لم يصدق أحد من المهتمين بالشأن القانوني، ما يحدث في حالة التشريع المصري بشكل عام، وما حدث بشكل أخص في إقرار مشروع قانون الإجراءات الجنائية، إذ على الرغم من اعتراضات مجتمعية كثيرة ومتنوعة، نالت من مشروع القانون التي تقدمت به الحكومة كمشروع شامل لقانون الإجراءات الجنائية، ورغم كل هذه المطاعن المجتمعية والحقوقية وجهاته، من حيث كونه تشريع يمس حقوق وحريات المواطن المصري، إلا أن ذلك لم يكن شفيعا للشعب في إعادة مداولة القانون مرة جديدة، كل ذلك شيء، وما حدث في جلسة الاثنين 28 إبريل شيء مختلف، فعلى الرغم من كون الحكومة هي صاحبة المشروع بأكمله، وأنه من زاوية أخرى قد امتلكت زمام التصويت عليه بحسبها صاحبة حق امتياز الأغلبية النيابية عن طريق أحزاب السلطة، وأخصها حزب مستقبل وطن، وبعد مناقشة المشروع والتصويت عليه، تقدمت بطلب لرئاسة مجلس النواب لإعادة المداولة على سبعة عشر مادة من مواد القانون، بعد الموافقة عليها في شهر فبراير الماضي.

وبتاريخ 29 إبريل الماضي، وافق مجلس النواب في جلسته العامة على مشروع القانون، وهو ما يعني موافقته على كافة التعديلات التي تقدمت بها الحكومة في اليوم السابق للتصويت الختامي، والذي تمت الموافقة عليها جميعها في جلسة واحدة، دونما إتاحة الفرصة لمناقشة تلك المواد، أو إبراز ما جاء بهذه التعديلات المفاجئة، وعرضها على اللجان المتخصصة داخل المجلس قبل التصويت عليها في الجلسة العامة، كما وأنه من الأصول الدستورية أن قانون الإجراءات الجنائية من القوانين التي تقتضي عرضها على مجلس الشيوخ، قبل عرضها على مجلس النواب، لكن لم تصدر أي بيانات توضح للعامة، أنه قد تم عرض هذه الإضافات أو التعديلات الحكومية على مجلس النواب، وهو أمر من الأمور الجوهرية قبل إقرار هذا التشريع، ذلك على الرغم من ضمان الحكومة التصويت بأغلبية لصالح إقرار هذا القانون، وصم الآذان عن أية مقترحات أو تعديلات أو أوجه نقد، تقدمت به الهيئات المجتمعية، أو الحقوقية، والتي كان أهمها ما أبدته نقابة المحامين ونقابة الصحفيين.

وهذا ما يدفعنا إلى تساؤل بديهي أولي، وهو من يملك حقيقة سلطة التشريع؟ فهل يتمتع مجلس النواب بسلطة تشريعية حقيقة؟ فلو كان ذلك لخرج ذلك القانون أو غيره من حوزته، ومن داخل لجانه التي من المفترض، أنه تعد ممثلة كنواب عن الشعب، فيجب أن تكون مراعية لمصالحة، وساعية لتحقيق ما يحقق له دولة القانون، ويدافع عن حقوقه وحرياته. أم أن مجلس النواب بات متوافقا مع توجهات السلطة التنفيذية ومحسوباً عليها، وليس رقيبا عليها، كما جاء النص على ذلك في الدستور.

وهذا ما جاء نتيجته في بيان للحزب المصري الديمقراطي لاجتماعي بتاريخ الرابع من مايو الحالي، ومنشور على صفحته الرسمية، يطالب فيه السيد رئيس الجمهورية بإعادة القانون إلى البرلمان لمراجعته من جديد، وطرحه ضمن حوار مجتمعي حقيقي وشفاف، بما أن القانون لا يزال في انتظار التصديق من رئيس الجمهورية، ويشارك فيه ممثلو المجتمع المدني والقوى السياسية والنقابات المهنية، من أجل بناء منظومة عدالة جنائية، تليق بمصر وتُرسخ قيم العدالة الاجتماعية ودولة القانون.

وفي هذا السياق، وفي واحد من أهم أحكام المحكمة الدستورية العليا، وهو الحكم رقم  114 لسنة  21 قضائية قالت فيه المحكمة: “وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل في النصوص التشريعية- في الدولة القانونية- هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف. ثم أردفت بقولها إن الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التي أثمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده، ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافاً”.

ومن الناحية التأصيلية، فإنه لما كانت دولة القانون يجب أن تتسم بجملة مبادئ تُجسد الحقوق والحريات الإنسانية في الدولة على أساس المواطنة، وهذه الحقوق لا تتحقق بمجرد النص عليها في دستور الدولة وفي قوانينها، ولا تتحقق بمصادقة الدولة على اتفاقيات ومواثيق دولية بشأن تلك الحقوق والحريات، بل في نظام حكم يعترف في إطار قانوني وتطبيقي، بحق المواطنين بأنهم أصحاب ومصدر السلطة الحقيقية. وتصبح الدولة الديمقراطية مرادفة لدولة القانون في سياق نظام سياسي، يقوم على مفهوم المواطنة، هذا التنظيم القانوني والسياسي هو الدولة الديمقراطية- دولة القانون- التي تعترف بخضوع سلطة الحكم للقانون، كحال خضوع المحكومين له، حيث تشكل حقوق وحريات المواطنين في هذا القانون، قيوداً على الدولة. ولكي يقوم نظام الحكم هذا من خلال قواعده ومؤسساته بعمله على وجه سليم، يتطلب ذلك ضمانات تتلخص في المبادئ الآتية: سيادة القانون.. الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية.. الفصل بين السلطات.. استقلال السلطة القضائية.. تقرير الرقابة القضائية على دستورية القوانين.. تقرير الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة وقراراتها. من هنا، فإن مفهوم دولة القانون، يتجسد في هذه المبادئ، تتقدمها سيادة القانون وخضوع سلطة الحكم للقانون كمثل خضوع المحكومين له. وما يقيد سلطة الحكم دستور، يضع القواعد الأساسية لنظام الحكم في الدولة، ويقرر حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم. وبهذا يتحقق للأفراد مركز قانوني في مواجهة سلطة الحكم، يكون ضماناً لهم في حرياتهم وحقوقهم. والقانون الذي تكون له السيادة في دولة القانون، يجب أن يكون صادراً عن مجلس منتخب من الشعب، ولا يكون مخالفاً للدستور أو منطوياً على انحراف في استعمال السلطة التشريعية. وإذا لم يؤخذ بهذا المفهوم القانوني، عندئذ ينتفي معنى ومضمون دولة القانون، كما أنه لا شك في كون النظم القانونية المحترمة، يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، ويفك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني المختلفة والمصالح المتباينة، وبمعنى أكثر نضجا لا يتواجد القانون، إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية، إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.

وهذا يعود بنا إلى التساؤل الأولي من صاحب سلطة التشريع، فهل هو مجلس النواب الذي قارب عمره على الانتهاء دون أن تكون له بصمة حقيقة لصالح كتلة الناخبين أم أن الأمر برمته، بات في حوزة السلطة التنفيذية، سواء كان ذلك من خلال ما تمرره من مشروعات قوانين، أو من خلال تحكمها في آلية التصويت بتحكمها في الأغلبية البرلمانية؟