يعتبر صندوق النقد الدولي “تقليص دور القطاع العام في الاقتصاد بشكل حاسم” أحد الشروط الأساسية أساس لصرف الشريحة الرابعة من القرض التي تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار، فملكية الدولة كانت المحور الأساسي في زيارة بعثة الصندوق الأخيرة لمصر أخيرًا، ولقاءاتها بالمسئولين المصريين.

دعت فلادكوفا هولار، رئيسة البعثة، أكثر من مرة بشكل مباشر أو بغير مباشر إلى تقليص دور الدولة بالاقتصاد، وسرعة تنفيذ برنامج تخارج الاستثمارات في القطاعات التي التزمت الحكومة بتقليص تواجدها فيها، وتمكين القطاع الخاص من المساهمة بشكل أفضل بالنمو الاقتصادي.

لكن المجلس الوطني للتنافسية كان له رأي مغاير، إذ أكد أن التجارب العالمية تُظهر بوضوح، أنّ طريقة الخصخصة لا تقلّ أهمية عن حجمها، فبيع الأصول على عجل وبتقدير أقل من قيمتها، يبدّد الثروة العامة، ويهدر رأسمالاً سياسياً واجتماعياً، يصعب تعويضه.

يري المجلس ضرورة، أن يكون برنامج الطروحات رشيداً ضارباً المثل بدول مثل أستراليا وكندا، تبنت خصخصة مسئولة مشروطة بالاستثمار اللاحق وحماية العمالة، فحقّقت كفاءة أعلى، وزادت ثقة المواطنين في الإصلاح، مطالبًا بإطارٍ رشيد لبرنامج الطروحات المصري يجمع بين التقييم العادل والشفّاف لقيمة الأصول، ومشاركة الجمهور لضبط السلوك الاحتكاري، واشتراطات اجتماعية واستثمارية، تقي الاقتصاد من التجريف بعد البيع.

البيع بالقيمة الدفترية أم العادلة

يستند المجلس في دراسته التي تحمل عنوان «برنامج الطروحات الرشيدة .. بيعٌ مُنظَّم، يحمي الثروة القومية، ويدعم كفاءة الاقتصاد.. ويُعزِّز الاستثمار المسئول»، إلى تحليل بيانات مالية حديثة تُظهر أن القيمة الدفترية لأكبر ‎32‎  شركة مملوكة للدولة تقلّ بنحو ‎27 ٪‎ عن قيمتها العادلة، وكذلك لدراسة مقارنة لنتائج أكثر من ‎120‎  صفقة خصخصة دولية خلال العقود الثلاثة الماضية، مشددا على أنّ النجاح لا يُقاس بسعر البيع وحده، بل أيضاً بقدرة الأصل على تحقيق نموٍّ مستدامٍ وتشغيلٍ أعلى بعد انتقال الملكيّة.

القيمة الدفترية أو القيمة المحاسبية، تعني قيمة الشركة وفقًا لـ “دفاترها” أو بيانها المالي، أما القيمة العادلة لسهم أي شركة، فهي القيمة التي تحقق التوازن بين الوضع المالي التاريخي للشركة والمُتوقع لخمس سنوات قادمة على الأقل، وأهداف المستثمر بناء على العائد المتوقع، وتتطلب القيمة العادلة تعديل الأصول في الوقت المناسب، لتعكس أسعار السوق الحالية.

بحسب المجلس، فإن برنامج الطروحات الرشيد يستهدف تحويل الأصول العامة من عبءٍ مالي، إلى مُحرّك نموٍّ إنتاجي بشرط الالتزام بتقييمٍ عادلٍ، ومشاركةٍ شعبية، وحوكمةٍ صارمةٍ لما بعد البيع، فالتقديرات تشير إلى أن التنفيذ المنضبط لبرنامج الطروحات يرفع معدل النمو الحقيقي إلى 6٪ على الأقل بحلول 2030، ويعزّز تصنيف مصر الائتماني عبر تقليص المخاطر السيادية وتعميق السوق المالية.

700 منشأة عامة في مصر تعادل نصف الناتج المحلي

في تحليله لبيانات القطاع العام في مصر، قال المجلس، إن مصر لديها أكثر من 700 منشأة تعادل نحو 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ويمكن خفض الملكيّة المباشرة دون المساس بالخدمات العامة، لكنه اشترط في الوقت ذاته، بأن تكون الخصخصة مشروطة، تحفّز الأداء التشغيلي كارتفاع المبيعات الحقيقية للعامل 25 ٪ وربحية الشركة 124 ٪ مثل متوسط 79 شركة في 21 دولة، تتبع المجلس نتائجها.

وحذر المجلس من نقطة أخرى مهمة، تتعلق بكيفية إنفاق العائد من تخارج الدولة، فإذا تم إنفاقها استهلاكيا، قد يؤدي ذلك لتراجع النمو المحتمل ما بين 0.5 و0.75 نقطة مئوية سنوياً، وبالتالي يجب إعادة استثمار حصيلة البيع في مشاريع إنتاجية، لأن كل نقطة مئوية تُهدر في سعر البيع، أو تُبدَّد خارج الاقتصاد الإنتاجي هي خسارة دائمة برأس المال الوطني، بينما الالتزام باستثمار العائد وإعادة هيكلة الأصل، يرفع الكفاءة ويحفّز النمو على المدى الطويل.

تحديات هيكلية أمام الطروحات الرشيدة

أشارت الدراسة إلى تحديات هيكلية تقف في طريق برنامج الطروحات الرشيدة أولها تشريعي، يتمثل في غياب نصّ يُلزم المستثمر بضخّ استثمارات رأسمالية محدَّدة في سنوات ما بعد الاستحواذ؛ وكذلك عدم وجود قيد، يمنع نقل الملكية دون موافقة الحكومة، وأولوية إعادة الشراء للدولة أو المستثمر المصري.

من بين التحديات أيضًا تداخل اختصاصات الجهات المشرفة (وزارة قطاع الأعمال، هيئة الاستثمار، جهاز المنافسة)، ما يؤخر اتخاذ القرار ويضعف الرقابة، أما التحدي الثالث فهو اجتماعي، ويرتبط بمخاوف العمالة من التسريح أو تخفيض الامتيازات؛ وقلق الرأي العام من بيع أصول استراتيجية إلى جهات أجنبية، قد تُخلّ بالأمن الاقتصادي.

ما الحل؟

اقترحت الدراسة إنشاء وحدة مستقلة بعنوان وحدة استدامة الخصخصة تابعة لرئيس الوزراء، تُزوَّد بسلطة تدقيق تقارير المستثمرين وربط الامتثال بحوافز أو جزاءات، مع نشر بيانات مفتوحة للرأي العام كل ستة أشهر، على أن تعتمد تلك الوحدة على مؤشرات مثل: نسبة الاستثمارات المنفذة من المخطط، ومعدل دوران العمالة مقارنة بالسقف المسموح، وحصة الأرباح المعاد استثمارها محليًا من اكتشاف الحياد عن تنفيذ العقود مبكرًا وتفعيل بند الفسخ التلقائي، واسترداد الأصل عند الإخلال الجوهري بأي شرط تعاقدي.

كما وضع عدة توصيات، يمكن للدولة اتباعها أولها فيما يتعلق بالتقييم، ويتطلب تقييم 3 شركات تقييم محايد باعتماد أعلى قيمة عادلة بعد تدقيق طرف رابع، على أن يكون الفارق بين القيمة العادلة وسعر البيع 10٪ بحد أقصى، وحال طرح 30٪ كحدّ أدنى من أي شركة حكومية في البورصة، يتم إدراج الأسهم على مراحل خلال 18 شهراً مع أولوية للمكتتبين الأفراد والصناديق المحلية، على أن تكون نسبة الأسهم المملوكة للجمهور في فلك 15٪.

من بين التوصيات أيضًا، وضع التزام بضخ استثمار رأسمالي لمدة خمس سنوات، أو بمعنى آخر وضع بند في العقود يُلزم المشتري بضخّ استثمارات سنوية بقيمة متفق عليها مع جزاءات عند الإخلال مع معدل تنفيذ الاستثمارات لا يقل عن 90٪ سنوياً، بجانب فترة حظر إعادة البيع خمس سنوات، أو بمعنى آخر قيد قانوني يمنع نقل الملكية دون موافقة الحكومة وأولوية إعادة الشراء للدولة/ المستثمر المصري، وهو أمر تطبقه الولايات المتحدة عبر قانون “كونريل” الأمريكي للخصخصة.

كما تتضمن التوصيات حماية العمالة والتدريب بحظر تسريح العمال لثلاث سنوات؛ وإلزام المستثمر ببرامج تدريب وربط الأجور بالحدّ الأدنى الحكومي مع معدل دوران العمالة لا يزيد على 5٪ سنوياً، وإعادة استثمار 20 ٪ على الأقل من الأرباح داخل مصر عبر حافز ضريبي مشروط بإثبات توظيف نسبة الأرباح في توسّع محلي، وأخيراً إنشاء وحدة متابعة ما بعد البيع بوزارة قطاع الأعمال، تُصدر تقارير نصف سنوية، تتابع تنفيذ المستثمرين لتعاقداتهم.