إذا اختار أي نظام سياسي الانتخابات كأحد مصادر شرعيته، فعليه أن يبحث في النظم الديمقراطية عن نظام، يضمن تمثيل مختلف فئات الشعب تحت قبة البرلمان، ويضمن مسارا شرعيا؛ لتمثيل أغلب القوى السياسية، ويستبعد تلك التي لا تحترم الدستور والقانون، أو تستخدم أساليب غير سلمية للتعبير عن توجهاتها، أما إذا كان النظام السياسي غير ديمقراطي، أو ينتمي لتجارب الديمقراطية المقيدة مثل، معظم الدول العربية وبعض دول العالم، فإنه يبحث عن ضمان أغلبية مؤيدة له تحت سقف البرلمان، ولكنه في نفس الوقت يعمل على جذب الناخبين داخل العملية الانتخابية، ويضع قانونا يشجع على المنافسة الداخلية، ولو بين أجنحة النظام، حتى لو لم يسمح بتداول سلمي للسلطة، إلا إنه يعتبر أن مشاركة الناس في الانتخابات ضمانة لاستقرار النظام، وأحد مصادر تثيبت شرعيته، لأنها تجعل صوت الناس أو حتى غضبهم، يمر عبر قنوات شرعية، وليس عبر الشارع أو الاحتجاجات السياسية.
وقد بقيت قاعدة النظام السياسي في مصر منذ إعلان نظام التعددية المقيدة في ١٩٧٦ قائمة على ضمان أغلبية الثلثين لحزب الدولة الحاكم، وهو لم يحل دون وجود انتخابات تنافسية وفق النظام الفردي، وفي المرات التي اعتمد فيها النظام المختلط أي نظام القوائم النسبية والفردي، كانت أيضا تشهد منافسات حامية جذبت قطاعا واسعا من المواطنين إلى المشاركة في العملية الانتخابية؛ نتيجة تنافس سياسي بين القوى المدنية والتيار الإسلامي، أو بين أحزاب المعارضة والحزب الحاكم، أو تنافس بين العائلات منزوع عنه السياسة في كثير من القرى والنجوع.
ويمكن القول إن الأغلبية المضمونة في الانتخابات التشريعية لأحزاب الدولة والموالاة، لم تحل طوال الفترة الماضية، أن تكون هناك انتخابات تنافسية، تجذب المواطنين للمشاركة في العملية السياسية والانتخابية، وتعوض ضعف الأحزاب وضعف المحليات، حتى اختفى وجودها في العقدين الأخيرين.
والحقيقة أن السؤال المطروح ما هي المؤسسات الوسيطة بين السلطة القائمة والمواطنين في ظل غياب المحليات وضعف الأحزاب، وتدني نسب المشاركة في العملية الانتخابية التي لم تعد فقط انتخابات معروفة نتائجها مسبقا، إنما غابت عنها التنافسية.
والواقع أن النظم الديمقراطية معروفة طبيعة وسائطها بين السلطة والمواطنين، فهناك الأحزاب والمحليات والنقابات والمجتمع المدني كوسائط آمنة بين الحكام والمحكومين، وهناك عملية تداول للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية، تضمنها دولة قانون. أما نظام الحزب الواحد في بلد مثل الصين، التي يحكمها منفردا الحزب الشيوعي الصيني منذ ثورة 1949 التي قادها الزعيم “ما وتسي تونج”، ويضم مايقرب من ١٠٠ مليون عضو، أي نحو 5% من عدد السكان، وهو بذلك يعد أكبر حزب سياسي في العالم، وعقيدة الحزب الاشتراكية بطبعة صينية، ويرفع شعار التمسك بخدمة الشعب بكل أمانة وإخلاص (لا إهانته صباحا ومساء، باعتباره جاهلا وقاصرا)، أي أن التجربة الصينية نجحت أن تبنى حزبا عملاقا جذب في عضويته ٥٪ من السكان، ويشهد نقاشا حيويا حول قضايا السياسات العامة من صحة وتعليم ومواصلات، وتقترح قواعده في القرى كما في المدن سياسات بديلة خاصة فيما يتعلق بمشاكلها اليومية.
والحقيقة أن الصين وكوبا ربما تكونان آخر قلاع نظام الحزب الواحد في العالم كله اللذان قدما نماذج نجاح في مجال التنمية الاقتصادية والثقافية والمشاركة الشعبية المحلية، فهي بلاد لا يُقبل فيها نقاش عام مفتوح حول القضايا الكبرى، تسمح بتداول للسلطة عبر انتخابات حرة، كما يجري في الدول الديمقراطية، إنما يوجد بها نقاش في إطار المبادئ والقيود التي وضعها النظام القائم.
ومن هنا، سنجد أن مختلف النظم السياسية حرصت على أن تبتكر وسائل للتواصل مع مواطنيها لتضمن لهم المشاركة في مسار سياسي وانتخابي قانوني، يساعد على الاستقرار، ويُخرج التفاعلات التي تجري في بطن المجتمع إلى العلن.
والحقيقة أن هذه المساحة التي تعطيها مختلف النظم السياسية لمواطنيها، ليس هدفها في كل الأحوال تداول السلطة، إنما تعني مشاركة المواطن في الشأن العام وفي القضايا التي تخصه سواء عن طريق اختيار ممثليه في البرلمان من خلال عملية انتخابية تنافسية، أو ممثليه في المجالس المحلية والبلدية، أو عن طريق الانضمام إلى أحزاب فاعله، تشكل حكومة أو تسقطها كما في كثير من نظم التعددية المقيدة.
لا يوجد نظام سياسي في الدنيا لا يحرص على جذب مواطنيه للمشاركة في المسار السياسي والانتخابي، حتى لو كانت هناك خطوط حمراء لهذا المسار لا يسمح بتجاوزها، فبلد مثل المغرب النظام الملكي يسمح في داخل إطاره وقواعده بالتنافس بين الأحزاب وتشكيل الحكومة، والنظام الديني الإيراني يسمح بالتنافس بين أجنحته المختلفة في إطار نظام “ولي الفقيه”، وتركيا ظلت لفترات طويلة تحكمها مبادئ العلمانية ودور الجيش في وضع القواعد المنظمة للعملية السياسية، حتى ظلت الأولى بشكل جديد وتراجع دور الثاني.
ومن هنا تصبح خطورة القوانين المقترحة للانتخابات في مصر، أنها بلا روح تنافسية وستعمق من انسحاب المواطنين من المشاركة في العملية الانتخابية، فالقوائم الأربع المطلقة التي لا ينافسها أحد بجانب الـ ٥٪ التي يعينها الرئيس وفق الدستور، ستجعل ٥٥٪ من أعضاء البرلمان معينين، إذا أضفنا أن الدوائر الفردية المترامية الأطراف، ستكون للمرشح الأكثر ثراء وقدرة مالية، وستتراجع فيها التنافسية لأدني حد، إذا أضفنا إلى ذلك ضعف المشاركة في العلمية الانتخابية وضعف الأحزاب وغياب المحليات بجانب القيود المفروضة على المجتمع والمبادرات الأهلية، فسنصبح أمام عملية سياسية يغيب عنها التنافسية ومحفوفة بالمخاطر؛ لأنه سينسحب منها غالبية المواطنين من المشاركة العلنية في مسار سياسي آمن وشفاف.