الضربات الاستخباراتية والضربات المضادة من طبيعة الحروب السرية.

كان القبض على الجاسوس الإسرائيلي “إيلي كوهين” في منتصف ستينيات القرن الماضي، وإعدامه في ساحة المرجة بقلب دمشق، حدثا مزلزلا في بنية الدولة العبرية.

كانت تلك ضربة موجعة للموساد الإسرائيلي، الذي راهن عليه في اختراق مراكز القيادة والتأثير السورية قبيل حرب يونيو (1967) بعامين.

جرت زراعته في الأرجنتين كرجل أعمال سوري مهاجر، توافرت له ثروة طائلة قبل أن ينتقل إلى دمشق صديقا مقربا لرئيسها في ستينيات القرن الماضي، الفريق “أمين الحافظ”.

عاين المواقع العسكرية السورية بصحبة الرئيس، واطلع على أدق الأسرار والخفايا بفائض الثقة فيه.

تكاد تجربة “إيلي كوهين” في سوريا أن تكون نسخة مشابهة لقصة “رفعت الجمال”، الشهير إعلاميا بـ”رأفت الهجان”.

إذا ما صحت الرواية الإسرائيلية، التي يصعب التسليم بها، من أن “الهجان” جرى اكتشافه، واستخدامه كـ”عميل مزدوج”، فإن الفكرة كلها تصبح مصرية.

قدم “الهجان” للمجتمع الإسرائيلي كيهودي مطارد، يعتنق الفكر الصهيوني، وينتسب لعائلة لقت مصرعها في المعسكرات النازية.

كان ذلك توظيفا لموهبته في التقمص وإتقان أكثر من لغة أجنبية.

وقدم “كوهين” للمجتمع السوري باسم “كامل أمين ثابت” كرجل أعمال ثري مهاجر إلى الأرجنتين، يريد أن يخدم بلاده ويستثمر فيها.

كان ذلك توظيفا لقدرته بحكم أصول أسرته المنحدرة من حلب على تمثل ثقافة أهل الشام، رغم أنه ولد في الإسكندرية وعاش فيها لفترة طويلة.

على مدى ستين سنة من إعدام “كوهين”، اعتبر بطلا إسرائيليا، تنسب له أدوارا في التفجيرات بشوارع القاهرة، التي يطلق عليها “فضيحة لافون”.

يطلق اسمه على شوارع وميادين، وتنصب له تماثيل ولا تكف الدولة العبرية، كلما أتيحت فرصة أمامها عن المطالبة باستعادة رفاته دون جدوى.

كان لافتا للانتباه، أن توقيت استعادة أرشيف “كوهين” من مقارات المخابرات السورية (18) مايو، هو نفسه تاريخ إعدامه عام (1965).

الرموز مسألة حاسمة في الخيال اليهودي.

التوقيت لم يكن محض صدفة.

ولا كان التزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للمنطقة صدفة أخرى.

لا يمكن تجاهل طلبات “ترامب” من رئيس سلطة الأمر الواقع “أحمد الشرع” في فهم خلفيات نقل الأرشيف، كبادرة “حسن نية!” تمهد لتطبيع كامل مع إسرائيل وطرد منظمات المقاومة الفلسطينية خارج سوريا.

إنها أثمان أولية لرفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا.

أعلن “الشرع” موافقته على جميع طلبات “ترامب”.

هذه حقيقة لا يمكن الادعاء بعكسها.

نزع الحدث عن سياقه تجهيل بالحقيقة.

لم تكن هناك عملية سرية دقيقة ومعقدة قام بها الموساد الإسرائيلي؛ لاستعادة أرشيف “كوهين”، الذي يضم نحو (2500) وثيقة أصلية وصور ومقتنيات شخصية، ووصيته بخط يده.

هذا محض ادعاء.

حسب التصريحات الإسرائيلية، فإن هناك جهاز استخباري أجنبي حليف، شارك في هذه العملية.

هذا اعتراف كاشف وخطير.

أشارت تصريحات وإيحاءات أخرى إلى شراكة تركية في العملية، وضلوع دولة خليجية بعينها في تفاهماتها.

عندما تتكشف الحقائق الكاملة في قضية أرشيف “كوهين”، سوف يتبدى أمام الرأي العام قدر التواطؤ على مستقبل المنطقة لإعادة ترتيبها تمكينا لإسرائيل، من أن تفرض كلمتها عليها، أو تقاسم النفوذ مع تركيا في سوريا، التي كانت توصف تقليديا بقلب الوطن العربي.

لم يتأخر التوظيف السياسي لاستعادة الأرشيف في إعادة تعويم صورة الموساد كقوة استخباراتية خارقة وصورة “بنيامين نتنياهو” كقائد يضع الأمن على رأس أولوياته.

كان ذلك تناقضا مع الحقائق الماثلة، حيث الانقسام والفشل يخيم فوق إسرائيل، التي عجزت حكومتها اليمينية المتطرفة تماما عن استعادة أسراها داخل غزة بغير التفاوض مع “حماس”، بل تغامر بحياتهم من أجل بقاء “نتنياهو” في الحكم!

لمرات عديدة سقط الموساد في مواجهاته المفتوحة مع المخابرات المصرية على مصائر المنطقة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وحتى نهاية السبعينيات.

بذات القدر، سقطت أسطورة، أن جيش الدفاع الإسرائيلي لا يقهر في حربي الاستنزاف وأكتوبر (1973)، كما في حرب تموز (2006) بالجنوب اللبناني.

كان الانكشاف الإسرائيلي، عسكريا واستخباراتيا، مزريا في أحداث السابع من أكتوبر (2023)، التي أعادت إحياء القضية الفلسطينية بفواتير تضحيات هائلة.

بنص تعبير “نتنياهو”: “كوهين أسطورة، وهو أعظم عميل استخبارات في تاريخ إسرائيل”.

لتعظيم الإنجاز المستجد نسب لـ”كوهين” دورا محوريا في احتلال هضبة الجولان بعد عامين من إعدامه بالمعلومات الدقيقة، التي وفرها بقربه البالغ من مركز صنع القرار.

من الذي كشف حقيقة “كامل أمين ثابت”؟

هذا سؤال لا إجابة قاطعة عليه حتى الآن.

تتواتر روايات متناقضة دون حسم أخير.

حسب رواية الأستاذ “محمد حسنين هيكل” في كتابه “سنوات الغليان”، فإنها المخابرات المصرية.

بجدية المتابعة والاستقصاء، توصلت القاهرة إلى حقيقة الرجل الغامض الذي يقف بصورة شبه دائمة في أقرب نقطة من الرئيس السوري.

لم يكن “أمين الحافظ” قادرا على استيعاب الصدمة، زار صديقه الحميم في السجن العسكري ليتأكد بنفسه، سأله: من أنت؟!

كانت إجابته فوق أعتى كوابيسه.. “إيلي كوهين من تل أبيب”.

بعض الروايات تنسب إلى “الهجان”، أنه هو الذي كشف حقيقة “كوهين” للمخابرات المصرية.

تعرف عليه فور أن طالع صورته، حيث ضمتهما كناشطين يهوديين زنزانة واحدة.

لحساسية العلاقات المصرية السورية بعد انفصال الوحدة (1961)، كان من الصعب إقرار دور القاهرة في حفظ الأمن القومي السوري.

هذه مسألة تستحق أن تجلى بالوثائق الثابتة لا بالمرويات الشفهية.

في اللحظات الأولى للاحتفاء الإسرائيلي باستعادة أرشيف “كوهين”، وجدت سلطة الأمر الواقع في سوريا نفسها تحت الاتهام المباشر أمام الرأي العام العربي كله.

لم تكن هناك ثورة في سوريا، ولا كان هناك ثوار عند إطاحة نظام “بشار الأسد”.

لم يكن النظام يستحق البقاء، كان سقوطه محتما، لكن من صعدوا على أطلاله، لا يستحقون بدورهم، أن يمثلوا الطموح السوري لبناء دولة مواطنة حرة، وتملك قرارها، لا طرفا شريكا في تقويض الدور السوري كله.

بدا تيار الإسلام السياسي بكل تنظيماته مرتبكا إلى حدود لم تكن متصورة، خشية اتهامه بالتواطؤ مع إسرائيل بالمقايضة على فكرة المقاومة.

الدفاع رغم الحقائق الماثلة عار بذاته، فهو يلحق أذى فادح بقضية المقاومة الفلسطينية، التي تتصدرها “حماس” الآن.

أسوأ ما قيل لتبرير نقل أرشيف “كوهين”، إن ذلك حدث في الماضي على عهد “حافظ الأسد”.

هذا افتراء كامل على التاريخ، وتحلل لا أخلاقي من أية مسئولية سياسية.

يحتاج الوطن العربي كله، أن ينظر في مرآة الحقيقة؛ ليعرف مواطن الضعف والخلل في بنيته، التي تسهل الانقضاض على ما تبقى فيه من إرادة حياة ومقاومة.