لا يمثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجرد توجه يميني للحزب الجمهوري، يرفض الهجرة غير النظامية، ويعمل على تخفيض حجم الجهاز الإداري الفيدرالي وتخفيض الضرائب على الشركات ورجال الأعمال، إنما بات يمثل طريقة في الأداء ومدرسة في الإدارة، تعتمد على “الشو” واللقطة التي تصورنا أنها موجودة فقط في عالمنا العربي، واكتشفنا أنها تقود أقوى دولة في العالم.
إن تصريح ترامب أمس، بأن الحوثيين قد استسلموا، وأنهم أعلنوا أنهم لن يستهدفوا مرة أخرى السفن في البحر الأحمر، ثبت إنه غير صحيح، وهو تصريح “للشو” وإعلان نصر غير حقيقي، لأن الواقع يقول إن الحوثيين، لم يعلنوا الاستسلام، وأنهم قالوا إنهم لن يستهدفوا فقط حرية الملاحة في البحر الأحمر في مقابل إنهاء الولايات المتحدة لغاراتها الجوية، وتمسكوا باستهداف إسرائيل التي عبرت عن استيائها من قرار ترامب وقف العمليات القتالية ضد الحوثي.
الحقيقة، إنه من غير المعتاد أن يقوم رئيس أكبر دولة في العالم بهذه النوعية من التصريحات الأقرب للشعارات على طريقة كثير من الزعماء العرب، والتي تتجاهل الحقيقة تماما، وهو ما تحول إلى طريقة كاملة في الإدارة فيها كثير من الكذب والشعارات وقليل من الحقيقة والجدية.
صحيح أن ترامب لم يعد يعترف بأي حليف لا يدفع مالا أو يشاركه صفقاته التجارية، ولعل هذا ما جرى حين أعلن بشكل “سينمائي”، أنه سيوقف الحرب الروسية الأوكرانية وسيجلب السلام بين البلدين، وأسهب في الحديث عن ضعف سلفه الرئيس بايدن، وكيف أنه لو كان رئيسا لأنهى هذه الحرب من بدايتها، بل ومنع قيامها، واكتشفنا إنه بعد ١٠٠ يوم من الشعارات البراقة، أنه وقع على اتفاق للمعادن مع أوكرانيا؛ ليسترد به جانبا من المساعدات التي قدمتها أمريكا لأوكرانيا، أما مفاوضات السلام بين البلدين فلا زالت متعثرة ؛لأن الرجل راهن على شعار وقف الحرب، دون أن يدخل في التفاصيل والتعقيدات التي تكتنف العلاقة بين البلدين لصالح اللقطة والشعار البراق.
أما مع أوروبا، فقد أعاد الرجل تعريف معنى التحالف والقيم الغربية، بعد أن فرض تعريفة جمركية على السلع الأوربية والكندية والمكسيكية، وهي دول يفترض أنها حليفة، مثلما فعل تماما مع المنافسين والخصوم كالصين.
وقد فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية شاملة بنسبة 20% على معظم الصادرات الأوروبية، بالإضافة إلى رسوم منفصلة بنسبة 25% على السيارات ورد الاتحاد الأوروبي على هذه الإجراءات، وفرض رسوما جمركية تتراوح بين 10% و25% على الواردات الأمريكية، واعتبر ترامب أن العلاقة التجارية مع أوروبا “خاسرة”، وأشار إلى أن العجز التجاري الأمريكي مع أوروبا يتجاوز 235 مليار دولار، وطالب بزيادة التبادل التجاري لصالح الولايات المتحدة، كما طالبها أيضا بزيادة إنفاقها في حلف الناتو، وأكد على أن الولايات المتحدة، لن تحمي أوروبا بعد ذلك، ما لم تدفع وتضاعف إنفاقها العسكري ونسى الرجل أو تناسى التحالف الاستراتيجي مع أوروبا وحرية التجارة والقيم الليبرالية المشتركة، وبدا أكثر شراسة في الهجوم على بعض هذه القيم من هجوم الصين نفسها.
لقد أصبح هناك من يطالب ترامب بمراجعة هذه التعريفات الجمركية التي تبدو لصالح “شعار أمريكا أولا”، بعد أن تضررت منها في الواقع كثير من الشركات الأمريكية التي ضاعف بعضها من أسعار سلعها، وتراجعت مبيعاتها، وبعضها الآخر باتت مهددة بالخسارة، وربما الإغلاق.
مدرسة “الشعار التراميي” البراق مغرية للبعض من محدودي التعليم، ومن كارهي العلم ودراسات الجدوى، ولذا فإن البعض ينخدع بها لبعض الوقت، ولكنه سرعان ما يتضح حجم ضحالتها وتأثيراتها الكارثية في الاقتصاد والسياسة.
وقد كرر الرجل نفس الأداء مع مصر، حين رفع شعارين الأول يتعلق بتهجير الفلسطينيين، ورشح مصر والأردن لاستقبالهما، والثاني طالب فيه بعبور السفن الأمريكية مجانا في قناة السويس.
وقد تجاهلت هذه المطالب أو بالأحرى هذه الشعارات علاقة التحالف الاستراتيجي بين مصر وأمريكا منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد التي رعتها الولايات المتحدة، بل وضغط على مصر لقبول مشروع التهجير والتلويح بوقف المساعدات الأمريكية، كما أن سيادة مصر القانونية والسياسية على قناة السويس وتحالفها الاستراتيجي مع أمريكا، لم تمنع ترامب من رفع شعار المرور المجاني للسفن الأمريكية من قناة السويس.
إن تحالف مصر مع أمريكا وتصور البعض أن القبول بشعارات ترامب أو عدم معارضتها “والمشي جنب الحائط” سيجنب مصر أو غيرها من الدول “تحرشات” ترامب، ثبت عمليا إنه غير صحيح؛ لأن معنى التحالف الذي عرفه العالم في العقود الماضية تغير مع ترامب، وأصبح يحكمه معايير جديدة أبرزها الصفقة التجارية والأرباح المالية، وغابت الجوانب السياسية والاستراتيجية والثقافية، وحتى “السمع والطاعة”، لم تعد تكفي للنجاة من تقلبات ترامب.
بصرف النظر ما إذا كانت مدرسة ترامب ستستمر كثيرا أم قليلا، فالمؤكد أنها ليست أبدية، وأنها في الوقت الحالي أصبحت واقعا، وأن الوعي بطبيعتها لا يعني بالضرورة إعلان العداء للولايات المتحدة، إنما يعني ببساطة أن الدول الحليفة لأمريكا لن تكون محمية من شعارات ترامب المتقلبة.
يجب أخذ هذه المدرسة بجدية، لأنها تعكس طريقة تفكير ترامب التي ترى قشور الأشياء، وتكره مضمونها وعمقها، وهي تميل دائما للشعارات البراقة، وتنحاز للأقوياء والأغنياء وذوي الحظوة، وتكره الجماهير وحقوق الشعوب، وبالتالي فإن مواجهتها ودفعها للتراجع وارد، إذا كانت الدول التي تواجهه قوية اقتصاديا ومؤثرة سياسيا، ويكون بيتها من الخرسان لا من الزجاج الذي يسهل استهدافها من ترامب أو من حلفائه.