تواصل قوات الدعم السريع ارتكاب انتهاكات واسعة النطاق في ولايات كردفان، ضمن مسار متكرر وممنهج، يتجاوز كونه رد فعل عسكري إلى كونه استراتيجية محكمة، تهدف إلى السيطرة الكاملة على الإقليم. فما يحدث ليس جديدًا، بل يمثل امتدادًا مباشرًا لأسلوب إدارة الحرب الذي تبنته قوات الدعم السريع منذ اندلاع النزاع في 2023: تفكيك النسيج المدني، وترويع السكان، وتحطيم الحواضن المجتمعية للجيش السوداني، ودفع المناطق الخارجة عن سيطرتها إلى الانهيار عبر الرعب المنظم.
الاستراتيجية الحالية تركز على عزل ثلاث نقاط رئيسية للجيش السودانى في كردفان: الأبيض، بابنوسة، وأبو جبيهة. تُحاصَر هذه المدن عبر سلسلة متصاعدة من العمليات العسكرية ضد القرى والبلدات الواقعة في محيطها، حيث يُستخدم التهجير القسري، والاغتيالات، والنهب، والقصف بالطائرات المسيّرة، كأدوات لإخلاء المجال السكاني، وتفكيك أي عمق مدني، يمكن أن يُعين الجيش على الصمود.
سلسلة الأحداث
في 31 مايو، نفذت قوات الدعم السريع عملية اختطاف، استهدفت ثلاثة من أبناء منطقة الحمادي في جنوب كردفان: الأستاذ بشري محمد حماد (أسوسه)، عز الدين يوسف علي بقادي، وأمين محمد البريده، حيث اقتيدوا بعربة “توسان” على يد عناصر مدججين بالسلاح إلى جهة غير معلومة. جاء هذا الهجوم كجزء من تكتيك تخويف المجتمعات وخلخلة الاستقرار المحلي، خاصة بعد نشر الجيش قواته بالمنطقة قبل توجهه الى مدينة الدبيبات.
بالتزامن، سجلت مدينة الأبيض تدفقًا كبيرًا للنازحين، حيث وصلت 170 أسرة (1159 فردًا) معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن من الحمادي والدبيبات. النزوح كان مأساويًا، عبر عربات الكارو، وفي ظروف إنسانية وصحية متدهورة، ما يبرز الإهمال الرسمي والفراغ الذي تستغله الدعم السريع للتمدد.
الهجوم على الحمادي لم يكن معزولًا، بل جزءا من سلسلة عمليات، تهدف إلى تفريغ المنطقة الواقعة جنوب الأبيض، تمهيدًا لعزلها. بينما جرى تضخيم تهديد مدينة الأبيض إعلاميًا عبر خطاب، بثه الدعم السريع عبر قائده حميدتي، إلا أن الهدف الفعلي هو التحرك نحو بابنوسة.
في فجر 1 يونيو، اغتيل المهندس نبهاني كمال يوسف، داخل منزله في مدينة بارا بولاية شمال كردفان. نُسبت العملية إلى عناصر يقودها الناعم محمد عبد الله، أحد قادة الدعم السريع في المنطقة. هذا الاغتيال يمثل انتقالًا نوعيًا في مسار العمليات، من القرى والطرق الريفية إلى داخل المدن الرئيسية في شمال كردفان.
بارا، باعتبارها شريانًا حيويًا بين الأبيض ومناطق التماس، تمثل هدفًا استراتيجيًا للدعم السريع. عبر هذا الاغتيال، تسعى الدعم السريع إلى ضرب المنظومة المدنية وترويع المجتمع المحلي، بما يؤدي إلى تفكيك التماسك الأهلي الذي لا يزال يوفر غطاء للجيش السوداني.
بين 4 و6 يونيو، تصاعدت الهجمات البرية المنظمة. شنت قوات الدعم السريع هجمات متزامنة على منطقة الحقينة الجلابة غرب الرهد أبو دكنة، وقرية أم دروته فاعوم غرب النهود، وقرية جانقي في محلية الخوي. نُفذت هذه الهجمات بواسطة عشرات الدراجات النارية وعدد من المركبات القتالية، في أسلوب، يُعرف بضربات “الكرّ والفرّ السريعة”.
قُتل المواطن سليمان حماد، وتم اختطاف ياسين صافي فاعوم، والهادي أحمد فاعوم، مع ارتكاب انتهاكات واسعة، شملت نهب منازل وتشريد أهالي وتخريب البنية الزراعية. شيوخ القرى تعرضوا للضرب والإهانة، في محاولة متعمدة لكسر الروح المجتمعية وفرض الهيمنة بالإذلال.
هذا التصعيد يهدف إلى محاصرة الأبيض والنهود من الشرق والغرب، وعزل الجيش السوداني ومنعه من الحصول على أي إسناد شعبي أو تمويني.
في 6 يونيو، نفذت الدعم السريع قصفًا بطائرات مسيرة، استهدف استاد الأبيض الدولي وعدة منشآت رياضية بمدينة الشباب والملعب الأولمبي. تسبب الهجوم في دمار واسع، لم يكن الهدف عسكريًا، بل معنويًا. إلحاق الأذى بالروح الجماعية، وتدمير أي إحساس طبيعي بالحياة في المناطق التي لا تزال خارج السيطرة، وهو جزء أساسي من استراتيجية الدعم السريع.
في 6 يونيو، شنت قوات الدعم السريع بالتنسيق مع الحركة الشعبية/ الحلو هجومًا وحشيًا على منطقة أم دحيليب شرق كاودا بجنوب كردفان، والتي كان الجيش السوداني قد حررها في 15 مايو الماضي. مع انسحاب الجيش السوداني من المنطقة، نفذ التحالف المشترك مجزرة بشعة، راح ضحيتها 36 شابًا و6 نساء.
النساء أُعدمن رميًا بالرصاص بتهمة إعداد الطعام للجيش السوداني، في مشهد يعكس غياب الحدود الأخلاقية، وتحول العنف إلى عقيدة تُدار بها الأراضي. الهجوم كشف عن خطورة التحالفات الميدانية بين الدعم السريع وقوى مسلحة ذات أجندات محلية وانفصالية.
تهجير أم قلجي وود كي كي
في أول أيام عيد الأضحى، توغلت قوات الدعم السريع في قرية أم قلجي جنوب بارا، ومنعت السكان من أداء الصلاة، وأجبرتهم على عدم الخروج من منازلهم. تمركزت القوات في القرية، وحوّلتها إلى نقطة دفاع متقدمة نحو بارا. أكثر من 1000 مواطن، فروا على الأقدام، في رحلة استمرت 8 ساعات حتى وصلوا مدينة الأبيض.
بالمقابل، شهدت قرية ود كي كي الواقعة شرق جبرة الشيخ هجومًا دامياً، أدى إلى مقتل خمسة شبان، وتشريد السكان بالكامل، ونهب القرية. هذه الأحداث تكرس هدف الدعم السريع بعزل الأبيض من جهتي الشمال والشرق، وإخضاع محيطها بالكامل قبل بدء مرحلة اجتياح مباشر.
الدعم السريع يفتح جبهة حدودية جديدة
في 11 يونيو، أعلنت القيادة العامة للجيش السوداني انسحابها من منطقة المثلث الحدودي مع مصر وليبيا، بعد تعرضها لهجوم منسق، شنته قوات الدعم السريع مدعومة بمليشيات ليبية، تتبع لخليفة حفتر، وتحديدًا “كتيبة السلفية”، بحسب تصريح صحفي للجيش السوداني، هذا الهجوم كان بغطاء لوجستي من مطار الكفرة الليبي، حيث أظهرت صور الأقمار الاصطناعية وجود ما لا يقل عن خمس طائرات في مطار الكفرة جنوب شرق ليبيا بالقرب من المنطقة الحدودية مع السودان ومصر. من بين هذه الطائرات ثلاث طائرات شحن من طراز IL-76TD

هذا التطور يكشف عن البعد الإقليمي للصراع، حيث لم تعد قوات الدعم السريع، تتحرك ضمن حدود السودان، بل كجزء من شبكة نفوذ تسعى لبسط سيطرة أمنية واقتصادية على مناطق التماس. الرحلات المكثفة بين الإمارات والكفرة (وصلت إلى أربع رحلات يوميًا)، تفسر حجم الدعم المتدفق، وتؤكد أن الحرب في كردفان مرتبطة بصراع إقليمي على الممرات والموارد.