خلافات وقضايا كثيرة لا زالت تمنع إصدار قانون الفتوى. فما بين فوضى الفتاوى، وما بين الأوقاف والأزهر، وما بين الفتوى العامة والخاصة، وما بين وسائل الإعلام التي تبث الفتاوى على الهواء، بين كل ذلك يتضح وجود العديد والعديد من المشكلات التي برزت على السطح، وأظهرت الكثير من العقبات المحيطة بتلك القضية الشائكة.
من الشركة المتحدة إلى وزارة الأوقاف
لكن ما من شك، أن كافة تلك القضايا التي تتعلق بإصدار قانون الفتوى، والتي يبدو ظاهرها ديني، لا تخلو من غرض سياسي. فعقب أحداث يونيو 2013، سعت الدولة لتأميم مناحي الاقتصاد الخاص، وكجزء من حملتها لمواجهة جماعة الإخوان، قامت بالوثوب إلى الإعلام، فكان لها تأسيس الشركة المتحدة، والتي تمتلك اليوم العديد من القنوات الإخبارية وقنوات الدراما والقنوات الدينية ومحطات الراديو ومنصات ومؤسسات صحفية ومواقع إخبارية (نحو 12 موقعا). وكل ما سبق أدى إلى ردة عكسية؛ لأن الناس لجأت وبسرعة لخلق البديل عبر مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي؛ سعيا لاستقاء الحقيقة دون رتوش، حتى لو كان المعلن بتلك الوسائل هو شائعات مؤكدة.
اليوم يبدو أننا على موعد مشابه بجعل وزارة الأوقاف التابعة للسلطة التنفيذية تحتكر الفتوى، وهو أمر يخالف الأعراف الدولية في البلدان الإسلامية، ففي الأردن يدير الإفتاء مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية، وهو هيئة مستقلة وفق قانون 60 لسنة 2006، وفي إندونسيا يدير شأن الإفتاء مجلس العلماء الإندونيسي، وفي تركيا يرأس رئيس الشؤون الدينية المستقل عن الحكومة أمور الإفتاء وفق قانون 429 لسنة 1924.
في مصر، ومع الردة العكسية التي نشهدها في مناحي عديدة، تطمع الحكومة في إسناد جزء معتبر من الإفتاء لها عبر وزارة الأوقاف، لكن مع غطاء أو مسحة أزهرية على أداء الوزارة أثناء القيام بعملية الإفتاء المزمع عقب سن القانون. أمر وجود قانون للإفتاء من حيث المبدأ – في الظاهر- يبدو سليما لكون الحكومة تسعى إلى منع فوضى الفتاوى، لكن ما من شك أن خطوات التنفيذ تسير- من الناحية القانونية- في اتجاه وهدف آخر.
فوضى الفتاوى من إرضاع الكبير إلى المساواة في الميراث
بالتأكيد، أنه لا أحد يرضى عن المناخ الفوضوي الذي تعيشه مصر اليوم؛ بسبب كثرة الفتاوى في الموضوع الواحد، وهو أمر يرتبط، بلا شك بعدم تخصص البعض في إصدار الفتاوى، كما أنه يرتبط بتسهيل إيصال الفتاوى المتضاربة إلى الجمهور عبر وسائل الإعلام من صحافة وتلفزيون ومواقع “نتية” وغيرها.
في السنوات والأشهر والأيام الماضية، وقع المجتمع ضحية العديد من تلك الفتاوى، فأسفر الأمر عن حالة من اللبس والغموض الكبير. فبداية من إرضاع الكبير، وذبح الدجاج كأضحية، بدلا من الأغنام والأبقار، وانتهاء بمساواة المرأة الرجل في الميراث، مرورا بإباحة سرقة الكهرباء والغاز والمياه من الدولة، وإمامة المرأة للرجل في الصلاة، واشتراط موافقة الزوجة قبل طلاقها من زوجها، وتحليل البيرة، ما دام لا تسكِر وغيرها وغيرها من أمور. وسط كل تلك الفوضى، أصبح من الواجب الوقوف أمام هذه الطلاسم، لأن أمور الناس أصبحت في حالة التباس شديد، والكل أصبح يعلق تصرفاته، وربما جرائمه على تلك الفتوى التي سمعها من هذا أو ذاك، ومن ثم أصبحنا في حالة إرباك مجتمعي ومهزلة في العلاقات بين البشر.
ما صنع الحداد بين الأزهر والأوقاف
الأزهر الذي طالما تصدى إلى ظواهر عديدة، سعى إلى مواجهة تلك الظاهرة، لكن فضائيات الدولة بعد تأميم الإعلام باتت تستضيف كل من له خبرة أو عديم الخبرة للفتوى، ما زاد الارتباك، خاصة مع دخول مواقع التواصل الاجتماعي على الخط والمواقع النتية التي أصبحت تتصدر المشهد، ويصدقها المواطن بلا أدنى نقاش بعد إدراكه لتأميم الإعلام.
وزارة الأوقاف سعت كي تستغل وجودها بمجلس الوزراء من خلال وزيرها، كي تكون هي وسيلة للحكومة للقفز على دور الأزهر، وهو ما سعت له الدولة مرات عديدة في عهد الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، الذي أغضبت فتاواه السلطة مرات عديدة، فجعلت- كرد فعل لذلك- الأوقاف ندا له. فى حالتنا اليوم، نجد أن مشروع القانون الحالي وضعته بالأساس وزارة الأوقاف، وتقدمت به إلى مجلس الوزراء، الذي دفعه بدوره إلى مجلس النواب. الوزارة سعت أن يكون للحكومة مكان متميز في القانون على حساب الأزهر. فالفتاوى العامة، وهي قليلة يتحكم فيها بحكم مشروع القانون الجديد جهتان، هما هيئة كبار العلماء بالأزهر، ودار الإفتاء التابعة لوزارة العدل. أما الفتاوى الخاصة- وهي كثيرة جدا- فتتصدر الأوقاف، عبر لجان خاصة، المشهد إلى جانب الجهتين الأخريين سالفة الذكر، وإن كان القانون أوكل للأزهر الكلمة العليا حال تضارب الفتاوى.
وزير الأوقاف دافع عن لجان الأوقاف التي ستتولى الإفتاء، بأن هؤلاء سيتدربون تدريبا جيدا، وسيكونون من أبناء الأزهر، وأن برامج تدريب هؤلاء ستضعها دار الإفتاء بعد موافقة الأزهر. أما الأزهر فلا يرى أي فائدة مرجوة من هؤلاء لكونهم عديمي الخبرة مقارنة بعلماء الأزهر، الذين هم من خريجي كلية الشريعة والقانون، وممن لا تقل درجتهم العلمية عن “أستاذ مساعد”.
المؤكد، أن مقارنة كل ذلك بما تطلبه لنفسها وزارة الأوقاف، يعتبر ليس في صالحها. فالأوقاف لو أدارت المساجد بكفاءة، فيكفي لها هذا الملف، بعد أن فشلت فشلا ذريعا في إدارة ملف الوقف، وبعد أن أصبحت المساجد لا يرتادها موظفو الأوقاف الذين يقومون برشى رؤسائهم في الأحياء والمدن جهارا نهارا للفرار من الدوام في المساجد. لذلك فإنه من صالحها عدم تحمل مسئولية هذا الملف، أو حتى المشاركة فيه. كما أنه ليس من مصلحة الجهاز الإداري بالدولة، أن تتعدد المسئوليات، فتضيع الدماء بين القبائل حال حدوث نواكب وخطب جراء الفتاوى المتعددة.
في أصول الفتوى كما يقول الأمام الشافعي قديما، والشيخ محمد الغزالي حديثا، وغيرهم من الأصوليين في علم الفتوى، أن المفتي يجب أن يكون مسلما صحيح الفهم، عاقل، بالغ، عالم بالكتاب والسنة، عالم بأصول الإجماع والقياس، وخبير في الناسخ والمنسوخ، وعالم بأصول اللغة العربية وأصول الفقه، وأن يكون عدلا مجتنبا المعاصي القادحة عن العدالة، ومجتهد، يفهم الواقع وعلى دراية كاملة بالأعراف والأزمان… كل تلك الأوصاف من شبه المستحيل، أن تتوفر في موظف الأوقاف، حتى لو كان مدربا.
الفتوى العامة والفتوى الخاصة
وقد قسم القانون المزمع سنه الفتوى بين نوعين. فتوى خاصة، وفتوى عامة. الفتاوى الخاصة، ويغلب عليها أسئلة تتعلق بشكل رئيس بأحكام الزواج والطلاق، وأحكام المواريث، كما يكثر فيها أيضا الأسئلة المتعلقة بالزكاة والشؤون المتصلة بالشراكات التجارية. وفيها حسب نص القانون المزمع رأي للجان الفتوى بوزارة الأوقاف، إلى جانب هيئة كبار العلماء بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر إلى جوار دار الإفتاء المصرية. وهنا مربط الخلاف بين الأزهر الذي يعترض كلية، على أن يكون للأوقاف لجان ذات شأن معتبر في إصدار الفتاوى، حتى لو كانت للمتدربين تدريبا جيدا.
بالنسبة للفتاوى العامة، فلا يبدو أن هناك أي خلاف بشأنها. فتلك الفتاوى يختص بها حسب القانون المزمع هيئة كبار العلماء ودار الإفتاء وحدها. أبرز الفتاوى في هذا الصدد فتوى عدم الصلح مع إسرائيل عام 1956، ثم تأييد الصلح في فتوى أخرى عام 1979، وفتوى المشاركة في التصويت في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الكثير من المرات، مقابل فتوى جماعة الإخوان عدم جواز المشاركة في انتخابات الرئاسة 2014، وفتوى وقوع الطلاق الشفوي لمجمع البحوث الإسلامية في فبراير 2019 في مواجهة رغبة الرئيس عبد الفتاح السيسي عدم الاعتداد بالطلاق الشفوي، ووجوب توثيقه.. إلخ.
السيولة الإعلامية تنسف مشروع القانون
وعلى أية حال، فإن واحدا من أهم الأمور التي قد تودي بالقانون، وتجعل منه مجرد حبر على ورق، مسألة الفوضى الإعلامية ممثلة في القنوات الفضائية التي لا تستطيع الدولة التحكم في بثها، بسبب هيمنة الأقمار الاصطناعية غير المصرية على الفضاء الكوني، ما يجعل المرء يشاهدها بقوة، خاصة مع تأميم القنوات الأخرى التي يرى المشاهد، أن الدولة تهيمن عليها. نفس الأمر يتعلق بالمواقع الإلكترونية، والتي يمكن من خلالها بث أسئلة وإجابات، تتضمن فتاوى بعضها غريب، وتتاح بدون اشتراك مادي. هذه القنوات والمواقع ستكون هي الغالبة، ولا مقدرة للدولة على حجبها إلا بشكل محدود.
الحل في الأزهر كجهة واحدة ومستقلة
هكذا يبدو المشهد، ونحن على أعتاب سن قانون جديد، يتحتم أن يكون به جهة واحدة تتولى الإفتاء، وأن تكون المؤسسات التابعة لجهاز الدولة التنفيذي أي دور، حتى لا يتم “تمصير الفتاوى”، بدلا من الفتاوى الشرعية. فمثلا كلنا يعلم موقف الأزهر من وقوع الطلاق الشفوي، وهذا الرأي مخالف بالكلية لموقف السلطة التي لا تراه واقعا، ما لم يُوثق، السؤال هنا من سيكون له الكلمة الأخيرة الأزهر بكبار علمائه وبمجمع بحوثه، أم الأوقاف التابعة للسلطة التنفيذية!!!