من عجائب تقسيم الدوائر الانتخابية ذات التقسيم الذي يقوم به الشارع القانوني المصري كل نظام انتخابي، وربما كل انتخابات، عندما يحدد الدوائر الانتخابية التي تجري على أساسها انتخابات البرلمان، أو انتخابات مجلس الشيوخ (لا يعد هذا الأخير دستوريا برلمانا).

فكثيرا ما شكت القوى السياسية من حجم الدوائر، أو تقطيعها إربا، أو إدخال مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية في بعضها البعض، ويتم ذلك بإدماج جزء في كل، أو فصل قطاع مهم عن بقيته؛ فيتم خلق كيان مستقل، وربما إلغاء أو تأسيس دوائر أخرى بمسميات جديدة.

النظام الانتخابي أحد المحددات

واحد من أهم العوامل التي تتحكم في تحديد حجم الدائرة الانتخابية بغض النظر عن مكوناتها، هو النظام الانتخابي الذي تجري على ضوئه الانتخابات. وهناك قاعدة في الأدبيات البرلمانية، تقول بوجود علاقة قوية بين حجم الدائرة وبين المرشحين. فكلما كان المرشح فردا أو أكثر، حتى لو كان في الأصل منتميا لحزب ما، كلما كان حجم أو مساحة الدائرة محدود. وكلما كان المرشح حزبا أو قوى سياسية وفقا لقانون الانتخاب الذي يمنع الأفراد من المشاركة بشخوصهم، كانت الدائرة أكثر حجما. من هنا نجد أن تقسيم الدوائر الانتخابية في الأسلوب الفردي إبان عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك في الانتخابات المتتالية التي جرت خلال الفترة من 1990- 2011، اتسم بالتعدد وصغر المساحة، فكان 222 دائرة انتخابية. وعلى العكس كانت انتخابات 1984، وانتخابات 1987 التي جرت على أساس حزبي، وشارك فيها الإخوان المسلمين قد قسمت البلاد فيها إلى 48 دائرة.

وهكذا كان النظام الأغلبي بالأسلوب الفردي لكونه نظاما انتخابيا شخصيا، يتم في دوائر ضيقة. وبالمقابل كلما كان النظام نسبيا، أي تتم فيه الانتخابات بطريقة حزبية، كانت الدائرة أكبر، لكن هذا الكبر لا يجب أن يكون مبالغا في مساحتها، حتى لا يغبن حق الأحزاب الصغيرة والمتوسطة.  

محددات مهمة لتقسيم الدوائر

عام 2007، عرضت الدكتورة ليسا هاندلي، في ورقة نشرتها المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية (أيفث) ضمن كتاب بعنوان (Challenging the Norms and Standards of Election Administration) أهم المعايير المتفق عليها لتقسيم الدوائر الانتخابية، وأشارت إلى أن الحياد هو المعيار الأول الضروري في تقسيم الدوائر الانتخابية، بمعنى ألا تكون هناك مصلحة لمقسم الدوائر في تحديد عدد وحجم ومكونات الدائرة من الناحية السياسية. بعبارة أخرى، من المهم ألا تتبع في تقسيم الدوائر ذات الأمور التي كانت تتبع إبان عهد مبارك لمنع أحزاب المعارضة الثلاثة الرئيسة (الوفد/ التجمع/ العمل) من الفوز بمقاعد معتبرة في مجلس الشعب. أما المعيار الثاني فهو المساواة، ويعني تساوي حجم التمثيل في الدائرة، فلا يصح أن يجلس نائب في مقاعد البرلمان يمثل 100 ألف شخص إلى جوار آخر يمثل 300 ألف. المؤكد أن الشارع القانوني قد يجبر على عدم المساواة الدقيقة في حجم الدوائر وعدد الناخبين بها، لذلك درج العمل على وجود نسبة انحراف معياري مقبولة بين الدوائر. وفي مصر كثيرا ما تباينت الدوائر الانتخابية؛ بسبب تباين مقصود في عدد الناخبين، لكن ما هو مهم هو التأكيد على أن هذا التباين لا يكون من الكبر الذي يكسر قاعدة المساواة. المعيار الثالث هو الشمول وعدم التمييز، وبه يتم عادة تقسيم الدوائر وفقا لذات المكونات الإدارية والمحلية. هنا تظهر عيوب التقسيم المغاير لذلك، فيفتت القبيلة الواحدة بين أكثر من دائرة، فيحد من قوتها، ويمنع تمثيلها. وقد يحدث الإخلال بمعيار الشمول عند تقسيم الدائرة المعروف وجود أنصار بها لحزب معين بذاته. وقد يحدث أن تكون هناك جماعة عرقية أو دينية أو ثقافية، تحرم عمدا من التمثيل عند التقسيم، وقد يتم ذلك الفرز الطائفي بشكل غير مقصود، لذلك تلجأ بعض النظم لتلافي ذلك لعمل كوتة للجماعة محل الغبن أو الظلم، فيظهر النظام السياسي، على أنه لا يحرمها وفي ذات الوقت يتحكم في عددها بالبرلمان. المعيار الرابع هو الشفافية، ويعني مصارحة الناس بما سيحدث، وربما أخذ رأي القوى السياسية فيه قبل سنه. بعبارة أخرى، لا يصح أن يطبخ تعديل الدوائر في غرف مغلقة، ويخرج به للعلن بشكل مفاجئ.

واقع الدوائر المصرية اليوم

تجرى انتخابات مجلس النواب في واقع، لا يتسم بأي قدر من المعايير الأربعة السابقة. صحيح أن المشرع القانوني يجد نفسه في حالة إرباك، لكون 90% من السكان في مصر يعيشون تقريبا على ما لا يزيد عن 20% من أرض مصر، لكن من الممكن فعل الكثير لإصلاح أوضاع الدوائر الانتخابية الحالية.

دوائر النظام الفردي الـ222 على غرار انتخابات 1990- 2011، كانت هي والدوائر الـ48 في عقد التسعينات من العام الماضي، كانت هي الأفضل في التقسيم من حيث الحجم ومن حيث المكونات الاجتماعية والاقتصادية للدائرة، وإن كانت تحتاج لبعض التعديلات، لكون بعضها قد فصل تفصيلا ضد المعارضة السياسية وقتئذ، ولصالح الحزب الديمقراطي البائد.

اليوم المشكلة الكبرى تتمثل في وجود دوائر صغيرة المساحة كطنطا وقلين وأبو حمص في النظام الأغلبي بالأسلوب الفردي، وأخرى تبدأ من الجيزة، وتنتهي على حدود السودان وتشمل أيضا البحر الأحمر والوادي الجديد، وذلك بالنظام الأغلبي بأسلوب الكتلة الحزبية المعروف إعلاميا بـ “القائمة المطلقة”. بعبارة أخرى، لدينا دوائر يمكن أن يجوبها المرشح بدراجته أو سيارته، وأخرى تحتاج لتوافر طائرة؛ كي يتحرك فيها. صحيح أن دوائر الأسلوب الأول يمثلها مرشح أو اثنان أو ثلاث أو أربع، بينما الأسلوب الآخر يمثلها 102 نائب، لكن لا يمكن تصديق أن مرشحا بعينه قادر على الدعاية الانتخابية في تلك المنطقة، ولا يمكن لحزب في بلد نام حديث العهد بالديمقراطية أن يستطيع ذلك، ما لم تسخر له قدرات الدولة ومحلياتها وأمنها وإعلامها وجهازها الانتخابي… إلخ.

ما من شك، أن نظام القائمة المطلقة المعيب سياسيا لكونه أشبه بالتعيين أو التزكية، ولكونه لا يتماشى إلا مع النظم السلطوية؛ لكونه يخلق برلمانا طيعا وخانعا وجاثيا أمام السلطة التنفيذية، والمعيب دستوريا لكون المحكمة الدستورية حكمت بعدم دستوريته في انتخابات المحليات مرتين، وفي انتخابات مجلس الشورى خلال الفترة من 80- 1989. هذا النظام الشائة المبتور والمهجور عالميا، هو المسئول عن هذا الأمر. وقد اختير بحجة واهية وزائفة، بأنه القادر على تمثيل الكوتات الست الاجتماعية في الدستور، لأن بعض الأكفاء والمتخصصين في الشأن الانتخابي رفضت مقترحاتهم لعمل نظام انتخابي نسبي قادرة على تمثيل الكوتات، التي يبدو أن واضعي الدستور افترضوا- بسبب الكوتات- أنهم يشكلوا ويعدوا لتأليف مؤسسة اجتماعية لا سياسية، اسمها مجلس النواب!!!!

ولعل الدليل الدامغ على أن المشرع بغى من القوائم المطلقة خلق برلمان طيع، وليس التغلب على عقدة تمثيل الكوتات، هو أنه جعل مجلس الشيوخ الخالي من الكوتات الدستورية، يأخذ بذات أسلوب القوائم المطلقة أيضا!!  

السبيل الأمثل لإصلاح الدوائر الانتخابية

ما من شك، أن السبيل الأمثل لإصلاح الدوائر الانتخابية في مصر هو الخلاص من القائمة المطلقة، والعودة للتمثيل النسبي وفق الـ48 دائرة، أو على الأقل النظام الفردي ذو الدوائر الضيقة. هنا من المهم أن تقوم الهيئة الوطنية للانتخابات بلعب دورها الدستوري والقانوني، فيما يخص تحديد الدوائر الانتخابية، بدلا من أن يبقى هذا الدور متروكا للعبث من قبل هذا السياسي أو ذاك أو متروكا لهذه الجهة الأمنية أو تلك، حتى يمثل حزب الدولة المعروف للقاصي والداني.