محيرة هي كثيرا، سياسة الإمارات العربية المتحدة في النظام الإقليمي العربي.. منذ سنوات قليلة أصبحت الإمارة الصغيرة المكونة من عدة إمارات فرعية حديث الساعة في العالم العربي. حالة من الإرباك الكبير في السياسة الخارجية، صفقات وعداوات ومكايدات وسياسات ميكيافيلية، يندى لها الجبين.
في أدبيات العلوم السياسية، تبدو النظم السياسية كمراحل العمر البشري، فهناك مرحلة النشأة التي تشبه الطفولة، ثم اليفوع أو المراهقة والشباب، وبها كل مظاهر الاندفاع والتهور، ثم مرحلة النضج، وبدء الهرم والكبر، قبل أن يتم الأفول. هكذا تبدو الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها في مطلع سبعينات القرن الماضي، بين مرحلة الطفولة واندفاع وتهور الشباب، عقب خروج بريطانيا من المنطقة، وترك الساحة برمتها للولايات المتحدة. فقد ظهر النفط بكميات كبيرة في نهاية عقد الستينيات، وبدأ إنتاجه بغرض التصدير في بداية عقد السبعينيات، وتحديدا عالم 1962، بعدها بأربع سنوات، وقع الانقلاب الأبيض برعاية بريطانية بإزاحة الشيخ شخبوط عن الحكم، وتولى شقيقه زايد إمارة أبوظبي، ثم تألفت الإمارات العربية برئاسته عام 1971.
دولة لا تعرف للمبادئ طريقا
وعلى الرغم من أن رئاسة زايد للإمارات شهدت مرحلة استقرار في مجال السياسة الخارجية، حتى وصف رئيس الدولة بلقب “حكيم العرب”، إلا أنه ما أن توفى الشيخ في 2 نوفمبر 2004، انقلبت الأمور رأسا على عقب. فداخليا، شهدت البلاد تطورات اقتصادية مذهلة في مجال الاستثمارات الخارجية، والبنى التحتية التي فاقت كل تصور في وقت وجيز. وبطبيعة الحال، كان لوجود الشيخ زايد دورا كبيرا في بداية تلك المرحلة التنموية، لكن عقب وفاته وتولي ابنه الشيخ خليفة السلطة، وحتى وفاته في 14 مايو 2022، أصبحت البلاد في موضع آخر، ليس فقط على الصعيد الداخلي، حيث أصبحت الإمارة النفطية مربط الاستثمارات والتجارة العالمية، بل في المجال الخارجي، حيث نكست كل عهودها ووعودها ذات الطابع القومي، وأصبحت الجامعة العربية بالنسبة لها أداة تنظيم إقليمي لا فائدة منه سوى التعبير عن المواقف والسياسات التي ما برحت، أن تنقضها قبل أن يجف حبرها. كانت مسايرة باقي نهج البلدان العربية خارج منطقة الخليج داخل الجامعة العربية هو ما مردت عليه الدولة المزعجة حتى لجيرانها، لكن تلك المسايرة أنهت كل ارتباط لها بعالمها العربي، وربما الإقليم الخليجي.
ركض وركض خلف التطبيع
وعلى الرغم من العديد من السياسات الهدامة التي تتبعها الإمارات في إحداث اختراق كبير في مسألة خلق دور لهذا الكيان الفسيفسائي في المحيطين الإقليمي والعربي، بغرض تنمية قدرات الدولة الاقتصادية، حتى لو كان الثمن هو القضاء على كل من يقف في طريقها، ببث الفتنة والوقيعة بين أبناء الدولة الواحدة، إلا أن التطبيع مع الكيان الصهيوني كان هو السبيل الذي اعتبرته أبو ظبي الطريق للوصول إلى تلك الغاية.
في 14 مايو 2022 تولى حكم الإمارة الشيخ محمد بن خليفة آل نهيان، ورغم أن تلك الولاية شهدت تطورا كبيرا في العلاقات مع الكيان الصهيوني، إلا أن البداية كانت في 13 أغسطس 2020، يوم أن وقعت الإمارات اتفاقا للاعتراف بإسرائيل ضمن الاتفاقات الإبراهيمية التى أعد لها جيدا قبل شهور من ذلك التاريخ، وكان عرابها جاريد كوتشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. بعدئذ شهدت البلاد قفزات متسارعة نحو التطبيع التجاري والثقافي والعسكري، حيث وجد الكيان الصهيوني في تلك السياسة السبيل إلى اختراق منطقة الخليج، خاصة مع تشجيع عديد حكام الإمارات لعملية التطبيع، بشكل يقفز على كل السوابق التي مرت بها خطوات التطبيع المتعثرة، خاصة بين مصر وإسرائيل التي كان هناك ما يبررها- ولو من حيث الشكل- وهو تحرير سيناء.
المهم في خطى الإمارات، أنها باتت هي عراب التطبيع في المنطقة، فهي من قادت، وأعدت للقاء المنقوش- كوهين في إيطاليا في أغسطس 2023، بغرض تطبيع العلاقات بين ليبيا والكيان الصهيوني، قبل أن يفضح الأخير سر اللقاء بغباء، أعاد موجة التطبيع العربي الصهيوني إلى الخلف بضع خطوات، قبل أن يعيدها لمسافات بعيدة بعد بدء أحداث غزة.
لم تيأس الإمارات بسياستها الهدامة في تعميم خطى التطبيع، بعد عدة أشهر من أحداث غزة. سياسة الإمارات هنا، كانت بغرض ألا يقال إنها الوحيدة التي تطبع، فالجميع أصبح في خندق العاهرة، ولسنا وحدنا من نمارس الرذيلة السياسية. الإمارات تلجأ اليوم إلى تشجيع تونس، وربما موريتانيا على التطبيع للالتفاف على الجزائر بغية تطويقها، ورغم أن آمالها لا زالت بعيدة جدا، إلا أنها لا تكل ولا تمل في مسعاها.
مؤخرا، وبغرض تمرير سياسة “لسنا وحدنا المطبعين”، وأملا في إعلان استسلام حماس، سعت أبوظبي في نهاية الشهر الماضي للنيل من سيرة جمال عبد الناصر، فنبشت في عظام وأجداث المقابر، فروجت وربما هي من أخرجت له، ما أدعت بأنه تسريب لتمرير صلح منفرد بينه وبين الكيان الصهيوني عام 1970، رغم أن الأمر كله اتضح أنه ليس إلا مناورة من “ناصر” لبناء حائط الصواريخ، استعدادا لحرب أكتوبر.
تدمير السودان بعد ليبيا
لم تكن السودان الدولة الوحيدة التي تضررت من الإمارات العربية، فقبلها كانت ليبيا عقب القضاء على نظام القذافي، ودعم نظام حكم حفتر في شرق ليبيا، أملا في تفتيت تلك الدولة، بحجة هيمنة الإخوان على ليبيا انطلاقا من غرب ليبيا. سياسة الإمارات التي لاقت قبولا من الجارة والشقيقة الكبرى مصر في البداية، لم تعد كذلك في الفترة الراهنة، حيث بالغت الإمارات في سياساتها التي أسفرت عن تجميد الأوضاع السياسية، ووقف مساعي المصالحة المصرية، وتجنيد حفتر للعب دور إقليمي لتنفيذ سياساتها، بعد أن طلق الأخير هدف الوحدة الليبية، وسعى لتحقيق أهداف الإمارات.
الأسبوعان الماضيان عاودت الكَرة مرة أخرى في السودان، فعقب الانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش السوداني، الذي استمرأ هو الآخر حكم البلاد عسكريا بتشدده في نقل السلطة إلى المدنيين منذ سقوط حكم البشير في إبريل 2019، قامت الإمارات بإعادة إمداد الدعم السريع بالمسيرات والعتاد العسكري لضرب الخرطوم، والقضاء على ما حققه الجيش من انتصارات في غرب السودان. بعدئذ بأيام قليلة- وعقب تهريب عدة شحنات من الذهب من السودان إلى الإمارات- افتضحت شحنة النحاس المهربة من السودان عبر كينيا إلى الإمارات على يد حميدتي عميل الإمارات في السودان. جدير بالذكر أن السودان قام عقب انتصارات الجيش في مطلع مايو الحالي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات، وذلك بعد ساعات من حكم محكمة العدل الدولية في لاهاي، بعدم إمكانية المضي قدماً في قضية دعم الإمارات الإبادة الجماعية في السودان، لأن الإمارات انسحبت من المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، ما يعني أنه لا يمكن مقاضاتها من قبل دول أخرى بشأن مزاعم الإبادة الجماعية. وهذا الحكم كما يُرى إجرائي وشكلي، ولا يعني أن الإمارات غير متورطة في جرائم الإبادة في السودان.
ضرب الوحدة في اليمن
ولم يكن الشطر الجنوبي من اليمن هو الآخر إلا موعدا للقاء النهب الإماراتي المنظم للإمكانات الجيو سياسية لليمن، الموعود هو الآخر بسوء الحظ منذ النكبات التي راوحت الانفصال والوحدة بين شطريه. استغلت الإمارات الوفورات النفطية التي تتيح لها الإنفاق بلا حدود، فراحت تحتل جزءا معتبرا من الشطر الجنوبي لليمن. فمنذ أن بدأ التحالف العربي في 26 مارس 2015 “عاصفة الحزم” بمشاركة عدة دول عربية على رأسها الإمارات، ابتكرت تلك الأخيرة غرضا جديدا لها من تلك الحرب، فكان لها وحدها التواجد على أرض اليمن لتنفيذه. وبدلا من أن تسعى الإمارات لتحرير جزرها من يد إيران، قامت باحتلال جزيرتي ميون وبريم المشرفتان على باب المندب، وكذلك مواني عدن والمخا وجزيرة سُقطرى، وقامت بمخالفة الغرض من الحملة السعودية على اليمن، بالتوسيع من نفوذها بإنشاء حركات انفصالية ممولة منها بسخاء، كما دعمت المجلس الانتقالي الجنوبي، وكان كل غرضها منع وحدة اليمن، ومنع الحكومة الشرعية بزعامة عبد ربه منصور هادي المدعوم من قبل السعودية من العودة إلى عدن، بل أنها قصفت قوات الجيش اليمني لمنعه من تلك العودة. وكانت الإمارات قد حصلت على ضوء أخضر من الولايات المتحدة للتواجد في تلك المنطقة بذريعة تأمين التجارة البحرية في الممر الملاحي المطل على البحر الأحمر، ولمنع تطوير المواني اليمنية لمنافسة مواني الإمارات، وهو نفس ما فعلته بهيمنتها على مواني في جيبوتي وأريتريا وأرض الصومال. جدير بالذكر أن تطوير المواني واحتكار الممرات البحرية هو هدف، تعتبره الإمارات أكبر الغايات لتنمية قدراتها الاقتصادية.
محاولة الهيمنة على مصر وتقويض قوتها
في ذات الإطار سعت الإمارات بالتوازي للهيمنة على المقدرات الاقتصادية لمصر، مستغلة أزمتها الاقتصادية الناتجة عن خفض قيمة العملة المحلية، وارتفاع معدلات التضخم، والخلل في الميزان التجاري، وكلها أمور تفاقمت بعد التيه الذي نتج عن فقد بوصلة أولويات التنمية بالتركيز على بناء العاصمة الإدارية والعلمين والعشوائية المفرطة في تطوير خدمات النقل والمواصلات. تم للإمارات العربية المتحدة، ما أرادت من خلال عمليات الاحتكار بوسائل عدة منها الشراء والشراكة للعديد من المناطق في قناة السويس بالتعاون مع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والشراكة في تطوير رأس الحكمة على ساحل البحر المتوسط، وكذلك شراء عديد الشركات العملاقة التي يملكها الجيش والتي طلب صندوق النقد بيعها لمستثمر استراتيجي، ناهيك عن قيامها بشراء قطاعات خدمية كاملة كبعض المستشفيات الخاصة العملاقة ومعامل التحاليل والإشاعات الطبية، ومواني العين السخنة، وعديد شركات الأسمدة وحفر آبار النفط، وكذلك الشركات العقارية وبعض سلاسل التوريد.. إلخ. وكل تلك الأمور تتيح للإمارات تصدير رأس المال الناتج عن الأرباح التجارية إلى الخارج دون رقيب.
ما زاد على كل ما سبق، أن تقوم الإمارات بتطوير علاقاتها بإثيوبيا بشكل ملفت، وتنقذ نظام آبي أحمد من السقوط، عندما كان على حافة الانهيار بعد هزيمته على يد التيجراي في عام 2021 /2022، وهو أمر مخالف بالكلية لسياسة مصر الهادفة لتقويض قدرات هذا البلد المارق الذي أنشأ سدا على النيل للسيطرة على مياهه.
وهكذا أصبحت الإمارات شوكة في ظهر أي عمل عربي، يهدف إلى مواجهة الكيان الصهيوني، وكذلك وحدة الصف، أو التلاحم الداخلي بين أبناء البلد العربي الواحد. وهو أمر من المهم الوقوف أمامه، وكشف نواياه وأغراضه، والحذر منه.