لكل بلد أو تكتل دولي أو حضاري أوراق قوة وضغط، حتى لو كان ناميا، صحيح أن هذه الأوراق تتفاوت من بلد إلى أخرى، لكن معيار النجاح والتأثير الدولي يكمن في قدرة كل دولة على الاستفادة المثلى من أوراق القوة التي تمتلكها، سواء كانت محدودة أو كبيرة.

والحقيقة، أن الجدل الذي دار حول القمة الأمريكية السعودية في الرياض لدى قطاع واسع من الرأي العام العربي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي من الوارد، أن يختلف فيه الناس على مخرجات القمة، أو يعتبرون أنها لم تضغط بما يكفي لوقف الحرب في غزة، ولكنها لا يجب أن تتجاهل، أننا أمام نموذج وظف قدراته المالية الاقتصادية، لصالح ما يراه يخدم مصالحه الوطنية، وإنه يعتبر استثماراته الكبيرة في أمريكا، مسألة ستفيده اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا، كما تفيد أمريكا.

إن دول الوفرة الاقتصادية تستفيد من قوتها المالية لصالح خيارات سياسية، تراها في مصلحتها، كما حدث مع القرار التاريخي للرئيس الأمريكي برفع العقوبات عن سوريا، والذي ما كان ليتم لولا وجود ضغوط سعودية وتركية، قدمت فيها حججا قوية ومبررات سياسية لإدارة ترامب، دفعته لاتخاذ هذا القرار، حيث شهدنا توظيفا للقدرات الاقتصادية لصالح خيار سياسي محدد في صالح الشعب السوري، ونال ترحيبه وعزز من تأثير السعودية وحضورها السياسي.

أما تركيا، فهي ليست دولة نفطية، يمكنها أن تهدي ترامب طائرة رئاسية بمئات الملايين من الدولارات، أو توقع عقدا بصفقة تجارية مع شركة بيونج بحوالي ٢٠٠ مليار دولار، إنما هي تبني قاعدة صناعة قوية وصناعة سلاح متطورة، ناهيك عن حضور ثقافي وسياحي، بات هو الأول بين البلاد الشرق أوسطية، كما امتلكت أوراق ضغط وقوة في سوريا وليبيا، حتى وصلت لحد بلدان إفريقية كثيرة.

كل هذه الأوراق، جعلت تركيا غير النفطية في وضع القادر على الحضور والتأثير الأول في بلد مثل، سوريا وجعلتها في حالة توازن ردع مع إسرائيل، تتعاون معها، وكل طرف يعمل حساب للآخر، وفي نفس الوقت تمارس ضغطا محسوبا، لا يؤدي إلى اندلاع مواجهه شاملة في غير صالح البلدين، وهذا ما سبق ووصفته من قبل على صفحات موقع مصر ٣٦٠ ” باللعب بين الكبار” الذي يتطلب شروطا وتوازنات دقيقة، تختلف عن المواجهات غير المحسوبة التي شهدتها منطقتنا العربية أكثر من مرة مع إسرائيل، وكانت نتائجها وخيمة.

أوراق القوة ليست مرتبطة بالثراء النفطي، إنما هي بالأساس أوراق قوة اقتصادية وسياسية، وهي صناعة وزراعة وثقافة ونخب حاكمة لديها كفاءة وخيال سياسي، كل ذلك هو الذي يصنع أوراق القوة والوزن الدولي.

والحقيقة، أن التحول الذي شهده العالم في النصف قرن الأخير، تمثل في أن أوراق القوة هذه لم تعد تبنى من أجل الانكفاء على الذات والعزلة عن العالم، كما جري أثناء الحرب الباردة والاستقطاب الأيديولوجي بين الاشتراكية والرأسمالية، حيث كان هدف كثير من النظم هو فك الارتباط مع المنظومة الرأسمالية العالمية، وبناء نموذج منعزل عن العالم، فكانت الصين أحد أبرز تجارب النجاح في ذلك الوقت، ومعها تجارب أخرى، نجحت، وتعثرت، في تحقيق هذا الهدف.

وقد غيرت بكين من مشروعها منذ نحو نصف قرن، ووظفت أوراق قوتها الصناعية والزراعية التي بنتها في عقود الشيوعية؛ لكي تندمج في النظام العالمي، وأصبح هدف قاعدتها الصناعية الداخلية ليس أساسا الاكتفاء الذاتي، إنما التصدير والمساهمة في التجارة العالمية والتأثير في المنظومة الدولية.

وقد سمحت قوة أوراق الصين، أن تختلف مع أمريكا والنموذج الغربي، حتى لو بقت جزءا من النظام الرأسمالي ومن العولمة الاقتصادية، وباتت تقدم نموذجا مختلفا عن الذي قدم في عهد الرئيس الصيني الراحل ما وتسي تونج، والذي عمل على تأسيس نظام قوته تكمن في الانقطاع عن النظام العالمي، كما سمحت لها هذه الأوراق، أن تلقى بجرأة أطنان المساعدات الإنسانية لأهالي غزة دون استئذان من أحد.

أما إيران “الممانعة”، فهناك محاولات حثيثة لإدماجها في المنظومة الدولية عبر المفاوضات التي تجري مع إدارة ترامب، وإن الاختبار الحالي هو لأوراق قوتها الداخلية في مواجهة الضغوط الأمريكية، بعد أن أُضعِفت تماما أوراقها الخارجية، وخاصة ورقة حزب الله.

إن العالم بأقطابه وقواه المتعددة أصبح يسمح بتنوعات داخله وفق قدرات كل دولة الاقتصادية وحضورها السياسي، وأصبح معيار تقدم أي بلد ووزنها في النظام الدولي، يكمن في مدى توظيفها لأوراق القوة التي تمتلكها على الساحة الدولية، وهي ليست بالضرورة أوراقا مالية مرتبطة بثراء جاء من باطن الأرض أو هبط من السماء، إنما بالأساس هو نتاج عرق وجهد، ومنظومة سياسية، واقتصادية كفؤة، وناجحة.

إن التأثير في النظام العالمي يعني امتلاك أوراق قوة داخلية ومقومات اقتصادية وسياسية، لكي تصبح طرفا مؤثرا في المعادلات الدولية، ويكون لديها القدرة على تعديل كثير أو قليل من جوانبها.

لم تعد أوراق القوة الداخلية التي تمتلكها أي دولة هي من أجل فقط تحقيق الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على الخارج، إنما في توظيفها لصالح حضور خارجي، وأن أبواب الله مفتوحة لصور وأشكال مختلفة من التأثير والحضور، لا تعتمد فقط على الثراء المالي، إنما على اعتبارات كثيرة أخرى، وهذا ما فعلته تركيا وإيران اللتان امتلكا أوراق قوة كثيرة رغم اختلاف النموذجين، وتباين طريقتهما في تحقيق مصالحهما.