ولدت الدولة المصرية الحديثة من أفق الانتصار، بينما ولدت الدولة العربية الحديثة من عُقدة الهزيمة.
1- ولدت الدولة المصرية الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحولت من ولاية عثمانية مهترئة، يتصارع عليها مماليك من مخلفات التاريخ إلى إمبراطورية حقيقية من منابع النيل في الجنوب حتى الأناضول في الشمال، ومن قلب ليبيا في الغرب حتى مشارف الخليج والفرات في الشرق، إمبراطورية فاجأت إمبراطوريات أوروبا شرقها مثل روسيا ووسطها مثل النمسا والعثمانية وغربها مثل بريطانيا وفرنسا، اقتحمت مصر نادي الإمبراطوريات العظمى- عن جدارة- في النصف الأول من القرن التاسع عشر، هذه النشأة هي الروح التي شكلت فكرة الدولة المصرية الحديثة منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم والغد، حتى عندما سقطت سلالة محمد علي باشا عند منتصف القرن العشرين، كان الجيش وكان الضباط الأحرار وكان عبد الناصر وكان جوهر الثقافة السياسية المصرية، كان كل ذلك يعيد بث روح محمد علي باشا وهمته العالية، وما تركه من تراث سياسي مُلهم، يمكن البناء عليه والانطلاق منه في إعادة بعث الروح في نهضة مصرية ممكنة. الإضاءة التي تركها محمد علي باشا، أن خروج مصر من التخلف ممكن وانتصارها على نقاط ضعفها أقرب مما يظن أهلها، إذا توفرت القيادة اللائقة التي تدرك وزن مصر في ذاتها ثم في الإقليم ثم في العالم.
2- على النقيض من ذلك، ولدت الدولة العربية الحديثة في حُضن الهزيمة مرتين:
أ- مرة أولى في حُضن الاستعمار الذي رسم حدودها وحدد وظيفتها، وصنع لها نطاق حركتها، واختار لها قيادتها وبالذات في الجزيرة العربية والخليج وشرق المتوسط، حيث العروش الهاشمية الثلاثة في سورية ثم في العراق ثم في الأردن، وحيث العروش الخليجية الخمسة آل سعود في الرياض وآل صباح في الكويت وآل نهيان في أبوظبي وأشقائهم في باقي الإمارات المتصالحة وآل ثاني في دوحة قطر وآل خليفة في منامة البحرين، كافة هذه العروش، انتقلت من كفالة الإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين إلى كفالة الأمريكان من بعد الحرب العالمية الثانية، حتى زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب- وقت كتابة هذه السطور اليوم 13 من مايو 2025- وقد قامت الكفالة الأمريكية، عندما بدأت على فكرة أن هذه البلدان مهمة للمصالح الحيوية الأمريكية، وهذا يعني أن احتلالها والسيطرة المباشرة عليها ضرورة وجودية أمريكية، ولكن البديل الأيسر والأوفق عن الاحتلال الأمريكي المباشر هو توفير الحماية الأمريكية للعائلات الخمس الحاكمة، ثم في المقابل تقوم هذه العائلات بخدمة المصالح الأمريكية، هذا هو حضن الاستعمار الذي نشأت فيه الدولة العربية في المشرق العربي والخليج.
2- هذه الدولة ذاتها، ولدت مرة ثانية مصحوبة بعقدة الهزيمة التاريخية المتكررة أمام المشروع الصهيوني والدولة الصهيونية، انهزم العرب أمام الصهيونية، وهي مجرد فكرة، ثم انهزموا أمامها، وهي مجرد عصابات، ثم انهزموا أمامها في الحرب، وهي دولة، ثم انهزموا أمامها في المفاوضات، وهي تبحث عن السلام، المرة الوحيدة التي انتصر فيها مقاتل عربي، كانت يوم عبر المقاتلون المصريون قناة السويس قبل أكثر من نصف قرن، مثلما المرة الوحيدة التي استرد فيها العرب أرضا محتلة من إسرائيل، هي استعادة شبه جزيرة سيناء، باستثناء هاتين الحالتين المصريتين، لم ينتصر مقاتل عربي على مقاتل صهيوني، ولم يسترد العرب شبراً من أرض عربية، سبق أن اغتصبتها الصهيونية، فقط مصر انتصرت، وفقط مصر استردت أرضها، حاربت مصر ثلاثين عاما 1948 – 1978، حاربت وهي نظام ملكي، كما حاربت وهي نظام جمهوري، لم تتهاون في حق نفسها ولا في حقوق العرب، ثلاثون عاماً من الحرب، أجهدت مصر اقتصاداً وشعباً، بينما كان عرب الجزيرة والخليج ينتقلون- في الثلاثين عاماً ذاتها- من العوز المطلق الذي يحتاجون معه إلى كل شيء يجود به غيرهم إلى الثراء المطلق، حيث يملكون كل شيء يطمع فيه غيرهم، في الثلاثين عاماً كانت الحرب نصيب مصر، وكانت الثروة نصيب العرب. صحيح مصر لم تحارب منذ نصف قرن، وصحيح مصر لم تنجز في نصف القرن الأخير أي تقدم على أي صعيد، بل العكس هو الصحيح، حيث يتراجع الوزن النسبي لمصر في موازين القوة في الإقليم، فمصر في النصف قرن الأخير لم تتوفر لها القيادة التي تؤمن بإمكانات مصر الذاتية، وأولها الإنسان المصري الذي كان قلب المعجزة التي أنجزها محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، معجزة الباشا كانت ثورة ثقافية بالدرجة الأولى، نقلت العقل المصري من ثقافة المملوكية العثمانية المتخلفة إلى آفاق العصر الحديث، معجزة ثقافية تستطيع أن ترمز لها باثنين من أبناء الفلاحين من قبلي ومن بحري، أولهما في عهد الباشا، وهو الشيخ رفاعة الطهطاوي، وثانيهما في عهد خلفاء الباشا، وهو الشيخ محمد عبده. الطهطاوي كان مثقف دولة، كان مثقف المشروع النهضوي الوليد. الشيخ عبده كان مثقف احتجاج وتغيير ومعارضة وثورة. كلاهما كانا فريدين في زمانهما سواء في مشرق العالم العربي، أو مغربه، وهذه هي نقطة امتياز مشروع الباشا، وهي إحياء همة عامة المصريين وتمكين بسطائهم من سلوك طريق النبوغ والعبقرية، إذا أضفت إليهما علي مبارك باشا كنموذج لمصري من قاع الريف، تمكن عبر تعليم الباشا من الحراك العلمي والمهني والطبقي؛ ليكون من خيرة رجالات الدولة في الربع الثالث من القرن التاسع عشر.
انتصار مشروع الباشا لم يكن في تأسيس الجيش، لكن في تجنيد المصريين بعد ألفي عام أو أكثر، لم يستدعهم أحد للقتال العسكري المنظم، تجنيد الباشا للفلاحين كان استدعاء مباشراً لهم من قلب العدم إلى قلب التاريخ. كذلك لم يكن انتصار الباشا في مجرد تأسيس إمبراطورية عظمى، لكن في كون هذه الإمبراطورية هي جراب التاريخ المصري، وهي مجالها الحيوي، وهي نطاق حركتها الجغرافي، وهي ميزانها الجيوسياسي، وهي حدودها الاستراتيجية التي تضمن أمانها وسلامها ووجودها وبقاءها. كذلك لم تكن عبقرية الباشا في أن كان تمويل هذه الإمبراطورية من كدح وعرق الفلاحين المصريين دون استدانة قليل أو كثير، رغم كثرة المرابين في ذلك الزمان، لكن كانت العبقرية في اكتشاف أن ثروة مصر في المصريين وقوة مصر في المصريين، وعبقرية مصر في المصريين. لذلك سقطت الإمبراطورية بمكائد الغرب ضدها، كما سقطت سلالة الباشا بحكم الزمن، لكن بقيت عبقرية المصريين التي يسر لها الباشا وذريته- بقصد أو غير قصد- سبيل الكشف عن نفسها وطريق التعبير عن إمكاناتها، وقد ساعد الاستعمار الانجليزي في ذلك، حيث جرت المنافسة بين الاحتلال البريطاني والحكام من سلالة الباشا على التقرب من المصريين والتودد إليهم، وتمكينهم من التفوق والنبوغ، فاستطاع المصريون- في ثلاثة أرباع قرن من 1882 – 1956- تكوين واحدة من أكفأ النخب الثقافية والسياسية خارج أوروبا الغربية، حيث أنجبت مصر- في ظل التنافس بين الحكام والاحتلال- حشداً غير مسبوق وغير ملحوق من النوابغ والعباقرة في كل المجالات، هؤلاء النوابغ والعباقرة هم من صنعوا هوية مصر المعاصرة، وهم من رفعوها مكاناً علياً بين العرب وغير العرب، وهم من أعطوا الدولة المصرية وزنها وهيبتها، وهم من جعلوا من القاهرة وجامعاتها وصحافتها وقضائها ومسارحها وفنونها وآدابها ومنظومة قيمها وأخلاقها بوصلة، يقتدي بها كل العرب في ظلمات البر والجو والبحر. هذه البوصلة التي فرطت فيها مصر- بالتدريج- منذ ثورة 23 يوليو 1952، حيث قامت فكرة حماية الثورة والنظام الجديد والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني على حساب الحريات العامة والحقوق المدنية واستقلال القضاء وحرية الصحافة واستقلال البحث العلمي وحماية الملكية الخاصة وحق المجتمع في التنظيم والتعبير، للأسف ظن ضباط 23 يوليو، أنهم رأس مال البلد، وأن نظام حكمهم هو طوق نجاة البلد، فهرسوا كل شيء في البلد للحفاظ على نظامهم باقياً، لم يدركوا أن رأس مال البلد ومصدر قوتها هو الإنسان المصري، وأن الإنسان المصري يستحيل أن يكشف عن عبقريته ونبوغه تحت حكم القهر والقمع بمبررات وطنية، حتى لو كانت صادقة، الفقر الحقيقي الذي أدرك مصر في ظل حكم الضباط من محمد نجيب، حتى كتابة هذه السطور هو فقر الحريات الذي اغتال همة المصريين، وأطفأ نورهم وشل فاعليتهم، ونزل بهم وببلدهم إلى اضمحلال لا يشرفهم ولا يشرف بلدهم.
مع زيارة الرئيس الأمريكي، وهي الأولى منذ توليه رئاسته الثانية، إلى ثلاث دول خليجية هي السعودية والإمارات وقطر، تكون حقبة ربع قرن من إعادة تشكيل الشرق الأوسط قد انتهت؛ لتبدأ حقبة جديدة، تكون فيها أمريكا إمبراطورية عابرة للقارات، ويكون العرب أو بالتحديد عرب النفط مشمولين برعاية الإمبراطورية، بحيث تبسط عليهم الحماية، وتمنع عنهم العدوان، وتستأثر بما لديهم من خيرات، القيمة في زمن الإمبراطورية لمن عنده أموال، يمكن نزحها وغرفها وتحويلها إلى خزائن الإمبراطورية، لم تعد القيمة لمن يتلقى المساعدات من الخزانة الأمريكية، هذا تطور جوهري هام ومفصلي، لماذا نحول الفلوس إلى مصر كل عام؟! للحفاظ على السلام؟! السلام بقى فوق طاقة إسرائيل على الاستيعاب، الرغبات في السلام تتزاحم عليها من كل الاتجاهات، لم يعد السلام مع إسرائيل يحتاج إلى مقابل تدفعه إسرائيل أو أمريكا، ففي تسعينيات القرن العشرين بدأ العرب يهرولون إلى السلام مع إسرائيل- بتعبير وزير خارجية مصر آنذاك السيد عمرو موسى- ثم مع مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بدأ العرب، ما لم يكن في الخيال، بدأوا يتهافتون، وليس فقط يهرولون، يتهافتون للسلام مع إسرائيل بدون مقابل وبدون ثمن، إلا أن ترضى عنهم إسرائيل، في هذا السياق تأتي زيارة الرئيس الأمريكي اليوم 13 مايو 2025 لكل من السعودية وقطر والإمارات، السعودية تم توظيفها بنجاح- منذ أيامها الأولى وهي تحت التأسيس- في التفكيك النهائي للإمبراطورية العثمانية، ثم جرى توظيفها بنجاح في مواجهة القيادة الناصرية للعالم العربي، ثم جرى توظيفها بنجاح مع قوى الإسلام السياسي السني في مواجهة السوفييت والشيوعية في الحرب الباردة، ثم تم توظيفها بنجاح في وراثة الدور المصري ثم العراقي، ثم يجري الآن توظيفها بنجاح مع تركيا وقطر في إعادة تشكيل سورية ما بعد الأسد، ثم وهذا هو الأهم يجري استثمار حالة الغموض السياسي فيها، حيث لم ينحسم بعد من يكون الملك بعد رحيل الملك سلمان، تستثمر هذا الغموض في دفع القرار السعودي نحو مغامرة التطبيع العلني الكامل مع إسرائيل؛ لتكون ذروة صعود الصهيونية إلى أعلى ذراها. أما قطر والإمارات، ففي الظاهر بينهما اختلاف في الأدوار، لكن في الجوهر دورهما واحد، لكن مع اختلاف الأدوات، هذا الدور الموحد لكلا البلدين، فهو ركوب الثورات من جانب قطر متحالفة مع قوى الإسلام السياسي حتى تفشل، ثم ركوب الثورات المضادة من جانب الإمارات متحالفة مع قوى الفساد والاستبداد، قطر تحرض وتمول قوى الإسلام السياسي من المعتدل حتى المسلح، والإمارات تمول وتحرض قوى الفساد والاستبداد الرسمي منها، والخارج على الشرعية والقانون، خلاصة دور قطر والإمارات هو إجهاض فكر التغيير في النظم الجمهورية وتشويهه، وحرفه عن مساره ولخبطته وإرباكه؛ لأنه لو نجح فسوف يكون نورا وضوءا، يكشف قوى الظلام سواء في الخليج أو في الصهيونية أو في الهيمنة الأمريكية.
مصر لم يعد لها دور تؤديه في سياق هذا التشكيل الجديد، دورها يجري اقتسامه وتوزيعه، بعض منه يذهب لتركيا، وبعض منه يذهب للسعودية، وبعض منه يذهب لقطر، وبعض منه يذهب للإمارات، يكفي مصر في هذه المرحلة، أنها باقية على قيد الحياة، ويكفينا- هكذا يفكرون- لراحة ضميرنا أننا لا ندخر جهداً في تيسير سبل الاستدانة التي وقعت في إدمانها، ولا يبدو في الأجل القريب، أنها سوف تتعافى من مخاطر هذا الإدمان.
لكن رغم ذلك المشهد الكئيب الذي تبدو فيه مصر، كأنها قد نُسيت أو هُمشت أو تجاهلها الجميع، رغم ذلك تظل مصر لها ممكنات عالية لا يملكها سواها، بشرط أن ندرك:
1- المنطقة ذاهبة- في ظل الإمبراطورية- إلى مزيد من التفكيك، تفكيك كل ما تم تركيبه من هويات وطنية وقومية في المائة عام الأخيرة، البلدان التي جمع الاستعمار بقوة النار بين مكوناتها، ثم جمعت الديكتاتوريات بينها بالقبضة الحديدية، سوف يتم تركها لتفاعلات الطائفية والمذهبية والعرقية والجهوية مشبعة بروح العصور الوسيطة ومتذكرة كل ما كان بينها على مدار القرون من حزازات وثارات، ثم تعيد إنتاجها في نهاية المطاف في مطالب انفصالية، تتم الاستجابة لها في الوقت المناسب، بعدما ترتفع فواتير الدماء، ويصل جميع الأطراف إلى قبول الطلاق أبغض الحلال، بعدما استحالت العشرة بين مكونات الوطن الواحد، هذا مصير لن يسلم منه أحد، لو مددنا البصر إلى نهاية القرن الحالي أي على مدى ثلاثة أرباع قرن، حيث يتوقع أن تظل الإمبراطورية لها الكلمة العليا في الإقليم، الشرق الأوسط سوف يتم تفكيكه إلى مكونات أولية، مكونات ما قبل الدولة الوطنية.
2 – الدولة الوطنية في مصر، مثلها مثل الدولة الوطنية في الهند، تبلورت كلاهما مع ثورة 1919 التي تزامنت في البلدين في وقت واحد، وضد عدو واحد هو الاحتلال البريطاني، وتحت قيادة نخب واحدة: برجوازية وطنية، تلقت تعليماً أوروبياً، واعتنقت مبادئ الوطنية على المثال الأوروبي، حيث الوطن أولاً ثم الانتماء العرقي أو الديني أو الطائفي أو الجهوي بعد ذلك، بعد غاندي ونهرو اتجهت الوطنية الهندية إلى التطرف، حيث رفعت الهندوس فوق باقي المكونات، ولولا بواقي الديمقراطية البرلمانية على النمط البريطاني لكانت الهند حالة من حالات الفشل، فيما بعد الاستعمار، لكانت مثل باكستان مثلاً التي تتراوح بين ديمقراطيات هشة وانقلابات عسكرية متتالية، وفي كل الأحوال يقبع الجيش في خلف المشهد، يحرك السياسة الباكستانية من وراء ستار. الدولة الوطنية في مصر، قامت على نفس الفكرة: الوطن أولاً ثم الدين أو المذهب أو الطبقة بعد ذلك، وكانت نموذجاً يحتذى بعد ثورة 1919، لكن هذا النموذج توجهت له ضربتان: أولاهما من قوى الإسلام السياسي التي قلبت المعادلة من الوطن أولا إلى الدين والعقيدة أولاً، وثانيهما من دولة الطغيان بعد 23 يوليو 1952 حيث بات معنى الوطنية هو أن يقبل المواطن أن يكون مغفلاً ويمنح ثقته في حكام ينفردون بسلطات مطلقة دون صحافة حرة ولا برلمانات حرة ولا قضاء مستقل ولا رقابة شعبية من أي نوع على الحكام. هاتان الضربتان لهما أثر سلبي، بلا شك في تصورات المصريين عن فكرة الوطنية بمعناها المعاصر، لكن ذلك الأثر السلبي يتلاشى، إذا نظرنا للوطنية كحالة وجدانية شعورية، تربط كل المصريين ببلدهم برباط وثيق متين حتى مع وقوع المظالم عليهم، ومع عدم رضاهم عن حكامهم. عند المصريين مصر هي الوطن، الحكام هم الدولة، لكنهم ليسوا الوطن، الوطن فكرة يصنعها المصري بنفسه ولنفسه، أما الدولة فماكينة فقر وقهر وضبط وتسلط يصنعها الحكام لأنفسهم، لدى المصريين خبرات تاريخية فريدة في التفريق بين مصر والحكام وبين الوطن والدولة، ولهذا تظل فكرة الوطني من المعطيات المستقرة المطمئنة رغم المظالم قديمها وجديدها.
3- مشكلة مصر الآن هي في السلطة دون غيرها من العوامل، فمصر منذ نصف قرن لم تحارب حتى نقول إن الحروب هي السبب، ثم مصر تحررت من وجود آخر جندي استعماري منذ عام 1956، فلا يجوز القول إن الاستعمار هو السبب، ثم كافة قوى الإسلام السياسي هي من صنع الدولة المصرية وبمزاجها وعلى راحتها، ثم القول بزيادة أعداد السكان سبباً لتخلف مصر هو التخلف ذاته، لازم نعترف بالتشخيص الأمين: مشكلة مصر منذ آخر حرب 1973، هي في كيف تُحكَم مصر؟. الحكم في مصر هو الحكم في أمريكا لكن معكوساً، في أمريكا صلاحيات الرئيس في الداخل محدودة، لكن في مصر صلاحيات الرئيس في الداخل مطلقة، الرئيس الأمريكي تتم موازنة سلطاته بالكونجرس والمحكمة العليا والصحافة وحكومات الولايات والمجتمع المدني، الرئيس في مصر مطلق السلطات، ما إن يتمكن حتى يعيد كتابة الدستور، فيتمكن من كل شيء، ويفرض كلمته على كافة السلطات دون استثناء، القيود كثيرة على سلطات الرئيس الأمريكي في الداخل، سلطة الرئيس المصري معفية اعفاءً كاملاً من كافة القيود الدستورية أو القانونية، وأسهل شيء لديه تغيير الدساتير والقوانين. ثم يتساوى الرئيسان الأمريكي والمصري في الصلاحيات المطلقة في السياسة الخارجية مع فارق، أن قوة الداخل الأمريكي تمكن الرئيس الأمريكي من أن يتصرف- مثل ترامب- كإمبراطور أعظم، بينما ضعف الداخل المصري يجعل صلاحيات الرئيس المصري الخارجية مطلقة الضعف ومحدودة الفاعلية من الناحية العملية.
…………………………..
حتى تتخلص مصر من ضعف الداخل والخارج يلزمها أمران:
1 – الإيمان بأن الإنسان المصري هو رأسمال مصر القادر على الصعود بها إلى السماء.
2 – الانطلاق من فكرة أن الحكم الديمقراطي الحقيقي هو قارب النجاة الفعال للخروج من التهميش الإقليمي.