وصل رئيس الوزراء السوداني إلى مقر عاصمة القرار السوداني حاليا، وسط حالة من الجدل بشأن مدى قدرته أن يحقق مصداقية فكرة الحكم المدني من ناحية، ومدي استقلاله في صناعة القرار عن مجلس السيادة ورئيسه من ناحية أخرى.
في تقديرنا، الأهم على الإطلاق، ليس هذا الجدل الموجود حاليا في المجال العام السوداني، ولكن ما يهم فعلا، ويمكن أن يساهم في تطوير الديناميات الداخلية بين الأطراف السيادية والأطراف السياسية على المستوى المحلي، بمعنى ما هي الفرص التي يتيحها وجود كامل إدريس بشأن عدد من الملفات، منها أولا: فرص صناعة التوافق الوطني السوداني في هذه المرحلة من عدمه، باعتبار أن هذه هي المنصة التي يمكن أن ينطلق منها قرار وقف إطلاق النار في الصراع السوداني.
ومنها ثانيا: حالة التفاعل بين السودان والعالم دوليا وإقليميا في هذه المرحلة المتطلبة دعما ومساعدات للسودان وصياغة تفاهمات بشأن إعادة لإعمار، أيا ما كان توقيته.
في البداية، لا بد من رصد هدف القرار وتوقيته وأهدافه من جانب مجلس السيادة ورئيسه الفريق عبد الفتاح البرهان.
لا يمكن فصل قرار وجود رئيس وزراء سوداني مدني على المستوى اللحظي عن أمرين، قدرة الجيش على السيطرة الكاملة على العاصمة السياسية للبلاد، بما يعني قدرة رئيس مجلس الوزراء من إعلان حكومته من العاصمة التاريخية والسياسية للبلاد، وهو أمر له قيمة رمزية كبيرة على المستوى السياسي والدولي؛ بشأن استمرار السودان كدولة متماسكة. المسألة الثانية، هي استكمال متطلبات فك تجميد أنشطة دولة السودان في الاتحاد الإفريقي، بما له من ثقل وبما للسودان من وزن تاريخي داخل الاتحاد، أما المسألة الثالثة، فهي استيفاء متطلبات المجتمع الدولي بشأن التحول نحو حكم مدني، وذلك بغض النظر عن قدرة رئيس الوزراء وهياكل الدولة التنفيذية في صنع القرار بشكل مستقل، أو طبيعة المسافة بين مجلسي السيادة والوزراء على المستوى الواقعي.
الأصدقاء المشتركون بيني وبين الدكتور كامل إدريس يشيرون إلى أنه رجل برجماتي بامتياز، وهو يملك جملة من الخبرات تؤهله للتواصل على الصعيد الدولي بشكل يلبي طلبات وطموحات رئيس مجلس السيادة ورئيسه، خصوصا تحت مظلة الوثيقة الدستورية الجديدة التي جعلت موازين القوي في صالح الجيش السوداني، وعلى نحو مواز يلبي تعيين د. كامل إدريس متطلبات المجتمع الدولي بشأن مسألة التحول الي الحكم المدني حتى ولو بمظاهر شكلانية وبلا مصداقية حقيقية، نظرا إلى أن مسألة التحول إلى حكم القوى المدنية بشكل واقعي، وفي ضوء حالة مقدرات القوى السلطوية والشمولية والعسكرية، فإن تكاليف هذه الخطوة باتت تكلف الدول المعنية حروبا وعدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وهو الأمر الذي ترتب عليه تكاليف باهظة للعواصم الدولية، تهديدا لمصالحها الحيوية كأمن البحر الأحمر مثلا الذي يمثل فيه السودان، وشواطئه عنصرا فيه.
في ظني، أن التفاعل مع وجود (رئيس وزراء مدني) جاء إيجابيا على المستويين المحلي والإقليمي فعلى المستوى الأول، عقد في كمبالا اجتماع للتحالف المدني الديمقراطي “صمود” صدر عنه بيان، لم يشر صراحة إلى مسألة تعيين رئيس للوزراء، ولكنه أعلن التفاعل مع المستجدات، فطبقا لمنطوق البيان قال: “بأنه طوّر رؤيته السياسية لمجاراة المستجدات السياسية والعسكرية داخل السودان، وتباين المواقف الإقليمية والتحولات الدولية”.
هذه الرؤية تبلورت حول عدد من النقاط هي:-
- أعطت أولوية لوقف الحرب المندلعة، نظرا لتداعياتها على الشعب السوداني، وأقر آلية تنفيذية بهذا الشأن منها القيام بجولة إقليمية لحشد الدعم لتنشيط التفاوض بين أطراف النزاع ووقف إطلاق النار في السودان.
- معالجة الأزمة الإنسانية المحتدمة، والتي ترتب عليها جوع وأمراض فتاكة.
- رفض تشكيل حكومة موازية سعيا وراء شرعية، حيث قال منطوق البيان، إن الرؤية الجديدة أعطت الأولوية القصوى لوقف الحرب ومخاطبة الأزمة الإنسانية، مشددًا على أن سعي السلطات لتحقيق الشرعية والتنافس عليها بتشكيل حكومات بواسطة الدعم السريع وحلفائه أمر لا يستجيب لاحتياجات السودانيين التي تتمثل في الأمن والغذاء واستعادة الحياة المدنية.
- إطلاق التواصل مع كافة الأطراف لإطلاق عملية سياسية عبر مائدة مستديرة، تقود إلى توحيد المواقف لإيقاف الحرب.
وعلى الرغم من شمول البيان للمطالبة بتحقيقات بشأن التجاوزات التي جرت في الحرب من جانب الأطراف المنخرطة فيها، فإن هذا البيان يمكن أن يساهم في تقديري في تقريب المسافات بين تحالف صمود ورئيس الوزراء في هذه المرحلة المبكرة من عمر الرجل السياسي، بشرط أمرين هما:
أولا: قدرة كامل إدريس على صياغة علاقات مع رموز مجلس السيادة بشكل يخاطب متطلباتهم الأمنية والعسكرية في هذا التوقيت، وأيضا لا يخل بوزنهم في المعادلات الداخلية لا على الصعيد المعنوي، من حيث الصورة ولا على الصعيد السياسي، من حيث التشاور في عمليات صنع القرار.
ثانيا: قدرة كامل إدريس على توزير عناصر لحكومته، تمتلك إجماعا وطنيا، من حيث الاستقلال عن اتجاهات المكون العسكري في صناعة القرارات التنفيذية، وهو أمر يتطلب قدرة مطلوبة وبإلحاح تحت وطأة معاناة الشعب السوداني من جانب رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان في إبعاد المتحالفين معه عسكريا عن التمثيل السياسي في حكومة كامل إدريس.
على المستوى الإقليمي، هناك قبول لرئيس الوزراء الجديد، وهو قبول نراه في المجهود المصري، في فك تجميد أنشطة دولة السودان في الاتحاد الإفريقي، انعكس في جولة وزير الخارجية المصري د. بدر عبد العاطي مؤخرا في دول غرب القارة الإفريقية، أما على المستوى السعودي، فهو ينعكس في لقاءات وزير مفوضية الاتحاد الإفريقي مع المستويات الدبلوماسية السعودية المتعددة في هذه المرحلة بشأن السودان.
وطبقا لمفردات المشهد الراهن في السودان، فإن هناك مسئولية تقع على كل من القاهرة والرياض في دفع الفريق عبد الفتاح البرهان بشأن صياغة العلاقات المستقبلية مع مجلس الوزراء السوداني برئاسة كامل إدريس تحت مظلة مساحات من الاستقلال السياسي، تُمكن الرجل من القيام بمهامه بمستويات عالية من الرضا من التيار الرئيس من الشعب السوداني، بما يوفره ذلك من فرص في تحسين مستوى جودة الحياة، لمن تبقى من الشعب السوداني في ربوعه.
أما عن ملف وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، فإن هذا الملف لا أظن أنه سوف يكون من ضمن صلاحيات رئيس الوزراء السوداني الجديد كامل إدريس، فهذه المساحة سوف تكون رهنا لقرار القوات المسلحة السودانية، إذا استطاعت أن تضغط على حلفائها العسكريين على الأرض، وحجمت أطماعهم في السلطة المطلقة لتكون أكثر واقعية في مشاركة في السلطة على نحو يتم التوافق عليه في المراحل المقبلة، إذا توافر للفاعلين السودانيين المحليين إرادة إنسانية في وقف هذه الحرب، وإنقاذ الإنسان السوداني من أهوالها المدمرة.