بقلم – عبد الجليل الشرنوبي

“ما فعله عبد الله هو إزالة صمام الأمان الوحيد المتبقي في المملكة”، هكذا اختتم الكاتب البريطاني (ديفيد هيرست) تقريره الذي عنونَه “الأردن يضحي بالإخوان؛ إرضاءً لأمريكا وإسرائيل”، ونشرَه بالإنجليزية عبر الموقع المُوجَه للرأي العام الغربي (ميدل إيست آي)، بعد أسبوعين مِن قرار، أعلنَه وزير الداخلية الأردني بـ(حظر جماعة الإخوان المسلمين المنحلة والانتساب إليها، وإغلاق مكاتبها، باعتبارها جمعية غير مشروعة).

لم يكن (هيرست) هو أوَّل من يعتبر (جماعة الإخوان) بمثابَة (صِمام أمان للدُوَل)، بل سَبَقَهُ في مارس عام 2017، تقرير لجنَة الشؤون الخارجية بالبرلمان البريطاني، والذي بحسب توثيق لَجنَة التاريخ بالإخوان– إخوان ويكي- خلص بعد عام من التحقيق إلى (أن الإسلاميين جدار حماية ضد التطرف العنيف، وينبغي أن تتعامل معها بريطانيا، عندما تكون في السلطة أو في المعارضة)، وبالمُناسبَة كان موقع ميدل إيست آي الذي يديرُه (هيرست)، هو الناقل الأوَّل لخلاصَة تقرير لجنة الشؤون الخارجية حول الإخوان.

وفي سياق طرح (هيرست)، وفي نفس التوقيت، نشر المعهد الأمريكي “كوينسي للحكم الرشيد- Responsible Statecraft” تقريرًا عنونه “هل كان حظر الإخوان المسلمين في الأردن محاولة لإرضاء إسرائيل والسعودية؟”، أشار إلى أن “تعامل الأردن مع ملف الإخوان يثير تساؤلات حول قدرة النظام على احتواء حالة الغضب الداخلي، محذرًا من أن استهداف الجماعة قد يؤدي إلى تصاعد الاحتقان الشعبي، بدلًا من احتوائه، في ظل التحديات الوجودية غير المسبوقة التي تواجه المملكة”.

يبقى طرح (هيرست) تكريسا لتوصيف تقليدي، طالما حبس تقييم تنظيم الإخوان في خانَة أحادية اللون عقديًا وفكريًا وتطبيقيًا، باعتبار التنظيم دوليًا وقُطريًا، يتحرك دونما تباينات ترتبط بالجغرافيا أو بالتوجهات داخل القُطر الواحد، وهذا التوصيف التقليدي، طالما أضفى ضبابية على قراءة الواقع التنظيمي وتطور تفاعلاتِه داخل بنيته أو الخارجية في محيطه.

لكن طرح (هيرست) ومن بعده المعهد الأمريكي “كوينسي” يحصر قراءة المشهد الإخواني في حالَة تقليدية–ماضية- لمركزية الإدارة التنظيمية، وهي حالة تجاوزها التنظيم على مستوياتِه الدولية والقُطرية والفردية، وتم القفز عليها بعد ما عرف بالربيع العربي، وتسارع سقوط تجارب التمكين، وخاصة في مصر، الأمر الذي أدخَل المجتمع التنظيمي– القواعد- ومعها إداراتُه– القيادات والمكاتب- في حالة عولَمَة قفزت بالجميع خارج حدود الأقطار، وفتَحت المكونات جميعها على خبرات تواصل واتصال مع تنظيمات وجماعات وأنظمة وأجهزة (!)، ما أثر مُباشَرة في تعدد الخطط والخطابات وتقاطُع المصالح مع توجهات ونُظم وأجهزة أيضًا، وجعَل الجماعَة الواحدِة فكِرَة وهدَفًا، مُتعددة شكلًا وإدارات، وهو ما تنبهت له مُبكرًا الإدارة الدولية للتنظيم، وعمدَت إلى احتواء نسبي للجميع عبر استراتيجية “التجسير والتجبيه”، مدًا لجسور التواصل مع الجميع، وصولًا إلى تجبيه يُوحِد أكبر الكتَل التنظيمية ودوائر تنسيقها مع الأهداف المرحلية سواءً دوليًا أو قُطريًا.

هذ الواقع جعَل التنظيم داخل القُطر الواحد مُتعَدد المواقف، بما يسمح لحاملي أفكاره بالحضور في كُل الساحات تأييدًا أو معارضَة أو حتى حيادًا، ولهذا يُناقض طرح (هيرست) حالة التباين في المواقف ما بين إخوان الأردن والطيف التنظيمي للإخوان دوليًا، وبحسب الباحث الأكاديمي الدكتور خيري عُمر والمُتابِع عن قرب من تركيا لتطورات الواقع الإخواني، فإن سياقات الأحداث تُشير إلى “اتساع تأثر إخوان الأردن بالفواعل الخارجية على حساب الانضباط بتوجّهات الدولة، بحيث صاروا أمام اختيارين، رفض قرارات الحكومة أو الإذعان النسبي لها”. وبحسب اتجاه البيانات والتصريحات، يرى الباحث، أن الجماعة “تبدي استجابة واسعة لتجنّب أزمة سياسية والدفاع السلمي عن مصالحها. على خلاف تحدّي السلطة، ما يقرب من عامي طوفان الأقصى”.

إن إشكالية طرح (هيرست) الرئيسة هي (التعاطي مع إخوان الأردن، باعتبارهم كيانًا واحدًا متوحد الأهداف)، والواقع حاليًا على غير ذلك، بل إن الواقع التنظيمي لإخوان المملكة مُنقسِّم انقسامًا حادًا مُنذ بداية الألفية، ووصل إلى حد اعتراف التنظيم الدولي ومكتب الإرشاد العالمي في العام 2008، بوجود تنظيمين للإخوان في الأردن أحدهما: (التنظيم الأردني) والآخر (التنظيم الفلسطيني في الأردن)، وهو الواقع الذي أقرت به لجنة شكلها مكتب الإرشاد العالمي برئاسة “د. حسن هويدي” نائب المرشد، وعضوية كل من “المستشار عبد الله العقيل والمهندس سعد الحسيني وحسين محمد”، وتم إيفاد هذه اللجنة إلى الأردن في الفترة من 2 إلى 5 أغسطس 2008، بعد أن تفجرت الخلافات بين إخوان الأردن الأردنيين والفلسطينيين، في أعقاب اجتماع مجلس الشورى العام للجماعة بتاريخ 31/ 7/ 2008 م، والذي انتهى في قراراتِه إلى قرارات فصل وإحالة للمحاكمة الداخلية، طالت عددا من قيادات الإخوان الأردنيين على رأسهم المراقب العام السابق (عبد المجيد الذنيبات).

كان مكتب الإرشاد العالمي قبل قرابة 20 عامًا، مُستوعبًا لما تجاوَزَتهُ حاليًا أطروحة (هيرست) وآخرون كثيرون، ولهذا صارَح تقرير لجنة هويدي 2008 الإدارة العالمية للتنظيم، أن “التركيبة العرقية التي يتكون منها الشعب الأردني- أصل أردني وأصل فلسطيني- لها أثر واضح في تكوين العلاقات والتربيطات وتحديد المواقف”، هذه التركيبة بحسب التقرير، دفعت لتنامي شعور عام له شواهده لدى الإخوان من أصول أردنية “بوجود نفوذ وتدخل من حماس في الساحة الأردنية، وكذلك على ساحة المكاتب الإدارية بالخليج، بما يعني أن هناك ازدواجية في التأثير واتخاذ القرارات”. ومِن ناحية أُخرى بلَغ حد نفوذ إخوان فلسطين في التنظيم الأردني، أن شنوا حملة بدأت الإجراءات لاستصدار قرار بفصل المُراقب العام السابق– الذنيبات- لولا تدخل مكتب الإرشاد العالمي حينها، انطلقت هذه الإجراءات، اعتراضا على كتابته “بعض المقالات التي فيها بعض النقد لحماس” بنص تقرير لجنة هويدي.

كان مكتب الإرشاد العالمي قد اتخذ قراره، فيما يخص الأردن نهاية 2007 مع بداية تفاقم الصراع بين المرجعيات التنظيمية الأردنية والفلسطينية، وتبلورت تنسيقًا في اجتماع، حضره ممثلون عن قيادة كُل الأطراف في اجتماعات بيروت (15، 16 فبراير 2008)، وانتهت إلى– نصًا-:

  • “التأكيد على وحدة تنظيم بلاد الشام داخل الساحة الأردنية وفي المكاتب الإدارية التابعة له”.
  • “بعد قيام التنظيم الفلسطيني يجري الحوار بينه وبين تنظيم بلاد الشام للتوافق حول صيغة العمل الفلسطيني في الأردن وفي المكاتب الإدارية التابعة له”.

ومع ذلك، ظل تخوف مكتب الإرشاد العالمي واضحًا في الخطاب الذي أرسله أمين عام التنظيم (إبراهيم منير/ أبو أحمد) إلى المراقب العام (همام عبد الله سعيد) بتاريخ 23 يناير 2008، والتي صرحت بالخوف من “حدوث إشكالات بين تنظيم بلاد الشام وجهاز فلسطين- الذي سيتحول إلى تنظيم فلسطين- وقد يتسبب بإشكالات تعقد الأوضاع التنظيمية في الأردن، وتعرقل العمل الفلسطيني”.

وهكذا بنهاية عام 2008، بات الصراع مكشوفًا بين تنظيميّ إخوان الأردن الأردنيين والفلسطينيين، صراعًا طالما سعى التنظيم الدولي لاحتوائه، وعندما فشل في ذلك حرِص على إرضاء جميع الأطراف؛ لتكون لُه المرجعية لدى الجميع، وكذا ليكون إلى جوار الفائز، قُربًا من السُلطَة أو تمكينًا منها، ومِن شواهد ذلك، أن مكتب الإرشاد العالمي أوصى بمراجعَة قرار المكتب التنفيذي لإخوان الأردن الذي سيطر عليه قرار الجناح الفلسطيني، وكان القرار بفصل المراقب السابق (الذنيبات/ أبو محمد) لقبوله قرار الملك تعيينه في (مجلس الأعيان)، باعتبار ذلك– نصًا” إهانَة للجماعَة، وممالأة للملك”، في حين كان توجه المكتب العالمي يرى– نصًا- “أن إيجابيات قبول هذه التعيين من الملك أكثر من سلبياته، سواء بالنسبة للجماعة في الأردن أو الجماعة بشكل عام، إذ ليس في مصلحتنا ولا من خطتنا، وليس من مصلحة بلادنا، أن ندخل في مواجهة مباشرة مع الرؤساء والملوك، ويكفينا مواجهة الحكومات والاصرار على مطالبنا الإصلاحية”.

كان الإرشاد العالمي مُدرِكًا حجم العلاقة التاريخية الفاعلِة بين المؤسسة الملكية الأردنية، وبين المكون الإخواني الأردني بتعاقب الملوك، وصولًا إلى الملك (عبد الله الثاني)، رغم نقلِه ملف التنسيق الإخواني من الدائرة الملكية– السياسية- إلى الدائرة المخابراتية –الأمنية-، ولهذا رفض إقصاء (الذنيبات) من المشهد الإخواني الرسمي، وأوصاهم بمراجعة قرارهم و”في حالة إصرار المكتب التنفيذي على قراره المتعلق بالأخ أبي محمد، نطلب إحالة القرار مع الملف كاملا إلى مكتب الإرشاد الذي يتولى مباشرة معالجته لموضوع المحاكمة، وذلك باعتبار الأخ أبي محمد عضوا في مكتب الإرشاد وفي مجلس الشورى العالمي، استنادا للمادة 44 من اللائحة العامة، والتي تجعل محاسبة عضو مكتب الإرشاد مناط بالمكتب نفسه”.

كانت مُشكلَة إخوان الأردن مع الملك باعثها التنظيم الأردني ذي المرجعية الفلسطينية، وكان “الذنيبات” يُدرك ذلك، تمامًا كما أدركته معه الإدارة الدولية للإخوان، ولهذا كانت الإجراءات الصدامية بين المؤسسة الملكية والإخوان محورها التوجهات المرتبطة بإخوان الأردن الفلسطينيين مثل (إغلاق مكاتب حركة حماس وإبعاد قادتها خارج الأردن- اعتقال أربعة النواب الإخوان؛ بسبب ذهابهم إلى بيت عزاء “أبي مصعب الزرقاوي” عام 2006- حل الهيئة الإدارية لـ”جمعية المركز الإسلامي” عام 2010، وتجميد أموالها- اعتقال نائب المراقب العام حينها زكي بني ارشيد عام 2015 بتهمة الإساءة إلى الإمارات).

في هذه الأجواء كان (الذنيبات) يُمثل الصوت الثوري لإخوان الأردن الأردنيين، وكان أن صَدَر في العام 2014 تعديل قانون الجمعيات الأردني، فارضًا على الجماعة، أن تعيد شروط الترخيص الخاص بها، لكن قيادَة الجماعة رسميًا رفضت تصويب أوضاعها، باعتبار وجودها أقدم من كل القوانين، وهو الخيط الذي التقطَه المراقب العام الثالث (الذنيبات) ليحسم الشرعية لصالح إخوان الأردن الأردنيين، فتقدم بطلب لإنشاء جمعية جديدة تحت اسم “جمعية جماعة الإخوان المسلمين”، وأصبح لَه الإشهار الرسمي، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل تقدم في عام 2016، باسم الجمعية الجديدة بدعوى على الجماعة  “لاستملاك الممتلكات والمباني والأراضي، وكل ما يعود إليها”،

ومنذ العام 2016، بدأت تتابع الإجراءات الرسمية تضييقًا على جناح إخوان الأردن الفلسطينيين، حيث (أغلقت السلطات الأردنية المقر الرئيسي لجماعة الإخوان في عمان، وبعض المكاتب الفرعية في محافظات أخرى- بدأت تحقيقات في الأصول المالية– فرضت قيودًا على تنظيم الفعاليات العامة- منع بعض قيادات الإخوان من السفر أو الظهور الإعلامي– تم التضييق على جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وجمدت العشرات من فروعها– منع الترخيص لقناة اليرموك الذراع الإعلامي للجماعة وحزب جبهة العمل الإسلامي).

وبعد 4 سنوات من رفع الدعوى، و6 سنوات من إقرار قانون الجمعيات الأردني الجديد، وفي 2020 أعلنت محكمة التمييز– أعلى سلطة قضائية بالأردن- عن قرار قطعي بحل الجماعة، وهو القرار الذي ظل متجمدًا حتى مرور الأسبوع الأول على ضبط خلية (تصنيع الصواريخ).

ولهذا، فإن قراءة واقع قرار السلطات الأردنية بحظر (إخوان الأردن)، يُمثل انحيازًا رسميًا ملكيًا، يُحرر إخوان الأردن الأردنيين من سيطرة إخوانهم الأردنيين الفلسطينيين، وهو القرار الذي طالما حلُم به قطاع كبير له قيادي تاريخي لإخوان الأردن، يمثله هو المراقب العام الثالث، وكان الحظر الخيار الصعب الذي لجأت إليه المؤسسة الأردنية الملكية، بعدما تنبهت، لأن ترك الساحَة الإخوانية لإدارة إخوان الأردن الفلسطينيين في ضوء أجندتهم وتبعياتهم وتحالفاتهم الإقليمية، ستنتهي إلى تطبيق النموذج التنظيمي الحمساوي الذي يتحرك خارجيًا عبر ساحات الإسناد القائمة على الحضور الفلسطيني أو التحالف الإقليمي، وهو الهدَف الذي يوصفه الباحث الأكاديمي (خيري عمر)، بأنَّه يسعى “ليكون السياق الأردني ضمن تسيير التنظيم العالمي للاحتجاج ضد حكومتي الأردن ومصر، وهز سيطرتهما على الحدود بتحريض الجيوش والأفراد على اجتيازها”، وهو بطول أمد الحرب وسقوط الهدنة حوَّل حراك الإسلاميين العالمي الأردن إلى “مركز للاحتجاج بمعاونة بعض هوامش الجماعة في المنافي”.

إن واقع حظر إخوان الأردن لا يعني حظرًا للإخوان كافَة، فليس كل إخوان الأردن محظورين، ولا يعني أيضًا خصومَة مع كل إخوان فلسطين، فجميعهم ليسوا حماس غَزَّة، كما أنَّه لا يفتح بابًا لتحول جناح مِن التنظيم إلى العنف، كون هذا الجناح قائما أصلًا باستقلالية عن باقي الأجنحة، وبالتالي فإن الموقف التنظيمي مِن قرار الحظر ليس كُله مُرحبًا بالقرار، ولا جميعه يدعو إلى الجهاد في مواجهته، أو حتى مُستنكرًا حد الدعوة للتصعيد عبر فعاليات المواجهة الجماهيرية، بل إن المهندس مراد العضايلة المراقب العام لإخوان الأردن، فور إعلان قرار حظر الجماعة أجرى تعديلًا على تعريف حسابه الرسمي بمنصة X “تويتر”، حيث أزال صفَتَهُ بالجماعة من التعريف “مراقب عام لـجماعة الإخوان المسلمين– الأردن”، مُكتفيا بأن يعرف حسابَه بصفة “الصفحة الرسمية” مع وسم “مرادنا الإصلاح”!.

صحيح تَم حظر للإخوان في الأردن، لكن الأدق هو أن قرار الحظر موجهًا إلى جناحٍ تجاوز أولويات حضوره داخل الإطار القطري للدولة، وهو ما ترفضه الإدارة الأردنية شكلًا وموضوعًا، وترفضه الإدارة العالمية للتنظيم شكلًا.