في مدخل المجلد الثاني من كتابه “ثروة الأمم”، يشير مؤسس علم الاقتصاد الحديث آدم سميث 1723 – 1790، إلى أن علم الاقتصاد السياسي من العلوم التي ينبغي أن يكون على إحاطة كافية بها كل رجل دولة، وكل رجل سياسة وكل رجل تشريع، ثم يذكر أن علم الاقتصاد السياسي له هدفان عظيمان: 1- أولهما هو تأمين دخل وفير وموارد رزق للشعب أو تمكين الناس من تأمين هذا الدخل الوفير وموارد الرزق لأنفسهم بأنفسهم. 2- وثانيهما تزويد الدولة بإيراد كاف؛ لأجل الخدمات العامة. هدف الاقتصاد السياسي إذن مزدوج: إغناء الشعب وإغناء الدولة. المعادلة واضحة: وظيفة الدولة تمكين الشعب من الاقتصاد، فيزرع ويصنع ويتاجر وينتج السلع ويقدم الخدمات ويستورد ويصدر، فيكون له من كل ذلك ثروات ترضيه عن حياته، ثم تُغريه بالمزيد من السعي نحو المزيد من الحياة الطيبة، والدولة في الوقت ذاته تغتني بما يتحصل لها من ضرائب ورسوم وجمارك من وراء هذا النشاط الاقتصادي لمجموع الشعب. ويترتب على هذه المعادلة أمران: 1- أولهما أن الدولة وظيفتها تمكين الشعب من الاقتصاد، لا أن تضع يدها على الاقتصاد، وظيفتها تيسير إطلاق همة الشعب ليزرع ويصنع ويتاجر ويقدم الخدمات في الداخل ومع الخارج، وليست وظيفة الدولة أن تزاحم شعبها، فتزرع بنفسها وتصنع بنفسها وتتاجر بنفسها إلى آخر الأنشطة الاقتصادية المتاحة في زمن من الأزمان. 2- في مقابل ذلك يسلم الشعب بحق الدولة في الجباية العادلة، بما يكفي ليكون لها من الموارد، ما يعينها على الوجود كدولة ذات مؤسسات ومرافق وأنشطة تخدم المصالح العامة، مثل الدفاع الخارجي والأمن الداخلي وإقامة العدل وبسط سلطة القانون وحفظ النظام وصون الاستقرار، ثم ما استجد في العصور الحديثة من توفير التعليم والعلاج والتأمين ضد الشيخوخة والبطالة والإعاقة إلى آخره. وبالبداهة فإن عكس ذلك صحيح، فعندما تضع الدولة يدها على الاقتصاد، فتزرع وتصنع وتتاجر؛ يترتب على ذلك أمران: إفقار الشعب الذي لا يقدر على منافستها، إذ تقل حماسته وتفتر همته وينخفض إنتاجه، ثم إفقار نفسها؛ لأن الجباية في شعب فقير لا تعود إلا بالنزر القليل. لهذا حذر آدم سميث من السلطة التي تهيمن على الاقتصاد هيمنة كاملة، فيكون لها وحدها شراء كل شيء، كما يكون لها وحدها بعد ذلك بيع كل شيء، ووصف ذلك الحكم في ص 159 من المجلد الثاني من الترجمة العربية – ترجمة وليد شحادة – بأنه أسوأ نظام حكم يتعرض له أي بلد.

 لهذا أفرد مونتسكيو 1689 – 1755 فصلاً موجزاً، لكنه بليغ أشد البلاغة في المجلد الثاني من كتاب “روح القوانين”، وهو الفصل التاسع عشر تحت عنوان “في أن الأمير لا ينبغي أن ينخرط في التجارة”، يحكي قصة الإمبراطور البيزنطي تيوفيلوس الذي حكم بين 813 – 842 م، مع زوجته الإمبراطورة تيودورا، بلغ الإمبراطور، أن زوجته تزاول نشاط التجارة ، كما بلغه أن لديها أسطول سفن تحمل هذه التجارة من حيث تشتري إلى حيث تبيع ، فما كان من الإمبراطور إلا أن يأمر بإحراق تجارتها وسفنها ، وقال لها أنا إمبراطور، وأنت تريدين أن أكون تاجراً، كيف سيتمكن الفقراء من كسب لقمة عيشهم، إذا كنا نحن الحكام ننافسهم عليها ونزاحمهم فيها؟!. إلى هنا انتهى جدال الإمبراطور السياسي الحكيم ورجل الدولة الناضج مع زوجته الطامعة في الثروة من خلال مزاولة التجارة من موقع قوة، حيث أنها تحمل- بالتبعية لزوجها- لقب إمبراطورة. لكن مونتسكيو يذهب بالجدال إلى سجال أبعد، فيضع على لسان الإمبراطور، ما يزيد المعنى وضوحاً وعُمقاً فيقول: كان بإمكان الإمبراطور أن يضيف من يقدر من الشعب، أن يردعنا، إذا قررنا احتكار ما نريد من السلع؟ ثم من يقدر من الشعب، أن يجبرنا على الوفاء بما علينا من التزامات تجارية تجاه من نتعامل معهم؟ ثم لو قرر الإمبراطور والإمبراطورة مزاولة التجارة، فإن ذلك سوف يمثل إغراءً لرجال الحاشية، أن يقتدوا بنا في هذا العمل السيئ، فيتاجرون مثلما نتاجر، والأكيد أن رجال الحاشية سوف يكون جشعهم أكبر من جشعنا، وسوف يذهبون في ظلم الناس أكثر مما نذهب، ثم ختم مونتسكيو كلامه، بأن وضع على لسان الإمبراطورة كلمة حكيمة، وهي “ينبغي أن يثق الشعبُ في عدالتنا”. هذه إشارة مهمة، ينبغي أن يثق الشعب في حكامه، ولن يثق في حكامه، إلا إذا التزموا العدل، ولن يلتزموا العدل، إلا إذا التزموا بالنزاهة، نزاهة المنصب، نزاهة المسئولية، التورع عن التورط في أي تربح أو انتفاع أو تحقيق مغانم لهم أو للمقربين منهم أو لذويهم، ما داموا هم في مواقع المسئولية العامة.

ابن خلدون 1332 – 1406، كان أسبق من مونتسكيو الذي مات 1755، كما كان أسبق من آدم سميث الذي مات 1790، ابن خلدون يسبقهما، بما يقرب من أربعة قرون أو أقل قليلاً، كما ينافسهما، بل يسبقهما في وضوح الفكرة وعمقها وأصالتها حتى اليوم والغد، ففي الباب الثالث من الكتاب الأول من المقدمة نرى ابن خلدون، قد أفرد الفصل الأربعين تحت عنوان مشابه تماماً لعنوان الفصل التاسع عشر من الكتاب العشرين، عنوان فصل مونتسكيو هو “في أن الأمير لا ينبغي أن ينخرط في التجارة”، أما عنوان ابن خلدون فهو “في أن التجارةَ من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية”، وهي الفكرة الجوهرية عند آدم سميث في تعريفه للهدفين اللذين يسعى لهما علم الاقتصاد السياسي، يمهد ابن خلدون في الفصلين الثامن والثلاثين ثم التاسع والثلاثين، لما يحب أن يقرره في الفصل الأربعين، الفكرة الأساسية في الفصلين، هي أنه عندما الدولة لا تزاحم الناس في الأرزاق يزدهر الاقتصاد، إذ ينشط الناس للعمل، ويرغبوا فيه؛ فيكثر الاعتمار ويتزايد “محصول الاغتباط بقلة المْغرم” وإذا كثُر الاعتمار كثُرَت الجباية التي هي جملتها. هذا هو المعنى الذي يؤكد عليه آدم سميث، حيث يغتني الشعب من إنتاج حقيقي وتغتني خزائن الدولة من انتاج حقيقي كذلك. لكن إذا زادت الجباية عن حدود الاعتدال والمعقول علم الناس، أن نتاج عملهم يذهب إلى غيرهم ويُحرَمون هم منه، “فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع، إذا قارن بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته، فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملةً، فتنقبض جملة الجباية حينئذ” ، ” إلى أن ينتقض العمران بذهاب الآمال من الاعتمار، ويعود وبال ذلك على الدولة؛ لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها” وينصح ابن خلدون بتخفيض أوجه الجباية؛ لأن الجباية المحدودة أقوى الأسباب في زيادة الاعتمار- ازدهار الاقتصاد- فبذلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه، أما كثرة الجباية إذ زادت زيادة بالغة؛ فيترتب عليها أن تكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران، ويعود ذلك على الدولة ويتزايد حتى تضمحل، وهذا ما انتهى- حسب ابن خلدون- بالدولتين الزاهرتين العامرتين العباسية، ثم الفاطمية، بالضعف ثم الاضمحلال ثم الزوال.

إذا ضاقت موارد الدولة، وعجزت عن الوفاء بمصروفاتها، فإنها تحتاج إلى المزيد من المال والجباية، فتفرض المكوس على بيعات الرعايا وأسواقهم، وتستحدث مكوساً تحت أسماء جديدة، ثم تنزل بنفسها إلى مزاولة النشاط الاقتصادي، وتظن أن ذلك يؤدي إلى زيادة إدرار الجباية وكثرة الفوائد، وهو غلط عظيم يؤدي إلى إدخال الضرر على الرعايا من عدة وجوه: 1- أولاً مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع، فبدل أن تكون المنافسة في الأسواق متكافئة بين رعايا تتقارب قدراتهم المالية، فإن المنافسة تختل لدخول الدولة طرفاً مباشراً في السوق، تشتري وتبيع ولا يقدر على منافستها أحد من الرعايا “فلا يكاد أحد من الرعايا يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد. 2- ثم إن السلطان ينتزع ما يريد حين يشتريه بأبخس ثمن، ولا يقدر أحد على مناقشته، فيضطر البائع، أن يبيع له سلعته بأبخس الأثمان، فيدخل على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح، ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملةً، ويؤدي إلى فساد الجباية، فإن معظم الجباية، إنما هي من الفلاحين والتجار، فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملةً أو دخلها النقص المتفاحش، فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة؛ نقصت أموالهم وتلاشت بالنفقات، وفي ذلك تلف أحوالهم واختلال الدولة. ثم يشير ابن خلدون في ختام الفصل الأربعين إلى عدة معانٍ حكيمة: 1- كان الفرس يتعهدون على كل ملك جديد، يتولى حكمهم، أن يوافق على شرط هام جداً، وهو ألا يعمل بالتجارة؛ فتكون له مصلحة في غلاء الأسعار. 2- موارد الدولة تكون من الجباية، والجباية تكون من إنتاج الشعب، وإنتاج الشعب يتوقف على ازدهار الاقتصاد، وازدهار الاقتصاد يتوقف على نضج السياسة ورشدها، ورشد السياسة يتوقف على العدل.

مشكلة مصر الحديثة منذ عهد محمد علي باشا، حتى كتابة هذه السطور تكمن في دور الحاكم في الاقتصاد، الثابت الأول في كل هذا التاريخ، هو أن الحكم فردي لشخص الحاكم فيه الدور المركزي في السياسة والاقتصاد والمجتمع، والثابت الثاني أن كل حاكم كانت له شهيته في التحكم في الاقتصاد كمدخل للتحكم في المجتمع، ثم كمدخل للتحكم في السياسة، الثابت الأخير أن مصر الحديثة- بسبب ذلك- لم تخرج من فلك الفقر والقهر، رغم كل ما قطعت من أشواط على طريق الحداثة والتحديث، ربما تختلف الصورة من عهد إلى عهد، لكن في المجمل ظلت الأغلبية الكاسحة من المواطنين فقيرة مقهورة.

………………………….

 أعمق ما يميز مصر الحديثة سمتان: التقدم البطيء، الفقر السريع.

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.