بقلم – دكتور حُسني كَحْلَه
لولا الرئيس أنور السادات، لكانت حرب 6 أكتوبر آخر الحروب، ولما كانت هناك حاجة إلى 7 أكتوبر، فقد كان اختيار حركة حماس يوم 7 أكتوبر 2023 اختيارً له دلالة سياسية رمزية وفعلية في نفس الوقت، تصل به ما انقطع، مع ما يمثله يوم 6 أكتوبر 1973، والذي حقق فيه الجيش المصري انتصارً كاسحًا على العدو الإسرائيلي في يومِّ واحد. لكن سياسات الرئيس أنور السادات مع الأسف قد خذلت السلاح، بسبب معتقداته السياسية، التي لا ترى حلًا لمشكلة الشرق الأوسط، إلا في يد أمريكا وحدها. وأنه يعتقد وفق ما ذكر الدكتور عبد القادر حاتم، لكل من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة، أن عبد الناصر قد أخطأ في أنه لم يعترف بهزيمة 1967، ويتصرف على هذا الأساس. فبعد أربعة أشهر من تنصيبه رئيسًا للجمهورية في أكتوبر عام 1970، ظهرت البوادر الأولى لهذا الانقلاب الجذري الكبير، عندما قدم “مبادرة فتح قناة السويس في 4 فبراير عام 1971″، وكان ذلك يعني أنه بقبول هذه المبادرة، إنما يقرر إنهاء مبادرة روجرز، ويستبعد العمل العسكري.
تلك العقيدة تفسر الإدارة السياسية المضطربة لحرب أكتوبر، وما لها من آثار خطيرة على وقائع الحرب ونتائجها. بعكس الحال في مواجهة الهزيمة العسكرية في عدوان 1967. منها مثلًا، أن يرسل الرئيس السادات رسالتين في 7 أكتوبر 1973:
الأولى لكيسنجر عبر طريق حافظ إسماعيل مستشار الرئيس للأمن القومي، جاء فيها “إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع نطاق المواجهة، وأوضح فيها أن الهدف الأساسي هو تحقيق السلام”.. وقد شجب المشير الجمسي في مذكراته برقية حافظ إسماعيل؛ لأن “مصر أفصحت عن نواياها في العمل العسكري”، ما اعتبره إفشاء لنوايانا للعدو الإسرائيلي.
والثانية أرسلها لنيكسون عبر شاه إيران، وأظهرتها الوثائق الأمريكية لأسرار حرب أكتوبر: ذكرت أن “مصر ما زالت راغبة في سلام دائم في المنطقة، وإن مصر سوف تكون على استعداد للتفاوض بإخلاص لوضع هذه الأراضي، تحت إدارة الأمم المتحدة، أو تحت إدارة القوى الأربعة الكبرى، أو تحت إدارة دولية أخرى يتم الاتفاق عليها. وفيما يختص بشرم الشيخ، فإن مصر على استعداد للقبول بإشراف دولي على حرية الملاحة في خليج العقبة، عقب الانسحاب الإسرائيلي”.
يقول مارتن إنديك- وكيل وزارة الخارجية الأمريكية ومؤسس معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى وسفير أمريكا في إسرائيل مرتين- : كان كيسنجر قد أشار في محادثاته بعد ظهر الثلاثاء 9 أكتوبر مع الرئيس نيكسون: “أن الإسرائيليين فقدوا مناعتهم، والعرب فقدوا إحساسهم بالدونية”. كما أوضح لكبار مسؤولي وزارة الخارجية، أن هذه الحرب أوجدت وضعًا استراتيجيًا مختلفًا تمامًا في الشرق الأوسط، يعود بالنفع على آفاق التسوية الشاملة، فالموقف الذي مرت به إسرائيل حينها، والخسائر التي تكبدتها، جعلتها أكثر قابلية للحلول الدبلوماسية، مما كانت عليه بعد انتصارها الخاطف، في حرب يونية 1967، الذي استحال معه مناقشة التنازلات الإقليمية مع قادتها.
ولكن الغريب أن الرئيس السادات رفض وقف إطلاق في التوقيت المناسب للخطة السياسية والعسكرية للحرب، التي كانت في أساسها حرب محدودة.
في صباح يوم 12 أكتوبر 73، عَبَّر ديفيد إليعازر رئيس الأركان الإسرائيلي في اجتماع لمجلس الوزراء عن رأيه بوضوح: “لا يمكن في الوقت الحالي إعادة السيطرة على المناطق التي خسرناها في سيناء، والسوفيت يزودون مصر وسوريا بالأسلحة منذ اليوم الثاني للحرب، بينما لا يزال الأمريكان يتَمَنَّعون، عن شحن الأسلحة إلى إسرائيل، وهكذا استمر ميزان القوى في الميل لصالح العرب”.
ويضيف: “أن التطور الوحيد الذي يمكن أن يغير حالة الحرب، هو شن مصر هجومًا ثانيًا على سيناء. وفي حالة حدوث ذلك، سيقوم الجيش الإسرائيلي بصد الهجوم، وأن يسبب خسائر جسيمة للجيش المصري، ويستغل تلك اللحظة في عبور قناة السويس، وعزل القوة المصرية المكونة من 10 آلاف جندي في سيناء، عن قواعدها اللوجستية غرب القناة. وإذا لم تجدد مصر هجومها، فإن إسرائيل ستطالب بوقف إطلاق النار، أي أن تعترف بهزيمتها في الحرب مع مصر”.
لكن الرئيس السادات أجبر القادة العسكريين المعارضين على تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر، وكانت النتيجة ما توقعه رئيس الأركان الإسرائيلي.
ويقول كيسنجر: بحلول الأحد 14 أكتوبر، قرر التوغل بشكل أعمق في سيناء بفرقتين مدرعتين. وسواء أقدم على ذلك مدفوعًا بثقة زائدة في قدرته العسكرية بعد العبور السهل المفاجئ للقناة، أم برغبة منه في تخفيف الضغوط على حليفه الأسد، أم (بفقدان قصير لشعوره بحقيقة الموقف!)، فإنه غامر بالخروج من المنطقة التي يغطيها حزام صواريخ سام، وهو ما أدى لانتكاسة كارثية، وأتاح لسلاح الجو الإسرائيلي التحرر من قيود حزام سام، وهذا مكن الدبابات الإسرائيلية من دفع الجيش الثالث المصري إلى التراجع نحو القناة، وفي غضون يومين من قتال عنيف، عبرت القوات الإسرائيلية القناة، وبدأت في تدمير مواقع صواريخ سام التي بناها السوفيت على الضفة الغربية للقناة. كما يقول: “وقد ساعد على ذلك الخطأ الكبير الذي ارتكبه السادات، برفضه اقتراح وقف إطلاق النار الذي قدمته بريطانيا”.
أما السبب الحقيقي لقرار تطوير الهجوم، فهو أن وكالة الأسوشيتد برس، أوردت تقريرًا كتبه فريد هوفمان من واشنطن نقلًا عن خبراء أمريكيين في مجال المخابرات، وهو: أنه بينما كان السادات قد ذكر للسوريين، أنه ينوي التقدم مسافة 40 كلم داخل سيناء، فإن الخطة المصرية الحقيقية، كانت تقضي بالتقدم مسافة أقل من ذلك، لاعتبارات عسكرية واستراتيجية. والتي أبلغ بها كيسنجر يوم 7 أكتوبر.
ويفيد التقرير اليومي عن الحالة العسكرية الذي أعدته وزارة الخارجية الأمريكية، أن الإسرائيليين بدأوا يشعرون، بأن الحرب تحولت لصالحهم، وأن المبادرة باتت في أيديهم على الجبهتين المصرية والسورية. وأضاف التقرير: أنه في الوقت الذي يمكن أن يؤدي ما وصفه برائحة النصر، إلى تعنت إسرائيل في القبول بوقف إطلاق النار، فإن ذلك قد يضع الولايات المتحدة في مواجهة مشكلة أكثر خطورة، وهي التأثير الذي سيحدثه قيام إسرائيل بتدمير جيش أحد أكبر حلفاء موسكو، على العلاقات السوفيتية – الأمريكية.
تحول موقف كيسنجر وتراجع عن خطة نيكسون القائمة على استراتيجية إحداث التوازن بين العرب وإسرائيل، وهو ما أقر به كيسنجر نفسه في كتاب القيادة Leadership. واستغل الاختراق الذي قامت به إسرائيل، وأصبح معروفا بالثغرة، بعد قرار السادات بتطوير الهجوم، وأرسل برقية إلى إسرائيل، ينصحها بمواصلة القتال عدة ساعات حتى عودته إلى واشنطن من موسكو، برغم أن تعليمات الرئيس نيكسون إلى كيسنجر التي جاءت في برقية سكوكروفت بشأن مباحثاته مع بريجنيف، يوم 20 أكتوبر، جاءت بخلاف ذلك، حيث ذكرت “إن النجاحات التي حققتها إسرائيل في السويس، لا يجب أن تلفت انتباهنا بعيدًا، عن التقدم بقوة من أجل تحقيق تسوية عادلة الآن. لا يوجد سبب لعدم الاعتقاد، بأن إسرائيل انتصرت في المعركة الآن، كما انتصرت في كل الحروب السابقة. ولكنني أنا وأنت نعلم، أنه على المدى الطويل لن تتحمل اسرائيل حرب استنزاف متواصلة، والتي سيعانون منها في حالة غياب تسوية. ولذلك فإن من مصلحة إسرائيل نفسها ممارسة كل الضغوط اللازمة من أجل الحصول على موافقتها على تسوية، تكون معقولة، وفي نفس الوقت تطلب من السوفيت، أن يمارسوا ضغوطهم على العرب. وأضاف إن نقطة الضعف الأساسية في سياستنا الخارجية، خلال السنوات الأربع والنصف الماضية، كانت بسبب فشلنا في التعامل بحسم مع أزمة الشرق الأوسط، وذلك ناجم عن ثلاثة أسباب: تعنت الإسرائيليين- عدم رغبة العرب في الدخول في مباحثات على أساس واقعي– انشغالنا بمبادرات أخرى، مما منعنا من تخصيص الوقت اللازم لهذه القضية”.
من جهة أخرى، وفي الوقت الذي كان الرئيس السادات يبعث لنيكسون برسالة، تتضمن تنازلات منذ اليوم الأول للحرب، كان وفد وزراء الخارجية العرب، يوم 17 أكتوبر يقدم مطالب قوية في الاجتماع بين كيسنجر وأربعة من وزراء الخارجية العرب، الذين يحتفظون بعلاقات سياسية واقتصادية قوية مع الولايات المتحدة، يتقدمهم عمر السقاف وزير الخارجية السعودي، حيث قال لكيسنجر: “إن العرب لن يكون في استطاعتهم القبول بنزع سلاح سيناء، وأن إسرائيل لها مخططاتها في سيناء”. كما قال عمر السقاف في محضر الاجتماع مع الرئيس نيكسون: “أنا أتحدث هنا نيابةً عن وزراء الخارجية الأربعة، ونحن بدورنا نتحدث نيابة عن 18 دولة عربية، وآراؤنا تتفق عليها جميع الأطراف المعنية” .
لكن أخطر ما اتخذه السادات من قرارات، تتعلق بالحرب والتسوية السياسية، هو ما تعهد به لهنري كيسنجر، في لقائهما المنفرد في 7 نوفمبر 1973 بعبارة واضحة، ذكرها كيسنجر في كتابه Upheaval Years، أنه أي السادات عاقد العزم على إنهاء ميراث ناصر He was determined to end Nasser’s legacy، وهو ما يتعلق بالبعد الاقتصادي.
فبعد زيارة كيسنجر للسادات في 7 نوفمبر 1973، ثم زيارته في 11 يناير 1974، جاءت زيارة لروبرت ماكنمارا رئيس البنك الدولي في 27 فبراير 1974- حيث أبلغ ماكنمارا الرئيس السادات، أن البنك الدولي سيولي مصر اهتمامًا خاصًا، إذا سارت سياستها الاقتصادية وفق توصيات صندوق النقد الدولي”. وفي مايو 1974 بعد الإعلان عن الانفتاح الاقتصادي، وفدت بعثة من صندوق النقد الدولي، لإجراء مشاورات، أكثر شمولًا وتوصيات أكثر صراحة.
فسياسة الانفتاح، ينبغي أن تستند إلى سياسة ملائمة للنقد الأجنبي، نحو تحرير سعر الصرف، وإلغاء الدعم، وإعادة هيكلة الأسعار في قطاعات التجارة الداخلية والخارجية. ثم جاءت زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لمصر في 12 يونية 1974.
ولكن على أرض الواقع، فإنه عندما بدأ حديث (الخصخصة) في أوائل عام 1974، ثارت قطاعات كبيرة من الرأي العام، وأول الصعوبات جاءت من النقابات العمالية، فحدث تراجع جزئي للغارات المتعجلة، وتوقفت عمليات الخصخصة مؤقتًا، لكن الاهتمام تركز على التوكيلات الأجنبية، فصدر قانون 93 لسنة 1974، الذي رخص للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين من المصريين، ممارسة تمثيل الشركات الأجنبية في مصر. وجاءت عودة القطاع الخاص إلى مجال التوكيلات، تحت ضغط صندوق النقد ومطالبات الاحتكارات الأجنبية. وفي أوائل عام 1975، وقع توزيع ما يقارب ألفي توكيل، وبجرة قلم أصبح في مصر ألفان من أصحاب الملايين الجدد، فكانت عملية هندسة طبقية، أحدثت خللًا مفاجئًا في توازن الدخول، لكنها في المحصلة أعطت سندًا للسياسات الجديدة، قادرًا على التأثير، وسط الساحة السياسية اجتماعيًا.
لكن أخطر ما ترتب على التوسع المفاجئ في الاستيراد، هو زيادة كبيرة في الدين الخارجي، وعجز كبير في الموازنة العامة وميزان المدفوعات، في الوقت الذي أعطى فيه السادات توجيهات لعيسى شاهين وزير الصناعة بعدم استيراد قطع غيار لمصانع القطاع العام. ومن ثم سقطت مصر في فخ الدين، كما هو مخطط، ومن ثم الذهاب لصندوق النقد الدولي طلبًا للمساعدة. وقد ركز صندوق النقد الدولي على عجز الموازنة، وخصوصًا تكاليف الإعانة المعيشية، وكان شرطه الرئيسي للموافقة على البرنامج هو خفض الدعم. فأعلنت الحكومة الموازنة في 17 يناير 1977، متضمنة زيادة في أسعار العديد من سلع الاستهلاك الشعبي، فاندلعت احتجاجات خطيرة يومي 18و19 يناير، فكانت الحصيلة الرسمية 72 قتيلًا وقرابة 800 جريح و1270 معتقلًا وتم استدعاء الجيش، وفُرض حظر التجول. ولم يهدأ العنف حتى ظهيرة يوم 20 يناير، عندما أعلن التراجع عن زيادة الأسعار. ولقد ترتب على ذلك شعور الرئيس السادات بفقدان الشرعية، التي لم يكتسبها إلا بحرب أكتوبر 1973، فكان قراره بالذهاب إلى إسرائيل في 19 نوفمبر 1977.
لقد أصبح السادات في موقف بالغ الصعوبة، فهو لا يستطيع أن يقف بعملية السلام التي بدأها في منتصف الطريق، فلا يزال 85% من سيناء تحت السيطرة الإسرائيلية، ما سوف يعرضه لأخطار جسيمة، في ظل الشكوك التي أثارتها اتفاقية سيناء الثانية، وما تسرب عن تفاصيل ملحقاتها السرية، وفي نفس الوقت ليس بقادر على الانتظار، الذي ربما يطول لأمد غير محدود.
فكان هناك هاجس واحد يستبد بالسادات، هو استرجاع سيناء، ولتحقيق ذلك كانت وسيلته الوحيدة هي أمريكا، خصوصًا مع تدهور علاقته مع الاتحاد السوفيتي. ولكن محاوريه الأمريكيين اختفوا، فالرئيس نيكسون طُرِد من البيت الأبيض، وخلفه جيرالد فورد، هزمه الديمقراطي جيمي كارتر في نوفمبر 1976. ولم يعد العزيز كيسنجر على رأس الدبلوماسية الأمريكية. وهنا فكر السادات، فيما أطلق عليه مبادرة السلام، والتي تعني الذهاب لإسرائيل. لكن وزير الخارجية إسماعيل فهمي، رفض وقدم استقالته، كما رفض محمد رياض قبول المنصب واستقال أيضًا. فقد رأى أن الزيارة ستتسبب في عزلة مصر عن العالم العربي دون أن تحقق شيئًا.
حاول محمد إبراهيم كامل تحسين العلاقات المصرية العربية بعد الزيارة، حيث يقول: “في اجتماع مجلس الجامعة العربية في 27 مارس 1978، حضر الاجتماع ممثلون عن الدول العربية جميعًا، عدا سوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوبية، التي قاطعت الاجتماع احتجاجًا على زيارة الرئيس السادات للقدس. أما منظمة التحرير فقد شاركت في الاجتماع، مما أسعدني كثيرًا، وشارك في الاجتماع في الاجتماع أربعة عشر وزيرًا للخارجية، وكان ذلك في حد ذاته ذا مغزى كبير”. ويضيف: أكدت التزام مصر بالتسوية الشاملة، المبنية على الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وعلى رأسها حقه في تقرير المصير”.
ويضيف إبراهيم كامل: “وفي ظهر اليوم التالي، اتصل بي الرئيس السادات، وقال لي: على فكرة يا محمد، عزرا وايزمان أرسل لي برقية، يطلب الحضور إلى القاهرة، وقد رددت عليه بموافقتي على ذلك. وأجبته في ذهول: وكيف توافق على ذلك والوزراء العرب مجتمعون في القاهرة، والجيش الإسرائيلي يحصد الأرواح وينشر الدمار في لبنان؟ فقال: لا بد أن لديه رسالة مهمة، يريد أن ينقلها إلي. ولماذا لا يرسلها عن طريق السفارة الأمريكية أو طريق المحطة الإسرائيلية؟ فقال: وماذا سنخسر من حضوره والاستماع إليه؟ وليس هناك داع أن يعلم أحد بحضوره إلى مصر. فقلت له: نخسر الكثير، إن اختياره الحضور في الوقت الذي فيه الوزراء العرب هنا، ليس اعتباطًا، إنه تخريب متعمد لأي تقارب عربي مع مصر. فجن جنوني وعدت أرجوه في هدوء، أن يلغي زيارة وايزمان أو يرجئها على الأقل في الوقت الحالي. فقال السادات: إنت أصلك لا تعرف وايزمان أنه صديقي”.
ويقول إبراهيم كامل: “والغريب أن ما ذكره وايزمان في مذكراته التي صدرت فيما بعد، كان العكس هو ما حدث. أي أن السادات هو الذي أرسل له يطلب حضوره إلى القاهرة في يوم 30 مارس 1978. وأن الرئيس المصري قال له، إنه غير مهتم بدولة فلسطينية، وأضاف وكنت سعيدًا لسماع مرافقي أهارون باراك لحديثنا، لأنه بدون شهادته لم يكن ليصدقني أحد في إسرائيل”.
في محاولة للخروج من الطرق المسدود، قرر جيمي كارتر إجراء لقاء ثلاثي، يضم الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل، يكون هو منظمه والحكم فيه، وتقرر عقد تلك القمة في المقر الرئاسي في كامب ديفيد في 5 سبتمبر 1978.
ويقول بطرس غالي: لكن أسلوب السادات قد أربكنا، فكلما التقى مع كارتر أو بيجن، لم نكن نبلغ على الإطلاق بما قاله، في حين كنا نلاحظ، أن الزعيمين يحيطان وفديهما بالأمر، قبل كل اجتماع وبعده. وكنت أخشى من أن السادات بغرض استعادة سيناء، قد يقدم تنازلات ضخمة. كان تكتيكه يقوم على إقناع الولايات المتحدة وإسرائيل، بأنه معتدل بينما وفده غير مرن، اعتقادًا منه أن ذلك يدعم موقفه التفاوضي.
وفي 17 سبتمبر، أصبح متداولًا، تحقيق التوصل إلى اتفاقيتين، حول السلام في الشرق الأوسط ، السلام المصري/ الإسرائيلي، وإقامة حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويقول إبراهيم كامل: ”قلت للسادات أرجوك وأستحلفك، أن ترفض التوقيع على هذا الاتفاق المدمر” فقال السادات: “إنك لا تعلم شيئًا عن العرب، أنهم لو تركوا وشأنهم، فلن يحلوا أو يربطوا” فقال محمد إبراهيم كامل: “أنا لا أشاركك الرأي فيما قلته، وهو ليس صحيحًا على إطلاقه، فقد اجتمعت كلمة العرب، واتحدوا على يديك أنت نفسك، وحققوا تضامنًا وتكاتفًا عظيمًا، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا في حرب أكتوبر 73 وبعدها”.
ولم يؤد هذا الحوار سوى لاستقالة محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية، فقبلها السادات، ولكن طلب منه عدم إعلانها في كامب ديفيد، فكان ثالث وزير خارجية يقدم استقالته بعد إسماعيل فهمي ومحمد رياض. وانتهى الأمر كما ذكر إبراهيم كامل: “الاتفاقية وفقًا للمشروع الأمريكي لن تؤدي إلى حل شامل، بل ستنتهي إلى صلح منفرد بين مصر وإسرائيل، وسيؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة، أخطرها عزلة مصر وانعزالها عن العالم العربي، وما سيؤدي إليه ذلك من إطلاق يد إسرائيل في المنطقة”.
يقول حافظ إسماعيل: إن اندلاع الثورة الإيرانية هو ما دفع أمريكا لتحقيق اتفاق مصري– إسرائيلي سريع، فحتى منتصف يناير 1979 لم تكن مصر وإسرائيل قد توصلتا إلى توقيع المعاهدة المقرر لها ثلاثة أشهر بعد توقيع الاتفاق، وقد مر على الاتفاق ستة أشهر، ولم توقع المعاهدة. فكانت الثورة في إيران قد أسقطت الشاه، وأرغمته على مغادرة البلاد، مما دعا الولايات المتحدة لممارسة أقصى جهد، لتحقيق اتفاق مصري– إسرائيلي سريع. وعلى ذلك قرر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، أن يلقي بثقله لإنقاذ معاهدة السلام.
بطرس غالي يسعى لتحسين العلاقات مع إثيوبيا.. والسادات يتعمد إفشاله:
لم يقتصر انحياز السادات للسياسة الأمريكية في القضية العربية، بل امتد نشاطه لخدمة السياسة الأمريكية في إفريقيا. فيقول بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية: “امتد تعاون السادات مع أمريكا في إفريقيا، وقد امتد ليشمل منجستو هيلي ماريام، الذي كان قد قام بإقصاء الإمبراطور هيلاسيلاسي إمبراطور إثيوبيا. ومن أجل المضي قدمًا في سياستي الإفريقية، كان يتعين علي التعامل مع منجستو. وقد حاولت مرارًا، أن أقنع السادات، بأن مصلحة مصر الوطنية تطلب منا أن نقيم علاقات جيدة مع إثيوبيا، حيث تنبع نسبة 85% من مياه النيل، ومن ضمان تدفق مياه النيل، فإنه لا بديل عن التعاون مع إثيوبيا، ولا سيما بالنظر إلى مشروع الري الإثيوبي المقام في بحيرة تانا، والذي يمكن أن تقلل مياه النيل التي تصل إلى مصر، وما دامت العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا متوترة أو عدائية، فإننا نكون عرضة لمشاكل خطيرة. وفي مساء يوم ما، وبعد حديث هاتفي طويل، وافق السادات إلى منجستو، وأذن لي بالسفر إلى أديس أبابا في زيارة رسمية. وقد كنت في حاجة إلى مساندته لخطتي، الرامية لإقامة تضامن بين دول حوض النيل، وذلك كيما ننشئ معًا هيئة للنيل، يمكن أن توفر المياه والطاقة والاتصالات لجميع شعوب ضفاف النيل. وعندما أصبحنا فوق أديس أبابا، رفض المطار التصريح لنا بالهبوط، وقد أبلغني قائد الطائرة، أن الوقود غير كاف، أصدرت تعليماتي لقائد الطائرة، أن الوقود ينفد وأننا سنهبط هبوطًا اضطراريًا، وهبطنا سالمين.
وجدنا السفير المصري في صالة كبار الزوار، وهمس في أذني، أن منجستو يرفض مقابلتك، وأعلنت رحيلنا. وعند عودتي للقاهرة، علمت أن منجستو كان مستعدًا لاستقبالي، كمبعوث خاص للرئيس السادات، غير أنه عشية سفري إلى إثيوبيا، أصدر السادات بيانًا صحفيًا، انتقد فيه منجستو ونظام حكمه الفاسد، إلى الدرجة التي هدد فيها بالتدخل العسكري، إذا ما تجرأ على المساس بمياه النيل. وقد وصل نص هذا الهجوم إلى منجستو. وثار منجستو مهتاجًا، وأصدر أوامره بمنع طائرتي من الهبوط”.
بذلك أخرج الرئيس السادات مصر من موقعها الطبيعي، الذي يحقق مصالحها السياسية الوطنية والقومية، وتخلى عن مركزها الطبيعي في قيادة الكفاح الوطني والقومي جراء قبول الحل المنفرد. حيث لم تعد مصر قادرة على حماية مصالحها الحيوية في نهر النيل وقناة السويس.
والأكثر سوءًا هو تخليه عن مسئولية مصر عن قطاع غزة، الذي كان مسئولية مصرية بعد هزيمة حرب 1948، واتفاق الهدنة الذي عقدته الأمم المتحدة عام 49، وليته سلمها للأمم المتحدة، كما عرض ذلك حافظ إسماعيل على هنري كيسنجر في فبرابر 1973، لكنه سلمها إلى مناحيم بيجن وفق معاهدة كامب ديفيد. لذلك جاءت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 لتصل ما انقطع.