على خلفية الصفقات التريليونية التي أبرمها ترامب في جولته الخليجية التي شملت ثلاث دول، والتصعيد العنيف للقصف الإسرائيلي الذي تزامن مع الزيارة، وأسفر عن استشهاد المئات في غزة، وتهميش دور إسرائيل/ نتنياهو في بعض الملفات الإقليمية، ورفع العقوبات عن سوريا ولقاء ترامب بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، واختلاط مظاهر حفاوة استقبال الرئيس الأمريكي بصور الأطفال الجوعى في غزة… يحاول هذا المقال استخلاص بعض السمات والديناميكيات التي ستشكل ملامح المنطقة في المستقبل.

لقد مثلت زيارة دونالد ترامب إلى كل من السعودية وقطر والإمارات– في الفترة من 13 إلى 15 مايو الجاري- مرحلة تحولات مفصلية، وكشفت عن عدد من السمات الرئيسية التي تحكم ديناميكية المنطقة. ووُصفت الزيارة، بأنها اختبار للرؤية الجيو سياسية الجديدة لترامب، وفرصة لإعادة صياغة العلاقات الأمريكية الخليجية.

أولًا: الاقتصاد كقوة استقرار إقليمية

وفقًا لهذه الرؤية، يُنظر إلى التدابير الاقتصادية، وعلى رأسها تخفيف العقوبات والاستثمار والمساعدات وجهود إعادة الإعمار، من قبل مختلف الأطراف الفاعلة (قادة الخليج والإدارة الأمريكية)، باعتبارها أدوات قادرة على تعزيز الاستقرار في المناطق الخارجة من الصراعات، مثل سوريا، وربما تساهم في التخفيف من حدة الأزمات في غزة واليمن، فضلًا عن خدمة المصالح الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة ودول الخليج.

وفق هذه الرؤية، يُعد التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار ضروريين لتحقيق الاستقرار في سوريا بعد سنوات الحرب الأهلية. وتُشكل العقوبات عائقًا رئيسيًا أمام جهود إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية والتعافي الاقتصادي، إذ أنها تضر بالدرجة الأولى بالمدنيين السوريين. ومن المتوقع، أن يمهد رفع العقوبات الطريق أمام تدفق المساعدات والاستثمارات والخبرات الإقليمية والدولية لدعم الحكومة الجديدة في جهودها لإعادة بناء البلاد، ومنع عدم الاستقرار السياسي. ويُعتبر وجود اقتصاد قوي أمرًا حيويًا لنجاح الحكومة السورية الجديدة في تحقيق الاستقرار.

وبحسب التقديرات، سيظل الاقتصاد السوري في حالة تدهور مستمر ما لم يتم تخفيف العقوبات، الأمر الذي سيزيد من الاعتماد على روسيا والصين وإيران، وربما يؤدي إلى تجدد التطرف وظهور جماعات مثل داعش. ازدهار سوريا سيساهم في الحد من تدفقات اللاجئين.

قادة السعودية وقطر يتبنون بشكل خاص فكرة تخفيف العقوبات، لا سيما تلك المفروضة على البنية التحتية والقطاعات العامة، انطلاقًا من اعتقادهم بأن ذلك سيعزز مكانة القيادة الجديدة، ويواجه النفوذ الإيراني، ويحول دون تحول سوريا إلى دولة فاشلة. ويُنظر إلى تخفيف العقوبات، باعتبارها خطوة أولى حاسمة نحو تحقيق الاستقرار في القطاعات الأساسية، وتهيئة المناخ للاستثمار الدولي. ويمكن لجهود التعافي المبكرة، المدعومة بتخفيف العقوبات، أن تتيح عودة آمنة للنازحين السوريين، وتساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع.

ويرى قادة الخليج، أن الاستقرار الجيو سياسي يكتسب أهمية بالغة لرفاهية اقتصاداتهم، التي قد تتضرر؛ من جراء حالة عدم اليقين الاقتصادي أو التصعيد مع إيران. وهناك تفاؤل بأن تحقيق السلام في الشرق الأوسط، من شأنه أن يدعم الأجندات الاقتصادية لدول الخليج.

وبالرغم من ذلك؛ فإن مفهوم الاستقرار استند- سواء على المستوى الوطني أو في العلاقات بين دول المنطقة- إلى تجاوز تطلعات الجماهير وتهميش قضايا حيوية، مثل حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته. وتصاعد التقارب الإقليمي مع تراجع الاهتمام بمسألة الحرية في المنطقة بعد التواطؤ على الربيع العربي، الأمر الذي يمكن وصفه، بأنه تقارب المستبدين، كما ازدادت معدلات عدم المساواة في الفرص والدخول والثروات، وفقًا لما رصدته العديد من التقارير الاقتصادية الدولية. ولم يعد هذا التقارب مقتصرًا على المستبدين فحسب، بل امتد ليشمل مصالح تحالفات رأس المال بامتداداتها في الرأسمالية الدولية.

فهل وفق هذه الصيغة، يمكن أن يكون الاقتصاد وحده محفزا للاستقرار في المنطقة؟

إن النمو الاقتصادي القوي هو مؤشر قوي للتنبؤ بالاستقرار، وبالمثل لا يرتبط النمو الاقتصادي المنخفض دائما بعدم الاستقرار، ولكن ما تهمله مؤشرات النمو هو التفاوت بين المواطنين وتوزيع الثروة، إلى جانب رضا الجمهور، ومستوى الخدمات، والرعاية الصحية، والمياه النظيفة، والسكن ميسور التكلفة، والآراء السياسية.

إن تركيز الجمهور العربي على ضرورة تحسين الظروف المعيشية اليومية لا يعني، أنهم غير مهتمين بتحسين الحكم أو أنهم يرفضون الديمقراطية. لا يعتقد العرب- كما أشار الباروميتر العربي في استطلاعاته- أن الديمقراطية سيئة بطبيعتها، وبدلا من ذلك، فقد تبنوا نهجا قائما على النتائج تجاه الديمقراطية، نهجا لا يوفر الشرعية وحكم القانون فحسب؛ بل أيضا الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزدهرة.

ثانيًا: تراجعت القضية الفلسطينية ليقتصر الاهتمام بها على الجانب الإنساني المتمثل في إغاثة أهالي غزة، مع غياب أي حديث عن الضفة الغربية.

وترافقت الزيارة مع عدد من المشاهد التي تجعل إيقاف الإبادة الجماعية في غزة، ليست أولوية ملحة. فقد أُطلق سراح آخر رهينة أمريكي على قيد الحياة دون مقابل، واستمر الحصار المفروض منذ منتصف مارس الماضي، وتصاعد القصف الإسرائيلي للمدنيين والمستشفيات، واستؤنفت المفاوضات بين حماس وإسرائيل في الدوحة دون الوصول إلى اتفاق، وتصاعدت الاعتداءات على الفلسطينيين في الضفة.

ويبدو أن ترامب يرسل إشارات متضاربة بشأن إدارة غزة في مرحلة ما بعد الحرب ودور حماس والتهجير، لكن الخلاصة التي يمكن استخراجها من هذه التفاصيل، هي أن هناك توافقًا على أن المطلوب هو فقط معالجة التداعيات الإنسانية لاستمرار العدوان الإسرائيلي. كما أن نهج ترامب القائم على المعاملات وتركيزه على الصفقات الاقتصادية خلال الزيارة قد أدى أيضًا إلى تهميش القضية الفلسطينية مقارنة بالجهود الدبلوماسية التي بذلتها الإدارات السابقة.

صحيح، أن هناك تحولًا قد طرأ على الموقف السعودي من التطبيع، الذي لم يعد يشكل أولوية بالنسبة لترامب، وإن كان قد اشترطه على الرئيس السوري مقابل رفع العقوبات.

وفيما يتعلق بالتطبيع، فقد حدث تحول كبير في الموقف السعودي مقارنة بفترة اتفاقيات إبراهيم. فبينما أقرت اتفاقيات إبراهيم اعترافًا متبادلًا وعلاقات اقتصادية بين بعض الدول العربية الموقعة عليها (البحرين والإمارات العربية المتحدة) وإسرائيل، فإن الموقف السعودي الآن يتماشى مع الخطة العربية التي تحدد استراتيجيات إعادة إعمار غزة وتنميتها، وتدعم قيام دولة فلسطينية ذات سيادة على أساس خطوط الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وتشترط التطبيع مع إسرائيل فقط، بعد أن يوقع القادة الإسرائيليون والفلسطينيون اتفاقية سلام، تحل جميع قضايا الوضع النهائي، وتنهي الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وترسخ السيادة الفلسطينية على غزة والضفة الغربية، (بما في ذلك القدس الشرقية).

إن تأمين اتفاق نووي مع إيران يمثل حاليًا أولوية أكثر أهمية بالنسبة لترامب والمملكة العربية السعودية من حل القضية الفلسطينية. فالمملكة العربية السعودية، التي عارضت الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015، تشجع الولايات المتحدة الآن على المضي قدمًا في المفاوضات لمنع الحرب. كما أن التقارب السعودي الإيراني في عام 2023 يخفف أيضًا من الضغوط من أجل تشكيل تحالف إقليمي مع إسرائيل.

وفي حين توصف اتفاقيات إبراهيم، بأنها لا تزال “حية وبصحة جيدة” على الرغم من العدوان الإسرائيلي، إلا أن المستقبل القريب للتطبيع واسع النطاق، خاصة مع لاعبين رئيسيين مثل المملكة العربية السعودية، يبدو أنه يتأثر بالسياق الإقليمي الحالي، بما في ذلك الحرب في غزة وإعطاء الأولوية لقضايا أخرى، مثل الاتفاق النووي الإيراني. إن نهج ترامب القائم على المعاملات وتركيزه على الصفقات الاقتصادية خلال الزيارة قد أدى أيضًا إلى تهميش القضية الفلسطينية مقارنة بالجهود الدبلوماسية التي بذلتها الإدارات السابقة.

لا يكتفي ترامب بضبط الشرق الأوسط من هذين المدخلين فقط، بل يمتد تأثيره ليدعم “الزمن الخليجي” في المنطقة، ويعهد لبعض دولها القيام بأدوار هامة، تتطلبها السياسات الأمريكية، وهو ما يستدعي بيان ملامح وسمات اللحظة الخليجية. وفي ظل هذه المداخل المتعددة كيف يبدو دور إسرائيل/ نتنياهو بتحالفه اليميني المتطرف: هل هي قوة استقرار في الإقليم يساعد على التكامل الاقتصادي بين مكوناته، أم صارت عبئا على ضبط الشرق الأوسط وفق رؤية ترامب؟

هذه الأسئلة والنقاط أُخصص لها مقالي القادم.