وسط مؤامرات إقليمية ودولية كانت تحاك للأردن، اعتقلت السلطات في 23 إبريل 16 عضوا بجماعة الإخوان، متلبسين بتصنيع صواريخ ومسيّرات لإثارة الفوضى والتخريب، وقررت حظر الجماعة وتجريم الانضمام إليها ومصادرة أصولها وإغلاق مقارها، وذلك باتهامات تتعلق بتهديد الأمن القومي «تدريب مسلحين، والتخطيط لهجمات باستخدام صواريخ ومسيّرات».

في اليوم التالي مباشرة قام العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، بزيارة عمل سريعة إلى السعودية، والتقى الأمير محمد بن سلمان ولي العهد لطمأنته إلى استقرار النظام، خاصة أن الأردن لم يصغ لسنوات- بسبب مواءمات داخلية- لنصائح الدول العربية التي حذرته من أنشطة الجماعة وارتباطاتها الخارجية، فضلا عن محاولة تأمين مصدر دعم بديل لتعليق ترامب المساعدات الأمريكية السنوية «1.45 مليار دولار»، تجنبًا لاستغلال فلول التنظيم الأوضاع الاقتصادية للتأثير على استقرار المملكة.

***

تناول أزمة يكون الإخوان أحد أطرافها الفاعلة عادة ما يثير الاختلاف في وجهات النظر، لذلك فالاستعانة بالمحطات التاريخية التي مرت بها العلاقة بين الإخوان والسلطات الأردنية، وبينهم وبين القوى الخارجية، وكيفية تفاعلهم مع التطورات الإقليمية، هي الطريق الوحيد لعرض موضوعي يجنبنا الجدل.

جماعة الإخوان في الأردن تأسست في نفس عام تأسيس الدولة «١٩٤٦»، وقد بدأت بطابع دعوي، وتجنبت تحدي حكم الملك، والملك حسين- الذي حكم البلاد منذ عام 1952- تسامح معها ومكنها من العمل في إدارة المدارس والجمعيات الخيرية وغيرها من الخدمات الاجتماعية، وكانت علاقتهما أقرب إلى التحالف.. لكن شوكة الجماعة قويت منذ منتصف الثمانينيات، وبدأت في ممارسة العمل السياسي عام 1989، وتحولت للمعارضة، حتى أصبحت المعارضة الرئيسية في البلاد.. قادت مظاهرات الجامعات عام 1989 احتجاجا على رفع الرسوم الدراسية، ورأت في اتفاقيات السلام ومعاهدة وادي عربة، مساسا بهوية الدولة، فعبأت الشارع لرفض التطبيع، وأصدرت الفتاوى بحرمته، ثم اكتفت بتصويت نوابها داخل البرلمان ضدها تجنبا للصدام مع الدولة.

عندما صدر قانون الأحزاب السياسية عام 1992، أسست الجماعة «حزب جبهة العمل الإسلامي»، للمشاركة في العملية الانتخابية، لكن الجماعة نفسها لم تخضع لولاية القانون تمسكا بالمرونة وحرية الحركة، ورغم انتمائهما لتنظيم واحد، إلا أنه انقسم إلى اتجاهين؛ الأول: الجماعة التي مثَّلت الجناح المتشدد، وارتبطت بحركة حماس التي نشطت داخل الأراضي المحتلة وفي الأردن، والثاني: الحزب الذي يعمل بولاية قانون الأحزاب.

بعد اتفاق وادي عربة عام 1994 تزايد اقتراب الجماعة من حماس إلى حد أصبح الموقف منها أحد مؤشرات الاصطفاف الداخلي، ولذلك اتُهِمت الجماعة تارة، بأنها تقدم غطاء سياسيا لحماس، وأنها تارة أخرى تمثل جناحا سياسيا لها، بالمخالفة لمصالح وأولويات الدولة الأردنية، لذلك بدأ تقييد نشاط الإخوان في الجامعات والمؤسسات العامة، فقاطعت الجماعة الانتخابات البرلمانية عام 1997، واستمر توتر العلاقة مع الدولة حتى وفاة الملك حسين عام 1999.

***

انتقال السلطة إلى الملك عبد الله الثاني تم وسط مخاوف من زعزعة الاستقرار الداخلي، لذلك تم تحويل ملف الإخوان إلى ملف أمني تولته الجهات المعنية بالدولة، بعد أن كان مسألة سياسية، يديرها الملك، كما تم إبعاد قيادات حماس من الأردن عام 1999، ما أدى إلى تصاعد التوتر بين الطرفين، وتوقفت قنوات التواصل بين النظام والإخوان.

الحكومة حلت مجلس النواب من 2001 حتى 2003، وأصدرت في غيابه أكثر من 200 قانون مؤقت، اعتبرتها الجماعة مقيدة للحريات، خاصة مشروع قانون تقييد أنشطة النقابات المهنية التي كانت ساحة نفوذ لهم، فانخرطوا عام 2004 في اعتصامات وإضرابات إلى أن تم تعليق مشروع القانون.. الجماعة قاطعت الانتخابات البلدية عام 2007، ثم شاركت في الانتخابات النيابية، ولم تحصل إلا على 6 مقاعد فقط، لذلك تمحورت مطالبها حول الإصلاح السياسي وتعديل الدستور وتوسيع صلاحيات البرلمان ومكافحة الفساد، وبدأت التنسيق مع القوى المعارضة الأخرى؛ كاليساريين والقوميين.

الجماعة اختارت عام 2008 قيادة متشددة برئاسة «همّام سعيد»، فضيقت السلطات الخناق عليها، وأقصت أعضاء جبهة العمل الإسلامي من الوظائف الحكومية في المستشفيات والجيش، فقاطعت الجماعة انتخابات عام 2010، وكثفت نشاطها إبان اضطرابات الخريف العربي عام 2011، فشكلت تحالفا واسعا مع أحزاب قومية ويسارية وقوى عشائرية، وقادوا قرابة 1000 مظاهرة، مطالبين بتعديلات دستورية تحد من صلاحيات الملك في تشكيل وحل الحكومات، وتعزز دور مجلس النواب في تشكيل السلطة التنفيذية، وتشكيل مجلس الأعيان بالانتخاب أو إلغائه.. الملك رد بإنشاء محكمة دستورية وعدّل قانون الانتخابات، وهو ما اعتبره الإخوان غير كاف، فقاطعوا انتخابات برلمان 2013، واستمروا في التظاهر، لكنهم صدموا بإسقاط مصر لحكم الإخوان، واعتبروه تحولا جذريا في البيئة الإقليمية ضد مصالحهم.    

النظام سمح بتسجيل «عبد المجيد الذنيبات» المراقب العام الأسبق للجماعة لجمعية مرخصة، تحمل اسم «جمعية جماعة الإخوان المسلمين» عام 2015، باعتبارها كيانا قانونيا بديلا للجماعة، وصدر حكم قضائي في 16 يوليو 2020 بحل الجماعة وحظر نشاطها «لعدم قيامها بتصويب أوضاعها القانونية»، وتم نقل ممتلكاتها للجمعية الجديدة، إلا أن الجماعة واصلت نشاطها سرا، معتبرة نفسها الممثل الشرعي، رافضة الكيان الجديد، وشاركت في الانتخابات عبر حزبها المرخص «جبهة العمل الإسلامي»، رغم فقدان شرعيتها القانونية وجزءا من قاعدتها التنظيمية.. السلطات غضت النظر تحاشيا للصدام، حتى تم ضبط مؤامرة 23 إبريل بأبعادها الإقليمية والدولية المروعة.

***

معركة «طوفان الأقصى» وفرت لإخوان الأردن متنفسًا للعودة؛ بمظاهرات حاشدة وتحركات شعبية ضد العدوان على غزة، محاولة إجبار النظام على الاختيار بين التخلي عن علاقاته بإسرائيل أو مواجهة الغضب الشعبي، مستندين على أن «جبهة العمل الإسلامي» حصلت في الانتخابات البرلمانية لعام 2024 على 31 مقعدا من أصل 138، بنسبة 22.5%، ما أكد استمرار قاعدته الشعبية رغم محاولات التهميش، والتطلع لدور قيادي داخل الدولة بالمزايدة على القضية الفلسطينية.

فشل «طوفان الأقصى» أجبر حماس على التجاوب مع التسويات السياسية، التي تتفق جميعها على تحييدها، ما أدى لتحجيم إخوان الأردن، وتحول النظام من محاولات الاحتواء إلى المواجهة الخشنة، الجمعية المنشقة، قدمت طعنا قانونيا على ترخيص نشاط الجماعة الرئيسية، لتجبر النظام على تنفيذ حكم حظر الجماعة الصادر عام 2015، أما «حزب جبهة العمل الإسلامي»، فالقرار القضائي يحدد مصيره، لأن قانون الأحزاب يحظر أي علاقة للأحزاب بالجماعات والأنشطة الإرهابية، وبالتالي فالحكم قد يكون خطوة نحو حل الحزب وغلق ملف الإسلام السياسي، أو فرصة لفك ارتباط الحزب بالجماعة المحظورة نهائيا.

***

البعد الإقليمي كان له تأثير علي أحداث الأردن، يزيد عن تداعيات العلاقة بين الإخوان والسلطة؛ فإسرائيل دمرت مركز قيادة عمليات الحرس الثوري في سوريا ولبنان، أسفل مبنى القنصلية الإيرانية بمجمع السفارة في دمشق أول إبريل 2024، وقتلت كل القيادات العليا والميدانية لـ «فيلق القدس» الذراع الخارجي لـ «الحرس الثوري»، العملية كانت بداية لخطة إسرائيلية أمريكية استهدفت قطع رؤوس قادة فيلق القدس وأذرع إيران المسلحة بالمنطقة «حزب الله اللبناني، حماس والجهاد الفلسطينيين، الفصائل المسلحة العراقية، حوثيين اليمن»، الذين اعتمدت عليهم استراتيجية طهران ضد تل أبيب وواشنطن، تجنبًا للانزلاق إلى مواجهة مباشرة لا تتناسب وضعف أسلحة الطيران والبحرية والدفاع الجوي لديها.. العملية وضعت نظام حكم الملالي تحت ضغط شعبي ومطالب بالانتقام.

خروجًا من المأزق، ردت القيادة الإيرانية بهجوم محدود- أبلغت عنه مسبقا- ليلة 13 إبريل، لكن إسرائيل انتقمت فجر 19 إبريل باستهداف القاعدة الجوية بمدينة أصفهان، ودمرت نظام الدفاع الجوي روسي الصنع S-300، وبدأت عمليات اصطياد قادة حماس وحزب الله والتواجد العسكري الإيراني في سوريا، وبدا واضحا أن الهدف هو قطع الأذرع الإيرانية بالمنطقة، خاصة بعد اغتيال قيادات الصف الأول والثاني والثالث لحزب الله بعمليات «بيجر، ووكي توكي، اغتيال حسن نصر الله بالضاحية الجنوبية»، وذلك قبل اجتياح الجنوب اللبناني أول أكتوبر 2024 لطرد الحزب حتى شمال الليطاني، وإسقاط نظام بشار الأسد الشيعي الموالي لإيران في 8 أكتوبر، ما أكد أن إنهاء الوجود الإيراني بالمنطقة صار مسألة وقت.

القيادة الإيرانية قدرت مبكرا أهداف التمدد الإسرائيلي، وتحسبت لاحتمالات تقلص وجودها في لبنان وسوريا، وسعت لإيجاد ميدان بديل للعمل ضد إسرائيل فاختارت الأردن، ما فرض إسقاط النظام الهاشمي، وتأسيس نظام تابع يحوِّل الحدود الطويلة مع إسرائيل إلى مرتكز لجبهة الممانعة «المنظمات الفلسطينية، مقاتلو فيلق القدس، والميليشيات الشيعية»، وبدأت إيران تكثيف عمليات تهريب الأسلحة والتسلل إلى الضفة الغربية لدعم المقاومة.

مؤشرات ذلك المخطط تتابعت؛ بدءَا بالمظاهرات التي نظمها الإخوان والفلسطينيون عقب قصف قنصلية دمشق، وعززه بيان كتائب حزب الله العراقي «أبو علي العسكري» الذي أكد «أنهم بصدد التجهيز لتسليح 12 ألف مجاهد من مقاتلي المقاومة الإسلامية بالأردن.. المثير للدهشة هو ذلك التوافق بين الهدف الإيراني بإسقاط النظام الأردني والمصالح الإسرائيلية الأمريكية!! لأن إسقاط النظام كان يوفر لإسرائيل مبررًا للتدخل العسكري على نحو ما تم في سوريا عقب إسقاط نظام الأسد، ويسمح لها باحتلال مرتفعات شرق وادي عربة وغور الأردن، بذريعة تأمين المستوطنات الحدودية، على غرار استكمال احتلال هضبة الجولان والقنيطرة وجبل الشيخ في سوريا، فضلا عن توفير المناخ المناسب لتهجير كل الفلسطينيين- بما فيهم عرب 1948- إلى الأردن في عودة لنظرية «الوطن البديل».

والغريب أن المخطط كان يراهن على أن مثل هذا الانقلاب ربما حظي بقبول صامت من السعودية والعراق، بسبب ما شكله الحكم الهاشمي من قلق للعرش السعودي والحكم العراقي، لكن الأغرب كان أن تنقلب واشنطن على ذلك الحكم الذي قدم لها من الخدمات الاستراتيجية في المنطقة ما لم يقدمه لها أي نظام آخر.. لكنها المصالح الآنية، التي تفرض كل الحذر من عالم توارى فيه دور القانون وانعدمت فيه قيم وأخلاقيات التعامل.

2 مايو 2025