بات ما يعرف بالنظام الإقليمي العربي بشكله التقليدي، كحد أدنى من التماسك أو “الاتفاق” العربي في مواجهة التحديات المتعاقبة على الدول العربية، في مهب الريح بعد اندلاع الصراع الحالي بين إسراائيل وإيران في 13 يونيو الجاري، وعلى نحو يؤشر إلى تغيرات حادة، تطال مكونات هذا النظام سواء في الخليج العربي، أم في شمال إفريقيا، إضافة إلى التداعيات التي تمت بالفعل في دول مثل العراق وسوريا واليمن في السنوات الماضية، وكانت إيران حاضرة في تفاعلاتها. وفيما تبدو مقاربة مصر تجاه تمدد الهيمنة الإسرائيلية ومشروعات التطبيع القائمة على تصفية القضية الفلسطينية مفهومة بشكل واضح، وتتسق مع مفهوم الأَولى لهذا النظام ومستقبله، فإن تفاعلات التأثير الإيراني في عدد من الدول العربية، وأبرزها بالنسبة لمصر في السنوات الأخيرة، الحالة السورية، كانت تصب إجمالًا في تكريس ضعف هذا “النظام”، وتآكل قدراته يومًا بعد آخر، كما تجسد في سوريا في يناير الفائت عقب تعيين أحمد الشرع رئيسًا لسوريا في مرحلة انتقالية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت إلى جانب “حل الجيش (السوري) والأجهزة الأمنية” من عهد بشار الأسد، وإعادة بنائه “على أسس وطنية”، دون وجود أفق زمني أو موضوعي واضح لهذه العملية، وسط مؤشرات مقلقة على غياب قدرة الإدارة الانتقالية على فرض سيادة سوريا واستقلال قراراتها وسياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء.
إيران وسوريا: إضعاف “النظام العربي”
كانت سوريا من أوائل الدول العربية التي اعترفت بنظام الثورة الإيرانية (1979)، وقد نظرت دمشق لعلاقاتها مع إيران، منذ نهاية السبعينيات وبعد توقيع مصر اتفاقات سلام مع إسرائيل، على أنها وسيلة لتعزيز وضعها ودورها الإقليمي، وموازنة قدراتها على ذلك في مواجهة إسرائيل، وكذلك خلافاتها مع دول عربية مثل العراق ومصر. ومثلت محطات مهمة مثل وقوع الحرب الإيرانية العراقية والغزو الإسرائيلي للبنان (1982) علامات على منطقية وثاقة الصلة بين طهران ودمشق، كما تبلور في دعمهما لحزب الله في لبنان الذي مثل، حسب محللين غربيين، بدء مرحلة جديد من الشراكة بين البلدين، وإسنادًا إيرانيًا مهمًا لسوريا في لبنان (لا سيما دعم القوات السورية التي تم نشرها في لبنان في العام 1976 ضمن قوة حفظ سلام عربية). وظلت الصلات الإيرانية- السورية هامة وفاعلة في سياقات نهاية الحرب بين إيران والعراق، وغزو الأخيرة للكويت (أغسطس 1990)، ثم نهاية حرب الخليج الأولى (1991) بتدمير كامل للجيش العراقي، بالتزامن مع سقوط الاتحاد السوفيتي، وصعود الشراكة الأمريكية- التركية- الإسرائيلية في سياق تعزيز عالم أحادي القطب بهيمنة أمريكية متزايدة؛ مما عمق وثاقة صلات وارتباطات المحور الإيراني- السوري في أكثر من جانب (عسكري- أمني، واقتصادي، واستراتيجي)، وهي الصلة التي استدامت دون ثغرات تذكر في العقود التالية.
وبينما كان النظام العربي في أضعف حالاته بعد الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، كانت الولايات المتحدة قد صنفت إيران (وسوريا) ضمن ما سمته “محور الشر”، رغم المساومات الدبلوماسية بين إيران والولايات المتحدة خلال إقدام الأخيرة على غزو أفغانستان والعراق (2001، و2003)، أو ما يمكن وصفه بالابتزاز الأمريكي لإيران بالتغاضي عن تصعيد مسألة محطة نطنز الدولية حينذاك، مقابل تعاون اسخباراتي بين الجانبين (شمل تقديم إيران خرائط تفصيلية لقواعد جماعة طالبان في أفغانستان ضمن تفاصيل أخرى، حسب كتاب أليكس فاتانكا: معركة آيات الله Vatanka , Alex, the Battle of the Ayatollahs in Iran, London, 2021). بأي حال، فإن سوريا ظلت حليفًا موثوقًا لإيران بعد وفاة حافظ الأسد (يونيو 2000). وعلى سبيل المثال تعهدت طهران صراحة (2012، وفي أجواء “الربيع العربي”) بالالتزام بالحفاظ على نظام بشار الأسد، كما استقبلت دمشق زيارات متعددة، قام بها قاسم سليماني قائد قوة القدس “لتقييم مدى استقرار نظام الأسد”. وبغض النظر عن التفاصيل، كان هذا الدعم الإيراني بالشراكة مع حزب الله بقيادة زعيمه الراحل حسن نصر الله ضمانة أولى، حمت نظام بشار الأسد من السقوط لسبب أو لآخر. وفي الوقت نفسه وسيلة هامة لاستمرار النفوذ الإيراني الإقليمي بشكل واضح، وعلى حساب نظيره “العربي”، حسب رؤية مصرية وخليجية لأسباب متفاوتة.
وتمثل “الحالة السورية” فهمًا مثاليًا لموقف مصر من الحرب الجارية بين إسرائيل وإيران على أكثر من مستوى؛ فمصر ظلت تدعم سيادة الدولة السورية واستقلالها كمبدأ رئيس وثابت في سياسات مصر العربية بعد يونيو 2013، وأن الاستقلال والسيادة السورية جزء لا يتجزأ من أمن مصر القومي ومنطلقاته، ومن ثم، فإن الحضور الإيراني مثل في رؤية القاهرة خصمًا من هذا الاستقلال، وفاقم من خطورته تعاظم النفوذ التركي ثم الإسرائيلي (إلى جانب تطور الوجود العسكري الأمريكي والروسي) في الأراضي السورية، أو ما يمكن وصفه ببلقنة النفوذ الخارجي في الشأن السوري.
إسرائيل وتفكيك “النظام الإقليمي العربي”: من غزة إلى إيران
نجحت إسرائيل مؤخرًا، وعبر تعظيم مكاسبها في الحرب التي شنتها على قطاع غزة، في كسر حدود الضوابط التي كانت قائمة قبل سنوات في مشروع تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، (لا سيما الخليجية وأهمها السعودية) من قبيل ربط التطبيع بقيام دولة فلسطينية، وصولًا إلى تصريحات خطيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “بإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط” بصيغة، أو أخرى منذ نهاية العام 2023، (وتكررت بشكل ملفت قبيل الحرب الجارية مع إيران)، وعلى نحو يوحي بوجود مشروع، تمت هندسته بالفعل، وأن تل أبيب هي التي تقود تنفيذه “منفردة” من بين عواصم الإقليم بالتنسيق مع الولايات المتحدة. ومع انهيار سوريا الأسد تمامًا ودخول القوات الإسرائيلية إلى مشارف العاصمة دمشق، باتت مسألة التطبيع مقابل قيام دولة فلسطينية من التاريخ، حسب تصريحات إسرائيلية، وتبينت بالفعل ملامح “شرق أوسط جديد” بعد زيارة دونالد ترامب الخليجية منتصف مايو الماضي، والتي التقى خلالها بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع.
وجاءت الحرب الراهنة لتعمق خسائر النظام الإقليمي العربي في مقابل صعود القوة الإسرائيلية التي تواصلت بدعم أمريكي كبير ومفتوح؛ مما يجعل الربط بين جولة ترامب الخليجية والهجوم الإسرائيلي بديهيًا تمامًا، وعلى نحو يهمش مجمل السياسات العربية (الخليجية وغيرها بالرغم من ارتفاع سقف التوقعات بين زيارة ترامب بتعزيز التفاهم الأمريكي- العربي، وحدوث اختراق في عدد من القضايا العربية، وأبرزها القضية الفلسطينية أو على أقل تقدير وقف العدوان الإسرائيلي في غزة).
وكشف البيان الذي رعته مصر مع نحو 20 دولة عربية وإسلامية (16 الجاري) عن مخاوف مصر من تفاقم الأوضاع على حساب المصالح العربية كافة؛ إذ عبر البيان عن “أهمية إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل وفق القرارات الدولية ذات الصلة ودون انتقائية، والتشديد على ضرورة سرعة انضمام كافة دول المنطقة إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية”، وهو خيار لم يعد مطروحًا واقعيًا، (لا سيما حال الرغبة في تطبيقه على إسرائيل)، ما يعني أن امتلاك إيران للسلاح النووي سيمثل تهديدًا إضافيًا للمنطقة، ولا يعني بالضرورة توازنًا في القوى (بين إيران وإسرائيل)، يمكن أن يكون في صالح الدول العربية في الرؤية المصرية والعربية الرسمية.
وفي المقابل، فإن خروج إسرائيل (والولايات المتحدة) منتصرة في الحرب الجارية، أو على أقل تقدير دفع إيران للعودة للتفاوض حسب شروط واشنطن، سيمثل تماديًا إسرائيليًا في نهج استخدام القوة، وفرض الإملاءات على الدول العربية مستقبلًا، ما قد يمثل في المحصلة نهاية حقيقية وتامة لفكرة النظام الإقليمي العربي، (حتى بتشوهاته البنيوية في العقود الأخيرة). كما أن “الشرق الأوسط الجديد”، بتعريفه الإسرائيلي هذه المرة، سيكون فقط مجرد بداية لتحولات مستمرة، ستقضي في النهاية على ما تبقى من أفكار السيادة واستقلال الدولة لصالح إعادة تشكيل مناطق نفوذ وارتباطات مصالح متعدية لهذه الأفكار. مما يمكن معه وضع الحرب الإسرائيلية- الإيرانية في سياق هذا المشروع، وبغض النظر عما ستسفر عنه الحرب بالفعل.
مصر والحرب: الترقب والانتظار
جاءت الحرب الجارية لتضيف أعباء استراتيجية واقتصادية وأمنية خطيرة على مصر في ظل ظروف اقتصادية صعبة بالأساس. وامتدت هذه الأعباء من الحدود مع فلسطين (قطاع غزة)، إلى اضطرابات بالغة في نظام البحر الأحمر في ظل تقارير، تؤكد وجود مرافق لعمليات إسرائيل في مناطق صومالية عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر نفسه، وتجدد مساعي إثيوبيا، في ظل حالة السيولة في سياسات الإقليم، للحصول على منفذ بحري بكافة السبل، (وقد اتهمت إثيوبيا مصر بشكل غير مباشر في يونيو الجاري بوقوفها خلف تعطل هذه المساعي، وآخرها رفض جيبوتي اتفاقًا مع أديس أبابا بهذا الخصوص).
وهكذا، فإن ترقب مصر للحرب، وما ستسفر عنه، يتجاوز جغرافيًا جوار مصر إلى دوائر أكثر بعدًا، وملفات آخذة في التعقيد يومًا بعد آخر (في السودان وليبيا وتشاد والصومال وغيرها)، وتؤثر إجمالًا على قدرة القاهرة مستقبلًا على مواجهة الهجمة الإسرائيلية (المدعومة بسياسات بعض الدول الخليجية) على مصالح مصر الإقليمية بشكل عام، وفي البحر الأحمر والقرن الإفريقي على وجه الخصوص.
كما أن مزيدًا من تآكل “النظام العربي الإقليمي”، بفعل النفوذ الإيراني والسياسات الإسرائيلية المعادية منذ عقود، سيفسح المجال أمام مرحلة جديدة، تتراجع فيها قدرات الدول العربية العسكرية، وحتى الاقتصادية لمواجهة أية انتهاكات لسيادتها واستقلالها حتى لو شكليًا. ومن هنا فإن الحرب الجارية، بغض النظر عن مآلها، تمثل لمصر خسارة صافية وبدرجات متفاوتة، مما يفرض على القاهرة أعباء جديدة وضرورة تبني نهج جماعي مع الدول العربية والإسلامية للحيلولة، دون تفاقم مخاطر وقوع أحد السيناريوهين على المنطقة العربية: هيمنة إسرائيلية غير مشروطة وغير مقيدة في الشرق الأوسط، أو توازن قوى بين إسرائيل وإيران، يعمق من هامشية المنطقة ومكانتها في السياسة الدولية بشكل عام.