرار مجلس الأمن (242)، نشأت ضدها في العالم العربي معارضة واسعة.

لم تكن هناك معلومات حقيقية لأسباب الرئيس المصري “جمال عبد الناصر” لقبولها، ولا كان ممكنا أن يكشف نواياه، فيما كانت القوات المسلحة تتأهب لعبور قناة السويس بقوة السلاح.

كنا في ذروة حرب الاستنزاف والقوات الإسرائيلية منهكة إلى حد الإلحاح على الإدارة الأمريكية للتدخل بمبادرة توقف إطلاق النار.

“أنا ليه قبلت الثلاثة أشهر، لأن فيه استنزاف مضاد، يعني لما يموت عند اليهود 10 بيموت عندي 100”.

في الشهور الثلاثة نجح الفريق “محمد علي فهمي” القائد التاريخي للدفاع الجوي من بناء حائط الصواريخ، الذي يعد بالمقاييس العسكرية من ضرورات عبور قناة السويس.

وفر “محمد حسنين هيكل” الغطاء الإعلامي لبناء حائط الصواريخ ووفر “عبد الناصر” الغطاء السياسي الضروري بقبول المبادرة.

لم يكن ممكنا أن يعلن خطط الحرب الثلاثة، التي استوفت استعداداتها تحت ضغط المزايدات عليه، والتجاوز في حقه باتهامات تقارب الافتراءات.

الأولى، “جرانيت 1″، وقد هدفت لعبور قناة السويس بقوة خمس فرق من المشاة والمدرعات، تعمل تشكيلاتها تحت إمرة ثلاثة من قواد الجيوش، يختص كل منهم بمنطقة على الخط الطويل الممتد من بور سعيد إلى السويس، والمهمة للثلاثة عبور قناة السويس بقوة السلاح، والتمسك بثلاثة رءوس كباري عرضها عشرة كيلو مترات على الأقل؛ كي تظل في حماية حائط الصواريخ، حتى تسيطر على رءوس الكباري، التي تبدأ منها الطرق الرئيسية الثلاثة: الجنوبي والأوسط والساحلي.

والثانية، “جرانيت 2″، كان هدفها التقدم بعد إتمام السيطرة على رءوس الكباري في ظرف ثلاثة أيام إلى احتلال مضايق سيناء والسيطرة عليها (بالذات مضيق الجدي) والتمسك بها تحت أي هجمات مضادة. 

والثالثة، أطلق عليها الاسم الرمزي (2000)، وقد كانت مجهزة لاحتمال قيام القوات الإسرائيلية الخاصة باختراق قناة السويس في اتجاه معاكس ـ من الشرق إلى الغرب بقصد النفاذ وراء الجيوش المصرية الثلاثة، والقيام بعمليات “كوماندوز” لمهاجمة وتدمير، أو شل فاعلية قواعد الصواريخ من طراز سام (٢) وسام (٦) وحرمان قوات العبور من حمايتها. 

وضعت الخطط قبل رحيل “جمال عبد الناصر”، وصدّق بتوقيعه على أولاها، كما يؤكد الأستاذ “هيكل”، ثم وقع خلفه “أنور السادات” على جرانيت (٢) والخطة (٢٠٠٠)، عندما قدمهما إليه الفريق “محمد فوزي” في شهر مارس (1971).

أدخلت فيما بعد تعديلات وإضافات على خطط القتال من رئيس الأركان الفريق “سعد الشاذلي”، أطلق عليها “المآذن العالية”.

استهدف حائط الصواريخ حماية الجبهة الداخلية من الغارات الإسرائيلية، وتمكين القوات المسلحة من أداء واجبها في إزالة أثار العدوان بتحرير سيناء المحتلة.

لم يكن ممكنا عبور القناة قبل بناء حائط الصواريخ.

هذه حقيقة تاريخية وعسكرية.

لم يكن قبول المبادرة الأمريكية تنازلا، أو استسلاما، على ما ذهبت اتهامات ومزايدات، شاركت فيها بدرجات مختلفة دول عربية عديدة، العراق في مقدمتها وسوريا والجزائر واليمن الجنوبي والمنظمات الفلسطينية.

أهمية الوثيقة الصوتية، إنها تكشف مشاعر القائد الجريح، الذي يوشك أن يدخل حربا ضارية لتحرير سيناء المحتلة.

وصف نفسه متهكما وحزينا، بما كان يقذف به من اتهامات.

تصدر العراق ورئيسه في ذلك الوقت “أحمد حسن بكر” حملات التحريض على “عبد الناصر” واتهامه بتبني حلا استسلاميا وانهزاميا.

دعت تلك الحملات إلى حرب شاملة ضد إسرائيل، تفتح فيها بوقت واحد تحت قيادة موحدة الجبهتان المصرية والسورية بمشاركة الجيوش العربية مجتمعة.

كان ذلك إرباكا للأولوية المصرية في تحرير سيناء.

لم يشر المقطع الصوتي المجتزأ لدور الصحافة اللبنانية الموالية للسعودية في الحملة على “عبد الناصر” والمزايدة عليه ولا إلى انتقاداته الحادة لدول عربية عديدة في الوفاء بالتزاماتها دعما للمجهود الحربي المصري.

كان ذلك من أعمال الاجتزاء لأهداف سياسية لا بحثا عن الحقيقية التاريخية من زواياها المختلفة.

أسوأ اجتزاء عدم الإشارة من بعيد أو قريب لسياق الغضب، الذي اعتراه قبيل رحيله بأسابيع قليلة في (28) سبتمبر (1970).

حسب المحضر الرسمي أشار إلى معاناته مع المرض، الذي استدعى ذهابه إلى مصحة تسخالطوبو في الاتحاد السوفييتي للاستشفاء من آلام مبرحة في ساقيه.

“أنا رجعت من روسيا.. مش قادر أمشي”.

رغم ذلك أعطى وقته كله لأكثر الخطوات أهمية في الحرب المرتقبة.

بتعبير لافت وصف ما يقوم به بـ”خطوة الضفدعة”.

“عاوزين نعمل مواقع صواريخ من السنة اللي فاتت، كل ما نعملها يجي اليهود يضربوا العمال… عمال التراحيل اللي هما الناس اللي قاعدين يشتغلوا في المواقع”.

“الشهر ده بنكون خلصنا العملية كلها، ونبقى على القناة نمنع الطيران انه ييجي يضرب قواتنا…….. ده ممكن يدينا فرصة بعد كده إن أحنا نعدي”.

إنها فكرة العبور تحت حماية حائط الصواريخ.

لماذا استبعد بالحذف هذا المقطع بالذات؟

إنه ينير النص كله، ويفسر دواعيه لقبول “مبادرة روجرز” والغضب البالغ من حملات التحريض عليه، دون استعداد حقيقي لدفع أية فواتير تقتضيها الحرب الشاملة.

في لحظة غضب قال: “حلوا عنا”.

لم يكن مقتنعا، بأن هناك فرصة لحل سلمي.

حسب نص المحضر الرسمي دون اجتزاء: “الكلام ده كله لن ينجح”.. قاصدا “مبادرة روجرز”، التي سقطت فعلا في فبراير (1971).

“99.5% الحرب حتمية”.

“حتى لو هحارب بكرة هفضل أقول حل سلمي، وإلا سوف أكون أمام العالم بخدم إسرائيل وبديها كل اللي بتطلبه”.

“ما نقدر نرفض لو فيه بديل حتى لغاية يوم استخدام القوة”.

“خليكم بالكلام ونحن نحارب”.

لا يمكن أن يكون عملا بريئا ذلك الاجتزاء لنصوص شارحة لأهدافه ومقاصده.

لم يتضمن المقطع المجتزأ رده على مخاوف العقيد “معمر القذافي”، أن تتعرض مصر لهزيمة جديدة، إذا ما دخلت الحرب وحدها.

قال حرفيا: “احنا إذا عدينا القناة بنهز إسرائيل ونهز الشرق الأوسط ونهز الدنيا كلها “.

كان في جواره بتلك الجلسة الفريق أول “محمد فوزي” القائد العام للقوات المسلحة.

بدت أمامه مشكلة ملحة أخرى، وهي سد فجوة التفوق الجوي الإسرائيلي.

“احنا عاملين تخطيط وتوقيت على أساس نضبط هذا الكلام”، أي سد ثغرة الطيران.

في التفاتة لها مغزى مستقبلي سأل “القذافي”، عن الذين يمولهم ومدى أحقيتهم بأي دعم قائلا بالحرف: “إذا كنتم عندكم فلوس أدوا بتوع غزة هما اللي بيحاربوا حقيقي”.

في أجواء المزايدات عليه، بتوهم وراثة الدور القيادي المصري، أفلتت التفاعلات إلى مأساة دامية بالشهر التالي في شوارع عمان أطلق عليها “أيلول الأسود”.

بدت المقاومة الفلسطينية المسلحة في عين الاستهداف.

بوزنه الاستثنائي دعا إلى قمة عربية طارئة في القاهرة لوقف نزيف الدم في عمان.

كانت تلك آخر معاركه، ألا تستباح المقاومة.

إذا لم نقرأ على نحو صحيح الوثيقة المجتزأة والأهداف المضمرة من بثها الآن، فإننا قد ندفع الثمن باهظا أخطر وأفدح.

القضية ليست “عبد الناصر” تاريخا ودورا.

القضية تيئيس الرأي العام العربي من فكرة المقاومة نفسها ومعها خيار العروبة.

إنهم يقولون الآن، إن “زعيم القومية العربية” استسلم كما استسلموا، وفرط كما فرطوا، وأن “أنور السادات” امتداد له لا قطيعة معه.

نزعت بعض العبارات الغاضبة من سياقها.

استخدمت بروح التهكم فيها، كما لو كانت مقصودة لتسويغ مشروعات الاستسلام وإنهاء المقاومة فكرة ووجودا.

ما هو أخطر وأفدح في الطريق.

إنها معركة على المستقبل، لا في الماضي.

كانت صدمة رحيله المفاجئ هائلة في العالم العربي وجنازته بأحجامها ومشاعرها لا مثيل لها في التاريخ الإنساني.

كان أكثر الناس حزنا، بعض الذين اتهموه بالافتراء المفرط في صلب مواقفه وسياساته.

عبر الشاعر السوري الكبير “نزار قباني” عن هذه الحالة العربية المأساوية.

“قتلناك..

يا حبنا وهوانا

وكنت الصديق، وكنت

الصدوق،

وكنت أبانا

وحين غسلنا يدينا..

اكتشفنا بأنا قتلنا منانا

وأن دماءك فوق الوسادة

كانت دمانا”.