في خطوات متسارعة لم تركن إلى الأصوات المجتمعية العديدة، صدر القانون رقم 14 لسنة 2025، ذلك بعد أن أقره رئيس الجمهورية وفقا للاعتبارات الدستورية، فبات سائداً على كافة علاقات العمل، بحسب القواعد التي وردت به، وإذ إنه لا شك في كون النظم القانونية المحترمة، يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام، هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا، لا يتواجد القانون، إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية، إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.
ومن هذا المنطلق، فهل سعى قانون العمل الجديد إلى حماية مصالح جماعة العمال، بحسب وصفه من أهم القوانين الاجتماعية ذات الثقل، أم أنه كان متماشياً مع رغبة السلطة التنفيذية صاحبة مشروع القانون، إذ من المفترض أن يكون القانون نابعا من المجتمع كمخرج لتطلعاته، وليس قانونا فوقيا، لهذا يجب على التشريع أن يحقق في الحدود الدنيا نقاشا عموميا، يقدمه المجتمع، ولا تكون صناعة القانون من داخل غرف مغلقة منفصلة عن المجتمع، وليست على دراية باحتياجاته وتطلعاته التشريعية، وهو ما يمكننا التعبير عنه، بأن يتم طرح التشريعات والتعديلات القانونية للمناقشات الاجتماعية، وعلى أقل تقدير، حينما يتعرض القانون لتنظيم أحوال فئة بعينها، فيجب أن يتم طرح التشريع على هذه الفئة لأخذ الرأي، فيما يتم من تعديلات أو تنظيمات قانونية جديدة، ويجب ألا يتم العرض على فئة بعينها من فئات المجتمع المعني بالتشريع، وإنما وجب أخذ رأي المخاطبين بالقانون على اختلاف مشاربهم وتطلعاتهم، حتى يصدر التشريع في أكثر صورة تناسبا مع الاحتياجات المجتمعية الحقيقية، ذلك لكون القانون في مجمله، إنما يعني تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي؛ بغية إنتاج ثقافة معينة. لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون و المجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟ إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل التأكيد على أهميته ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول، بأن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني أن القانون حقل من الحقول السوسيولوجية، أو أن القانون ظاهرة اجتماعية موجود بيننا بشكل دائم، فرضته علينا حاجة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إيدجار موران، بقوله إن المجتمع أنتج القانون الذي أنتجه، بمعنى أن هناك نوعا من العلاقة الوجودية بين القانون والمجتمع، فالمجتمع ينتج القانون، وهذا الأخير هو بدوره ينتج المجتمع من خلال تلك القواعد التي يسطرها وكذا الكوابح التي ينهجها.
وإذ يشكل قانون العمل أحد أهم القوانين الاجتماعية، بحسب أن العمل أول مفردات الحياة، ومن المفترض أن يهتم قانون العمل الجديد بتوفير العديد من الحقوق التي يحتاج لها العامل، والتي لم تكن متوفرة في القانون القديم، والذي يخلق بيئة وظيفية جاذبة للقطاع الخاص الذي ظل طاردًا لموظفيه خلال الفترات السابقة، ووفر قانون العمل الجديد العديد من المزايا، ما جعل العديد من العاملين بالقطاع الخاص، ينتظرون صدور مشروع قانون العمل الجديد، ولكون مشروع قانون العمل، ما هو إلا تشريعاً اجتماعياً، يمس حياة الملايين من العمال المصريين، وينظم العلاقة بين أطراف اجتماعية، تتباين مواقعها ومصالحها.. فإنه من الطبيعي أن يكون محط اهتمام كبير، وأن يحظى بنصيب وافر من الجدل الاجتماعي.
ومن هنا وجب، أن تكون فلسفة مشروع القانون متوجهة بشكل أساسي إلى الاستجابة للحاجات المجتمعية للعمال، والتصدي كذلك للمشكلات التي أفرزها الواقع أو أفرزتها القوانين السابقة على المشروع الجديد، فنحن بحاجة إلى قانون يتصدى للأزمات والمشكلات التي عانى منها العمال في الحياة الواقعية خلال السنوات الماضية، والتي أفرزها تطبيق القانون السابق، والتي كانت سبباً رئيسياً للسعي نحو مشروع القانون الجديد، كما أنه يجب السعي نحو تفعيل نصوص ومبادئ دستور 2014، كما يجب السعي نحو الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها مصر بخصوص العمال وحقوقهم، وهي كثيرة العدد، وبها من النصوص ما يصلح أو يكون كافياً حال تطبيقه أو إدخاله ضمن القوانين الداخلية، بعيداً عن قيمة المعاهدات والاتفاقيات الحقوقية سواء من الناحية الدولية أو من زاوية قوتها الدستورية أو مدى إلزاميتها. وإذ إن أبرز مشاكل قانون العمل الحالي، وأبرز مشكلات العمال الواقعية تكمن في استقواء رؤوس الأموال وسيطرتها على السوق، وتأثيرها على الحياة العامة بشكل كبير، وتدخلها في غالبية القرارات الاقتصادية والسياسية، كما أن هناك شريحة ليست بالقليلة من أصحب رؤوس الأموال، يمثلون كتلاً برلمانية، ومدى توافق الحكومة بنوابها مع هذه الكتل الرأسمالية، ومدى تعارضها هو الفيصل الحقيقي في كيفية الحفاظ على حقوق العمال في مشروع قانون العمل الجديد، وإن كانت الرؤى على الأفق تذهب إلى حالة توافقية بين حقوق العمال وحقوق أصحاب الأعمال، لكن يجب أن تكون الغلبة لأصحاب الأعمال، مما يجور أو يضعف موقف العمال في نصوص مشروع القانون، لكن الأمثل أن تميل الكفة نحو حماية فئة العاملين من تحكمية السوق وفرض آلياته عليهم، بما يضر حقوقهم في المجمل.
وإذ أن الهدف الرئيسي لأي تشريع هو تنظيم العلاقة بين فئة المخاطبين بأحكامه، ولما كان لقانون العمل خصوصية ذاتية، لا تنفلت عن ذلك الهدف، ولكنها تزيد عليه في كون قانون العمل بذاته وبصيرورته أهم نماذج القوانين الاجتماعية، فبالتالي فإن الاهتمام بمسألة الصياغة القانونية ليس مجرد اعتناء بالجانب الشكلي والإجرائي، إنما الهدف منه هو الوصول إلى تطبيق دولة القانون، والحكم الراشد من خلال سن تشريع جيد ومتطور، في منتهى الوضوح والدقة في الصياغة، منسجما مع الدستور وغير متعارض مع القوانين الأخرى، مفهوم عند عامة الناس وقابل للتطبيق، مراعياً ما لهذا التنظيم التشريعي من أهمية وضرورة مجتمعية.
ولكن صدر قانون العمل بعيداً بشكل كبير عن كافة الاعتبارات الموضوعية وأوجه النقد التي وجهت أسهمها إليه، حال كونه مشروع قانون، إلا أن السلطة أصدرته بما به من سلبيات قانونية، لا تتوافق مع تقدمية حقوق العمال، وهو ما سنتطرق إليه بشكل تفصيلي في المقال القادم.