بأي قياس، فهو يوم استثنائي لا مثيل له في التاريخ.
بقدر استثنائيته جرى الطعن لأسباب سياسية في حقائقه الأساسية، التي رأيناها رأى العين، وحفظت الكاميرات مشاهدها.
كان رأي “جمال عبد الناصر”، أن النظام الذي يفشل في صيانة التراب الوطني لا يحق له البقاء، غير أنه تبدت في تظاهرات (9) و(10) يونيو شرعية مستأنفة، طالبته بمواصلة القتال لإزالة آثار العدوان.
لم تكن التظاهرات المليونية التي خرجت في أنحاء البلد ترفض تنحيه؛ إثر الهزيمة الفادحة، شهادة مجردة لعمق تأثير تجربته، بقدر ما كانت شهادة مصدقة لإرادة المقاومة والحياة، أثبت المصريون جدارتهم بها مرة بعد أخرى عند المنعرجات الحرجة.
في لحظة السقوط، انعقدت الإرادة العامة على تحدى الهزيمة، أن يرفع البلد رأسه من جديد.
بقصد أو بغير قصد فإن التشكيك المتكرر، عاما بعد آخر، في حقيقة تلك التظاهرات، هو طعن بدواعي كراهية “عبد الناصر” في إرادة القتال، التي أعلنت عن نفسها في الميادين العامة والشوارع بأحلك اللحظات.
لم يكن ممكنا، أن تقاتل مصر من جديد في موقعة “رأس العش” بعد أيام قليلة من هزيمة يونيو، لولا الروح العامة التي ولدتها تظاهرات رفض الهزيمة.
لم تكن القضية “عبد الناصر” بقدر ما كانت مصر نفسها، مستقبلها ومصيرها.
هو نفسه أخذته المفاجأة، كان يتصور أن تُنصب له المشانق في ميدان التحرير.. لا أن تخرج الملايين تعرض المقاومة، وتطالبه بالبقاء واستئناف القتال.
هناك من شكّك في تظاهرات (9) و(10) يونيو كـ”تمثيلية” دبرها “عبد الناصر” للبقاء في السلطة، والإفلات من مسئولية الهزيمة، أو نسبها لتدبير من الاتحاد الاشتراكي.
بعض الذين طرحوا شكوكهم، استندوا إلى وقائع حقيقية لدعوات من مسئولين في الاتحاد الاشتراكي وبعض الجامعات للخروج، أو التحريض عليه، غير أن الفعل التاريخي نفسه كان عفويا ومباشرا، لم ينتظر توجيها من أحد، ولا كان في طاقة أي تنظيم أن يدفع الملايين إلى الشوارع في لحظة واحدة.
لو أن الاتحاد الاشتراكي بكل هذه القوة لما انتهى أمره، وتقوض نهائيا في لحظة واحدة بقرار إداري أصدره الرئيس الأسبق “أنور السادات” بعد سنوات قليلة من وفاة “عبد الناصر”.
قيل إن الناس لم يكونوا مطلعين على حجم الهزيمة، وإنهم لم يجدوا غير “عبد الناصر” أمامهم، غير أنه عندما تبدت الهزيمة أمام الناس وأمام العرب في كامل حجمها المروع خرجت العاصمة السودانية الخرطوم، حتى خلت المنازل من سكانها، لاستقبال القائد المهزوم الذي وصل إليها دون سابق إعلان لحضور القمة العربية الطارئة في (29) أغسطس (1967).
لم يكن ممكنا، أن تلتئم الإرادة العربية العامة بكل هذه السرعة، ما لم يكن صوت الناس العاديين مدويا على النحو الذي جرى في شوارع القاهرة، وغيرها من المدن المصرية والعربية.
لا تضاهي تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو سوى جنازة “عبد الناصر” بعد ثلاث سنوات.
فيما كان مستحيلا أي تشكيك في وقائع الجنازة، التي لا مثيل لها في التاريخ الإنساني زخما وحزنا، تعرضت تظاهرات رفض الهزيمة لتشكيك متصل.
في مذكرات أمين عام الجامعة العربية الأسبق “عمرو موسى”، إشارة إلى أنه كان هناك “ترتيب” لتلك المظاهرات، مستندا إلى أنه استمع، كما استمع كثيرون لأصوات انفجارات في القاهرة، قيل إنها لطائرات “إسرائيلية” تحلق وتقصف، ثم ثبت أنها طلقات مدفعية مصرية.
الحقيقة لم يكن ذلك من ضمن أي ترتيبات لخروج مظاهرات.
العكس كان صحيحا، فقد استهدف منع أي ردات فعل شعبية متوقعة على تنحي “عبد الناصر” بإثارة مشاعر الذعر والخوف من تدهور أمني كبير في العاصمة.
أثبتت تحقيقات رسمية، أن وزير الحربية في ذلك الوقت “شمس بدران”، كان وراء ما جرى، بأمل أن يتولى هو رئاسة الجمهورية، دون أن يكون بوسع أحد أن يوقفه.
في أعقاب الهزيمة، جرى اكتشاف تنظيم سري داخل القوات المسلحة، أغلبيته من خريجي دفعة “شمس” في الكلية الحربية عام (١٩٤٨)، دون أن يكون الرئيس على أدنى علم به. اعتقل أعضاء التنظيم وواجهه “عبد الناصر” قائلا: “لقد خنت ثقتي، ولم تكن جديرا بها”.
في شهادة روائية عن المشاعر العامة التي اجتاحت مصر ليلة التنحي كتب “إبراهيم عبد المجيد” “في الصيف السابع والستين”: “الجميع يجرون صارخين بالهتاف. صاخبين بالدموع.. رجالا.. نساء.. شبابا.. فتيات.. صبية صغارا.. وعرف الشعب القيامة”.
“دوت صفارات الإنذار.. من يسمع صفارات الإنذار الآن!! ما معنى الإنذار الآن؟ أن أحدا ممن امتلأ بهم الوادي الحزين لا يشعر، إلا بأنه صار عاريا فجأة.. يلتفت حوله فلا يجد شيئا بعد أن صفع على رأسه صفعة شديدة، شلت قدرة الروح وأحبطت دم القلب؛ فاستقر في القاع متخثرا”.
شعور مفاجئ، بأن كل حلم تبدد، وكل أمل انكسر، وأن الرجل الذي مضوا خلفه يعملون ويقاتلون، انقضى عهده، وأن الظلام حل على البلد.
أهمية تلك الشهادة، أن لصاحبها رؤية نقدية حادة لثورة يوليو.
في شهادة أخرى، كتب من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة شاعرها الأكبر “محمود درويش”:
“خبر صغير في حجم الموت. ثلاثة شبان من الناصرة، توقفت قلوبهم وماتوا. قرى الصعيد والأقاليم تزحف إلى القاهرة لتعيد عبد الناصر إلى الوقوف. كيف يكون الرمز في حجم الوطن؟ لأن بقاء الرمز يبعث الأمل باستعادة الوطن. يوم كان جمال عبد الناصر يقول: أيها الأخوة المواطنون. ويبدأ… كان كل شيء يتوقف عن الحركة. كان الجائع يشبع، والغريب يعود، وكانت فلسطين تقف على أقدامها تأهبا للتحرير. يوم كان جمال عبد الناصر يقول: أيها الأخوة المواطنون ويبدأ، كان سكان الأرض المحتلة يعتقلون أنفسهم، من أصغر طفل إلى أكبر شيخ، قرب أجهزة الراديو، وكثيرا ما كانوا يندفعون إلى الجهاز الذي يحمل صوت عبد الناصر، ويقبلونه في نشوة وطنية وإنسانية لا تُوصف. والآن يذهب؟.. صار التعلق بالوطن والتحرير مرتبطا بعودة عبد الناصر. وحين عاد، أحس العرب، بأنهم حققوا انتصارا، وخلصوا الأمل من براثن الهزيمة”.
هذا هو جوهر ما جرى في ذلك اليوم الاستثنائي: “استعادة الأمل من براثن الهزيمة”.
كانت تلك إجابة على سؤال: لماذا خرجت الملايين تطالب ببقاء القائد المهزوم؟
بصياغة أخرى: إنه قوة المشروع، وما حققه من تحولات جوهرية في بنية المجتمع، وما خاضه من معارك، أضفت على مصر هيبة القيادة، وما أطلقه من أحلام كبرى، لم يكن يسيرا التنكر لها.
ثم إنها الوطنية المصرية التي أدركت في لحظة السقوط، أنها مقصودة بذاتها.
أثبتت الأحداث فيما بعد، أن الرهان على “عبد الناصر” كان في محله. أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وامتلكت مصر أقوى جيش لها في التاريخ الحديث، تجاوز حجمه المليون جندي، أغلبه من خريجي الجامعات المصرية.
جيش حديث يأخذ بالعلم وفنونه، وقواعد الضبط الصارمة تحكمه، والفضل في ذلك يعود أساسا لقائده العام بعد الهزيمة الفريق أول “محمد فوزي”: تدريبات قاسية، وبروفات جادة في ميادين القتال أثناء حرب الاستنزاف، قبل أن نذهب إلى حرب أكتوبر.
أعطت مصر أقصى ما لديها من إرادة القتال.
ماذا كان يمكن أن يحدث، إذا انقضى شأن “عبد الناصر” يوم التنحي؟!
التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية، غير أن الهزيمة تبدأ في “الإرادة”.
في ذلك اليوم البعيد، لم يكن المصريون على أدنى استعداد لرفع الرايات البيضاء.