بمشاركة الباحثين: هشام جعفر وعبد الرحمن محمد
تواجه مصر تداعيات استراتيجية كبيرة؛ بسبب إعادة الهيكلة الإسرائيلية للشرق الأوسط، والمدعومة من الولايات المتحدة، والتي تعد الحرب على إيران أحد مظاهرها. تهدف إسرائيل إلى إعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية من خلال معالجة القضية الفلسطينية على حساب كل من مصر والأردن، وتهميش الأدوار القيادية العربية التقليدية لصالح تحالفات جديدة، تركز على إسرائيل، والتأكيد على نظام مهيمن متحالف مع الولايات المتحدة يتوقع من الدول الإقليمية الأخرى، أن تتوافق معه.
ومن المتوقع، أن يكون لإعادة هيكلة إسرائيل للشرق الأوسط آثار استراتيجية عديدة على مصر، وخاصة ضمن السياق الأوسع للاستراتيجيات الأمريكية والغربية:
١- الدولة الفلسطينية لا شيء:
أحد العناصر الأساسية في الإرث السياسي لبنيامين نتنياهو، هو “تفكيك الحواجز” التي تواجهها إسرائيل، والتي ترتبط بشكل أساسي، باعتبار الفلسطينيين عقبة رئيسية في المنطقة. لتحقيق ذلك، يعتزم نتنياهو التحرك لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب كلا من مصر والأردن. وهذا يشير إلى حل قوي، قد يتجاوز السبل الدبلوماسية التقليدية أو تقرير المصير الفلسطيني، مما يؤثر بشكل مباشر على حدود مصر مع غزة ودورها التاريخي في عملية السلام.
تاريخيًا، افترضت الرؤية الأمريكية، أن الدول العربية بما في ذلك مصر، لديها مساحة واسعة من الأرض، ويمكنها استيعاب الفلسطينيين، مما يعني أن الفلسطينيين لم يُنظر إليهم كقوميّة مميزة، تتطلب دولة خاصة بها. ونتيجة لذلك، ركزت الولايات المتحدة على إدارة العلاقات مع الدول العربية، بدلاً من التعامل مع الفلسطينيين ككيان وطني منفصل.
وكان من المتوقع في السابق، أن تقود مصر مسار السلام في المنطقة. ومع ذلك، في ظل هذه الرؤية الإسرائيلية الجديدة، قد يصبح مفهوم الدولة الفلسطينية “لا شيء”.
تؤكد الرؤية الاسرائيلية، أن كل التحركات المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية “ستصبح الآن لا شيئا”، وأننا “لن نعطي الفلسطينيين أي شيء”. وهذا يشير إلى تحول واضح عن إعطاء الأولوية للموقف العربي التقليدي تجاه القضية الفلسطينية. كما حاولت إسرائيل تحويل القضية الفلسطينية إلى مشكلة استنزاف داخلية للأنظمة الإقليمية.
٢- التهميش في التحالفات الإقليمية الجديدة:
بينما تهدف إسرائيل إلى إنشاء نظام إقليمي جديد، يتمحور حولها، ويدعمه محور أمريكي عربي، هناك اعتبارات لتجاوز القوى الإقليمية الرئيسية مثل مصر وتركيا وإيران. بدلاً من ذلك، يتحول التركيز إلى التحالفات الاقتصادية التي تُعيد توزيع الأدوار والفرص، والتي تُركز بشكل رئيسي على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل. يؤدي هذا النهج إلى تراجع النفوذ الإقليمي التقليدي لمصر.
لقد هدفت الاستراتيجية الأمريكية، وخاصة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى تجاوز مراكز القوة التقليدية بما في ذلك الشرق الأوسط، من خلال ربط المنطقة والسيطرة عليها من خلال النفوذ الغربي (الأوروبي في البداية، ثم الأمريكي). يسعى هذا “التدخل المُدار” إلى إعادة تشكيل الأنظمة السياسية الداخلية والسيطرة على النخب الحاكمة لضمان توافقها مع المصالح الغربية.
٣- الضغوط على النظام الداخلي في مصر:
تعتبر الولايات المتحدة الآن، أن مصر غير قادرة على إدارة الشؤون الإقليمية، وهذا يتطلب ممارسة كثير من الضغوط المتنوعة، بما يضمن تماشي مصر مع النظام الإقليمي الجديد. تتوقع إسرائيل، أنه بمجرد القضاء على النظام في إيران أو إضعافه، ستضطر القوى الإقليمية الأخرى، بما في ذلك مصر إلى الخضوع للنظام الجديد.
في هذا النظام يصبح الشرق الأوسط جزءًا عميقًا وقويًا من المصالح الأمريكية، ومندمجًا من خلال الدور الموثوق والمركزي الذي تلعبه إسرائيل. يشير جوهر هذا النظام الجديد إلي جهد لتحويل المنطقة إلى جزء متكامل وقوي ومتصل مركزيًا بالمصالح والاستراتيجيات الأمريكية الأوسع.
٤- تغيير المشهد الأمني والمحيط الإقليمي
إن العمليات الإسرائيلية المستمرة التي أضعفت “محور المقاومة” والحرب الجارية على إيران الآن، تؤثر بشكل غير مباشر على مصر من خلال تغيير المشهد الأمني على حدودها وفي محيطها الإقليمي.
إن معارضة نتنياهو لوقف إطلاق النار مع حماس، يشير إلى أن الصراعات في غزة سوف تستمر، مما يؤثر بشكل مباشر على أمن الحدود المصرية- خاصة في ظل ما تقوم به إسرائيل الآن من دعم لجماعات عشائرية فلسطينية في مواجهة حماس، والذي يحمل بذور حروب أهلية بجوار مصر المباشر تضاف إلي الحرب في السودان وعدم الاستقرار في ليبيا، بالإضافة إلي ضغوط الأمن في البحر الأحمر والضغوط الإثيوبية على تدفق مياه النيل.
بغزة تكتمل حلقات النار التي تحيط بمصر.
٥- تهميش الأدوار القيادية العربية التقليدية:
أصبحت الأدوار القيادية العربية التقليدية مهمشة بشكل كبير في الشرق الأوسط؛ بسبب ظهور تحالفات جديدة وتحولات في الأولويات الإقليمية، والتي تفضل بشكل متزايد التعاون مع إسرائيل.
كانت دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تنظر إلى إيران ووكلائها، على أنهم التهديد الإقليمي الرئيسي ودعمت حملة “الضغط الأقصى” ضد طهران، بينما بدأت أيضًا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولكن الحرب في غزة غيرت هذا المشهد، حيث أصبحت طهران تبدو الآن أقل تهديداً للعالم العربي، وبات يُنظر إلى إسرائيل بشكل متزايد، باعتبارها قوة إقليمية مهيمنة.
لقد رحبت دول الخليج، على الرغم من المعارضة القوية من جانب إسرائيل، بالتفاعلات الدبلوماسية التي تتجاوز إسرائيل، مثل لقاء ترامب المفاجئ مع الزعيم السوري الجديد ومحادثاته المباشرة مع إيران، مما يشير إلى تحول في تحالفاتها.
أصبح السعوديون لاعباً رئيسياً في السعي إلى إيجاد توازن إقليمي جديد بين إسرائيل وإيران، بهدف العمل كنقطة محورية لنظام إقليمي جديد. إنهم يفضلون الآن الحلول الدبلوماسية مع إيران على المواجهة العسكرية؛ بسبب المخاوف على اقتصاداتهم وإمكانية نشوب حروب، لا يمكن احتواؤها.
إيران التي تواجه صعوبات اقتصادية، وقلاقل اجتماعية، أصبحت تعتمد بشكل متزايد على دول الخليج لتسهيل المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي. حتى أن المملكة العربية السعودية اقترحت اتحادًا نوويًا إقليميًا مع إيران.
إسرائيل، الواثقة في تفوقها وهيمنتها العسكرية، تخرج منتصرة من غزة ولبنان وسوريا، وهي مستعدة لاستخدام هيمنتها لفرض إرادتها على الشرق الأوسط، بما في ذلك التوغلات العسكرية في جنوب لبنان وسوريا. من وجهة نظر إسرائيل، يُنظر إلى البيئة العربية والشرق أوسطية التقليدية، على أنها ضعيفة للغاية، بحيث لا تشكل عاملاً ذا أهمية، حتى أن بعض أجزائها ترحب بـ “إسرائيل الجديدة”.
تشير تصرفات إسرائيل الحالية المتمثلة في الإبادة الجماعية في غزة إلى انحراف عن المخاوف السابقة بشأن صورتها الدولية، أو تحقيق السلام مع العديد من الدول العربية. وبدلاً من ذلك، فهي تتصرف بثقة في قوتها العسكرية ونفوذها العالمي. يُقدَّم نتنياهو باعتباره الزعيم الذي “أوقف إيران النووية”، وغير المعادلات في سوريا ولبنان، ويرتبط إرثه بتأمين الوطن اليهودي، ويُعتقد أنه بعد انتهاء الحرب على إيران، ستُخضِع القوى الإقليمية الأخرى.
٦- إعادة تشكيل المحاور الإقليمية:
أصبح إنشاء محور عربي إسرائيلي هدفا أساسياً للسياسة الأمريكية. في حين أن تصرفات حماس عطلت عملية التطبيع مؤقتًا، إلا أن دول الخليج لا تزال ملتزمة بتوسيع العلاقات مع إسرائيل.
إن فكرة دمج الشرق الأوسط في المصالح الأمريكية من خلال إسرائيل، تشير إلى تكامل عميق للمنطقة مع الاستراتيجيات الأمريكية. ويشمل ذلك إعادة تحديد الأدوار والفرص استراتيجيًا، وخاصة بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، حيث تجد المملكة العربية السعودية نفسها مقيدة بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل.
تحاول دول مثل الإمارات العربية المتحدة الآن بنشاط تقديم نفسها كنماذج للشرق الأوسط المتعدد الأديان، وكوسطاء ماليين وحضاريين بين المراكز العالمية، مما يخلق أدوارًا جديدة، قد تهمش نماذج القيادة العربية الأقدم.
في المقابل، فإن رؤية نتنياهو للشرق الأوسط تتركز بشكل أساسي على ترسيخ إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة من خلال تحييد التهديدات الوجودية للكيان الصهيوني، وخاصة إيران، وإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي بشكل أساسي لضمان أمن إسرائيل وتفوقها.
في نهاية المطاف، فإنه يهدف إلى شرق أوسط تكون فيه إسرائيل “مطلقة العنان”، وحرة في التصرف، وقادرة على تأكيد هيمنتها دون قيود كبيرة.