لا يخلو مجتمع من الحاجة إلى قانون إجراءات جنائية، ليضمن به الموائمة ما بين حق السلطة العامة في العقاب، وبين حقوق المواطنين الإجرائية، بداية من لحظة توجيه الاتهام إليهم، أو القبض عليهم حتى تمام محاكمتهم في محاكمة عادلة، تضمن لهم فيها كافة الضمانات الخاصة بقرينة البراءة، تلك الضمانة التي يجب أن تلازم المتهم، ويعامل بها حتى تمام انسدال ستار المحاكمة، ومن هنا تأتي أهمية قانون الإجراءات الجنائية. ومن هنا تأتي أهمية أن يكون ذلك التشريع تقدمياً أو ديمقراطياً، يميل بصورة كبيرة إلى ضمان حقوق المواطنين وحرياتهم خلال هذه المراحل الإجرائية.

إذ أنه من الأوجب  والأحرص أن تتوجه تلك التشريعات إلى حماية وتعزيز حريات مواطنيها، وهو الأمر الذي يعد بمثابة قياس العلاقة ما بين النظام السياسي الحاكم، ومدى حرصه على ضمانات الحقوق، وهو ما يمكن أن نطلق عليه كون تلك التشريعات ديمقراطية، بما يؤكد حرص السلطات على ضمان الحقوق والحريات، والعكس يؤكد كذلك عكس ذلك المفهوم، إذ يبدو مدى تأثير التوجه السلطوي للحكومة بسلطاتها في مدى كون هذا التشريع ديمقراطيا أم ديكتاتوريا.

وحتى يستقيم القول، فلا بد وأن نؤكد على أن قانون الإجراءات الجنائية يمثل الظهير الحامي لحدود الشرعية، فيما تتخذه السلطات من إجراءات حال تنفيذها للقوانين العقابية، بداية من لحظة حدوث الجريمة، حيث لا يمكن في جميع الأحوال تصور الوصول إلى العدالة الناجزة في المواد الجنائية، والتي لا تقف إلا عند حد توقيع العقاب الملائم على المتهم جزاءً، بما اقترفت يداه، كذلك الأمر أو ربما أشد فلا يمكن تصور تحقق تلك الغاية المتمثلة في معاقبة المجرمين، إلا من خلال إجراءات جنائية تصون حقوقهم، في كافة مراحل التقاضي، بداية من لحظة القبض عليهم، نهاية بتنفيذ العقوبة المقضي بها، أو القضاء بتبرئة من تم تقديمه للمحاكمة، وإذ أنه لما كان التشريع «القانون» هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ويتعين أن يكون منصفا ومبررا، وبالتالي فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية في طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية مستندا إلى مبدأ عام، وهو الثقة في القانون لتنظيم الحريات.

وفي حديث للمستشار محمود فوزي بتاريخ الخامس والعشرين من شهر إبريل الماضي، ألقاه في مجلس النواب لمصري، أكد فيه على تلك المعاني، من الناحية النظرية كتقديم لقبول لمشروع قانون الإجراءات الجنائية، على أساس كونه يدعم الحقوق والحريات، حيث أكد في حديث على الأهمية الخاصة التي يحظى بها قانون الإجراءات الجنائية؛ كونه القانون المعني بتنظيم الإجراءات التي يجب اتباعها في التحقيق والمحاكمة والفصل في القضايا الجنائية، وهي مسائل ترتبط كل الارتباط بالمبادئ الدستورية، حيث ينظر إلى قانون الإجراءات الجنائية كأداة رئيسية في تفعيل وحماية الحقوق والحريات وسيادة القانون، كما أنه يعد أحد أهم ركائز النظام القضائي وتحقيق العدالة الجنائية، وذلك من خلال التنظيم الجيد والمتوازن لسير الدعوى الجنائية منذ لحظة ارتكاب الجريمة، وحتى صدور الحكم وتنفيذه، بما يوفر ضمانات المحاكمة العادلة التي تحمي حقوق جميع الأطراف، سواء المتهم أو المجني عليه.

لكن من الناحية الحقيقية، هل يمثل قانون الإجراءات الجنائية بالصورة التي انتهى عليها مجلس النواب المصري ضماناً حقيقياً لحقوق المواطنين وحرياتهم، أم أنه يميل إلى ترجيح كفة وغلبة تحكمية السلطة في تلك الحقوق مستخدمة في تمريره سيطرتها على الأغلبية النيابية، وبصورة أولية بحسب كونها صاحبة المشروع من أوله. إذ بمطالعة القانون الذي تم التصويت عليه والموافقة، نجد أن تلك القواعد الحامية للحقوق والحريات كانت غائبة بصورة أو بأخرى في نصوص ذلك القانون، حيث تطاولت نصوص قانون الإجراءات الجنائية على العديد من الأسس المرتبطة بحقوق الأفراد، ولم تأت نصوصه إلا داعمة للتضييق في أوجه ونقاط عديدة، بداية من التوسع بمنح سلطة الاستجواب لمأموري الضبط “على اتساع الكلمة، مروراً بعدم وجود تفعيل حقيقي للتضييق أو الحد من الحبس الاحتياطي، مروراً بمراحل المحاكمة وسماع الشهود، وضمانة الحق في الدفاع بشكل كامل غير منقوص، وهو ما يعبر عن توجه السلطة نحو البعد عن النسق الديمقراطي للقانون، علاوة على أن ذلك القانون لم يتضمن ضمانة واضحة وجازمة، تحول دون استمرار ظاهرة تدوير المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا أخرى لتبرير استمرار حبسهم.

وإذا كان الترويج لهذا القانون على أساس أنه يهدف إلى تحسين كفاءة النظام القضائي وتسريع وتيرة العدالة، ولكنه يخفي في طياته مخاطر جسيمة، تهدد بتقويض حقوق الإنسان، وتدمير ما تبقى من ثقة في القضاء، كما  أن التعديلات المقترحة تمنح النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي سلطات غير مسبوقة على حساب حقوق المتهم، أو المحتجز وحقوق الدفاع ومنها مثلا منح النيابة العامة سلطة واسعة في إصدار الأمر بإجراء تسجيلات للأحاديث التي تجري في مكان خاص، ومنح مأمور الضبط القضائي سلطة جوازية بالتحقيق مع المتهم، مما يعزز من هيمنة السلطة التنفيذية، ويضعف من دور القضاء كضامن لحقوق الأفراد.

وإذا كان الهدف الرئيسي لإقرار ونفاذ قانون الإجراءات الجنائية، هو تحقيق الالتزامات الدستورية والحقوقية الضامنة لحقوق المواطنين وحرياتهم، ولكن ما بداخل نصوص هذا القانون ما يتعارض مع الهدف من تحقيق المحاكمة العادلة، والحق في الدفاع بشكل رئيسي، وهذا الأمر هو ما أوضحه تقرير لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية الصادر عن مشروع ذلك القانون المقدم من الحكومة، والذي جاء فيه أن الهدف من وراء إصدار ذلك القانون كان لتحقيق عدة أهداف أبرزها، العدالة الناجزة وتطبيق أفضل صورها، وكذا تخفيف العبء على محكمة النقض، ويهدف كذلك إلى وضع أفضل الضمانات للمتقاضين؛ نظرا لخطورة الجنايات وآثارها على المتهم وذويه.

وإذ أنني أومن تماما، أنه لا يوجد ما يمكن أن يعادل من حرية الفرد، والتي تساوى فقط قيمة حياته، وأنه يجب على صانعي القوانين، أن يكونوا أكثر حرصا على حقوق الأفراد في الحياة والحرية، وذلك لكونهم يمثلونه كنواب عنه في هذا الصدد، ومن ثم وجب عليهم أن تتجه تشريعاتهم إلى ما يصون حريات الأفراد ويدعم حياتهم، وهو المعنى المقصود من مدى ديمقراطية القانون أو ديكتاتوريته.