أثار إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا ردود أفعال واسعة في العالم، وحالة من الفرح العارم داخل سوريا، وباتت دمشق أمام مرحلة ” تطبيع” لعلاقاتها مع القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، ستفتح لها فرصا للتنمية الاقتصادية والسياسية.

إن رفع العقوبات عن سوريا ليس مجرد قرار إجرائي اتخذه رئيس أكبر دولة في العالم، إنما هو بوابة دخول لاندماج سوريا داخل المنظومة العالمية، بحيث سيسمح لها بالتصدير والاستيراد دون أي قيود، وستكون على بداية الطريق لحل مشكلات المشافي البدائية والمصانع المتهالكة، وستفتح الباب دون أي قيود أمام الاستثمارات الأجنبية، بما يعني أن عجلة الإنتاج سوف تدور وستخرج طاقة المواطن السوري في البناء والإنتاج إلى الفعل والعمل، وهي طاقة كامنة شهدها العالم مع سوريين المهجر، وكانت دليلا على جدية هذا الشعب وقدرته على العمل والإنجاز.  

إن التحديات التي تواجه النظام الجديد في سوريا عديدة ومركبة، فهناك الأزمة الاقتصادية التي كانت المقاطعة أحد أسباب تفاقمها، وهناك مشكلة التوافق السياسي بين النظام الجديد والمكونات الأخرى، وخاصة الدروز والعلويين، وأخيرا هناك أزمة بناء المؤسسات الجديدة، والتي لا زالت لم تنل توافقا شعبيا ومناطقيا، ولا زالت بعض الأطراف تنظر إليها على أنها امتداد للفصائل المسلحة، وليس مؤسسات وطنية محايدة.

والحقيقة، أن فرص نجاح رفع العقوبات على الواقع السوري ترجع في أحد أسبابها الرئيسية، أن المسار الذي اتخذه القادة الجدد في سوريا منذ سقوط بشار الأسد، تمثل في البعد عن فكرة اقتسام سلطة ومؤسسات المرحلة الانتقالية مع باقي أطراف المعادلة السياسية، كما جرى في تجارب عربية أخرى، حين جرى غالبا بتدخل خارجي تقاسم للسلطة قبل بنائها بين أطراف مختلفة في التوجه والحسابات السياسية والبنى العسكرية، وهو ما لم يحدث في سوريا، حيث أصبحت هناك مؤسسة حكم واحدة (أيا كان الرأي فيها) قادرة على الأقل من الناحية النظرية، أن تستفيد من أي دعم دولي سواء أخذ شكل رفع العقوبات أو غيره.

إن ما تميزت به التجربة السورية أن قادتها الجدد يبنون مؤسسات جديدة من خارج نظام المحاصصة واقتسام السلطة الذي فشل في كل التجارب العربية الأخرى، وأن البناء الجديد وضعته السلطة الجديدة بالتشاور فقط مع الآخرين، وأصبح على قمته قادة من لون واحد سواء في وزارة الدفاع أو الداخلية أو الخارجية.

هذا المسار يمثل فرصة نجاح، ويجعل العلاقة بالعالم الخارجي تحكمها سلطة واحدة، وليس شراكة بين سلطة مدنية وعسكرية، كما جرى في السودان أثناء حكومة حمدوك، أو انقسام بين الشرق والغرب كما هو حادث في ليبيا، ومع ذلك فإن هذا المسار لا يخلو من أخطار أهمها، كيف يمكن بناء مؤسسات دولة مهنية ومستقلة عن السلطة التنفيذية وخلفيات كثير من عناصرها قادمة من فصائل إسلامية مسلحة، مارس بعضها تجاوزات فجة.

لقد نجح النظام الجديد في مهمته الأولى التي تتمثل في إسقاط بشار، وضمن من أجل تحقيق هذا الهدف حاضنة شعبية من الأغلبية السنية وقطاعات واسعة من الطوائف الأخرى، ولكنه بالقطع لن يحصل على نفس الحاضنة، فيما يتعلق بتقييم أدائه في حكم البلاد.

والحقيقة إنه على مدار ٦ أشهر اتضح أن هناك مشكلات في بنية المؤسسات الحاكمة التي تعد امتدادا لفكر الفصائل المسلحة، وعكست ممارسات بعض أطرافها أفكارا متشددة وإقصائية بحق أبناء الطوائف الأخرى، وأصبح السؤال هل معظم عناصر الفصائل المسلحة وقواعدها تؤمن تماما بما يقوله أحمد الشرع؟ وما دلالة ممارسات تجري على الأرض، وتمثل خروجا فجا على الخطاب الرسمي المعلن بخصوص استيعاب جميع الطوائف واحترام الحرية الشخصية وغيرها؟

إن رفع العقوبات لا يجب أن يكون فقط بالمعنى الاقتصادي والمادي للكلمة، وهو أمر محوري ومطلوب، ولكنه يجب أيضا أن يستفاد منه من أجل إعادة بناء وتأهيل المؤسسات السورية الجديدة، بحيث تعمل ولو بحد معقول من الكفاءة، وتبني دولة قانون مدنية، بحيث يكون الاستثمار الخارجي أساسا في البشر وليس فقط “البيزنس”.

إن رفع العقوبات عن سوريا يمثل فرصة تاريخية لدمشق؛ لكي تندمج في النظام العالمي ليس فقط بشكل انتقائي، بمعنى أن تقول ما يردده أحيانا بعض أشقائها العرب: أعطونا الأموال والاستثمارات، ولا تسألونا عن أي شيء آخر ، وعلى رأسها كيف تدار الدولة وطريقة الحكم، إنما يجب أن يكون الاستثمار شاملا أي في الاقتصاد والصحة والتعليم وإعادة بناء المؤسسات وتأهيل عناصرها، وليس فقط البيزنس وبرج ترامب.   

رفع العقوبات فرصة تاريخية لسوريا لتأهيل العناصر “الإشكالية” التي وضعت في المؤسسات الحالية من الدفاع إلى الأمن العام وغيرها؛ لكي تصبح مقنعة للجميع داخل سوريا، لأنه في حال الفشل أو التلكؤ في إتمام هذه المهمة، فإن البديل سيكون من خارج المنظومة الحالية، وسيغير الخارج جلده بسهولة، ويمكن أن يتواطأ مع المحاولات الإسرائيلية لاستهداف وحدة سوريا، وليس فقط من يحكمون.

لقد تقدمت سوريا خطوة نحو الاستقرار وغيرت الولايات المتحدة تصنيفاتها لقادة سوريا التي سبق واعتبرتهم “إرهابيين”، والآن اعتبرتهم قادة تحرر وزعماء جديرين بالثقة، وهو أمر حدث مع زعماء كثر في العالم سبق وصنفتهم المنظومة الغربية كإرهابيين مثل نيلسون مانديلا، وياسر عرفات، ثم عادت واعتبرتهم قادة تحرر، فالمهم كيف سيستفيد هؤلاء القادة من الفرصة التي سنحت لهم لصناعة مستقبل أفضل لبلادهم.