في زيارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لمنطقة الخليج تبدت ادعاءات، أقرب أن تكون تدليسا على التاريخ والحقائق وخداعا للنفس قبل الآخرين.

لم يكن اختيار الدول الخليجية التي قرر زيارتها في أول جولة خارجية بعد صعوده مجددا للبيت الأبيض عشوائيا.

بموازين وحسابات ما يمكن أن يجنيه من استثمارات تريليونية في شرايين الاقتصاد الأمريكي، اختار السعودية والإمارات وقطر بالذات.

صحب معه أساطين المال والأعمال في الولايات المتحدة، كأنه يقول لجمهوره في الداخل، إن شعاره “أمريكا أولا” موضع التنفيذ الآن، وأن كل سياساته وتحركاته تخضع لحسابات المصالح وحدها.

جرى استبعاد دول خليجية عديدة من جدول أعمال الزيارة، التي وصفت بـ”التاريخية”؛ لأنها لا تملك فائض أموال نفط وغاز يغريه بعقد صفقات معها، لكنه لم يمانع في قمة خليجية مصغرة، تضمهم بدواعي الأدوار التي يلعبونها في خدمة الاستراتيجية الأمريكية.

أضيفت البحرين، حيث مركز القوات الأمريكية في المنطقة، وسلطنة عمان، حيث مركز المفاوضات السرية والعلنية مع الإيرانيين والحوثيين، والكويت بمركزها الاستراتيجي التاريخي وعلاقاتها الخاصة مع الإدارات الأمريكية.

لم يضم مصر والأردن إلى الاجتماع الخليجي، على ما حدث سابقا.

كانت تلك رسالة تهميش لا تخفى، معيارها الرئيسي القوة المالية والاقتصادية.

مصر والأردن لهما ثقل جيو سياسي لا يمكن نفيه، لكن أوضاعهما الاقتصادية المتأزمة لا تدع مجالا وفق أهداف جولة “ترامب” لإضاعة الوقت.

إسرائيل قضية أخرى تستحق التوقف بالتأمل والتحليل عند حقيقة استبعادها من على جدول الزيارة المثيرة.

إذا ما نشأت في مفاوضات الدوحة للتوصل إلى صفقة تفضي لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى والرهائن الإسرائيليين، فإنه سوف يضم إسرائيل إلى جدول جولته في المنطقة.

بمعنى واضح وصريح، فإن هناك إشارات على أزمة تتفاعل العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، لكنها ليست انقلابا استراتيجيا في السياسات والأدوار الأمريكية بأزمات الشرق الأوسط.

لا طلاق محتمل، أو وارد في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.

أن يقال إن الأزمة تعكس تحولا استراتيجيا أمريكيا في سياساتها وأدوارها بأزمات الشرق الأوسط، فهذا وهم كامل.

الحقيقة أن هناك داخل اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة من يعتقد أن “نتنياهو” أصبح عبئا على إسرائيل.

بات “ترامب” أقرب إلى هذه الرؤية، وضجرا من سياسات وتصرفات حليفه السابق، ويرى أنها تضر بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

حسب “نتنياهو”، فإنه يطلب الحرب دون أفق سياسي بذريعة “النصر المطلق” واجتثاث “حماس”، رافضا إجراء أية صفقة تفضي إلى وقف الحرب والإفراج عن الرهائن والأسرى الإسرائيليين، خشية أن تفضي تداعياتها إلى إنهاء حياته السياسية.

بالمقابل لا يمتلك “ترامب” أية شبه رؤية متماسكة، أو معلنة عن اليوم التالي، ولا تعنيه الأفكار بقدر ما تشغله المصالح.

أفسح المجال واسعا أمام الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة للتنكيل بغزة وأهلها تقتيلا جماعيا وتجويعا منهجيا، لكنها لم تنجح في مهمتها، وبدا الإخفاق معلنا مع عودة عمليات المقاومة ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة في القطاع.

بدت السياسة الإسرائيلية أمامه فاشلة تماما، وهو كرجل صفقات يكره الفشل، أو التحايل عليه.

أفضى ذلك إلى التصرف بعيدا عن “نتنياهو” الفاشل في معالجة ملفات المنطقة المشتعلة.

أجرى اتفاقا مع الحوثيين لوقف إطلاق النار بينهما، دون أن تكون إسرائيل على علم مسبق وتركها وحيدة أمام صواريخ وضربات اليمنيين.

أقدم على فتح قنوات تفاوض مع إيران في سلطنة عمان حول المشروع النووي، دون أن تكون إسرائيل بالصورة، أو توضع في الاعتبار.

الأهداف واحدة، لكن المقاربتين مختلفتان تماما.

“نتنياهو” يطلب الحرب لتقويض المشروع النووي.. “ترامب” لا يستبعد ذلك الخيار، لكنه يفضل الحل التفاوضي.

استخدم في الرياض خطابا ملتبسا بشأن مستقبل المفاوضات مع إيران، ترك كل الاحتمالات مفتوحة، ربما لابتزاز الخليجيين، ألمح بوضوح أن الخطر الإيراني ما يزال ماثلا، وأن صفقات السلاح المقترحة ضرورة أمن ودفاع.

ثم جاءت عملية الإفراج عن الأسير الإسرائيلي الأمريكي “عيدان الكسندر” من خلف إسرائيل، التي اقتصر دورها على تأمين الإفراج عنه، ضربة كبيرة لحكومة إسرائيلية، تماطل في ملف الأسرى، كأنها تقايض على حياتهم مقابل بقائها في الحكم.

كان مستلفتا رفض “عيدان” لقاء “نتنياهو” قبل أن يتوجه إلى الدوحة للقاء “ترامب”.

كانت تلك رسالة بالغة السوء في وقت تشتد فيه الحملات الداخلية عليه.

تسابق أركان الحكومة في إبداء التشدد ضد أي حل محتمل.

ارتفعت معدلات القصف والترويع في غزة، كأنه رد ما على دعوات التفاوض.

بقوة الحقائق اضطر “نتنياهو” أن يرسل وفدا تفاوضيا إلى الدوحة للتوصل إلى صفقة، تقارب خطة “ستيف ويتكوف” المبعوث الشخصي لـ”ترامب”.

بتعبير “نتنياهو” فهو مستعد لوقف مؤقت لإطلاق النار مقابل الإفراج عن عشرة أسرى إسرائيليين.

حاول أن ينسب لنفسه فضلا في الإفراج عن “عيدان” بادعاء أن ذلك لم يكن ممكنا بغير الضغط العسكري.

لم ينف دور “ترامب”، لكنه نسب لنفسه الأهمية ذاتها في عملية “عيدان”.

كان ذلك التصريح استفزازا إضافيا لرئيس مهووس بنفسه.

لا يعهد عن “ترامب” أية نزعات إنسانية، لكنه اضطر لمتطلبات أهدافه في المنطقة للتدخل عبر مبعوثه الشخصي لتحسين الأوضاع الإنسانية المتدهورة في القطاع.

حسب “نتنياهو” المأزوم في تصوراته الأيديولوجية، فإنه لا توجد دول تقبل الهجرة الطوعية للفلسطينيين إليها رغم أن (50%) من سكان غزة مستعدون لمغادرتها إلى الأبد.

كان ذلك ادعاء لا يوجد دليل عليه، فقد فشل التهجير القسري بفضل مقاومة الفلسطينيين، وتشبثهم بأرضهم رغم المعاناة المروعة.

ثم كان الرفض المصري الأردني القاطع سببا إضافيا لقطع الطريق على ذلك السيناريو، الذي يعيد إلى الذاكرة أشباح النكبة الأولى.

“أهل غزة يستحقون مستقبلا أفضل”.

كان ذلك تصريحا لافتا من “ترامب” ونوعا من التراجع عن مشروعه لـ”تطهير غزة من سكانها”.. لكنه لا يعول عليه، فقد يعود إليه حسب الظروف والمتغيرات!

لم يعد “ترامب” أثناء جولته إلى حديث التطبيع:

“السعودية ستنضم في الوقت المناسب”.

لم يلتزم بفكرة “حل الدولتين”، لكنه لم يعارضها، كما كان يفعل سابقا.

بصورة أو أخرى، فإن كل ما يهم “ترامب” توفير بيئة هادئة نسبيا في الإقليم، تمكنه من عقد الصفقات الكبرى مع اللاعبين الإقليميين، وجني التريليونيات السهلة.

هذا هو جوهر جولته، دون أوهام أو مبالغات لا محل لها.