مع اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل كواحدة من أخطر التحولات الإقليمية في العقد الأخير. لم تقتصر نيرانها على جبهات المواجهة التقليدية في الجولان، أو في مضيق هرمز أو في سماء جنوب لبنان، بل تسللت تأثيراتها العميقة إلى ساحات أبعد وأكثر هشاشة، من بينها السودان الذي وجد نفسه فجأة في قلب لعبة أمم جديدة، تتقاطع فيها المسيّرات الإيرانية مع أجهزة التجسس الإسرائيلية والولاءات العقائدية مع التحالفات التكتيكية.

في السودان، البلد الغارق في حرب داخلية طاحنة منذ إبريل 2023 تلعب إيران دورًا محوريًا، لكنه غير معلن رسميًا. فمنذ تصاعد المواجهات بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، لجأ الجيش إلى إيران؛ طلبًا للدعم العسكري والتقني في محاولة لاستعادة التوازن الميداني بعد الانهيار الكبير في العام الأول للحرب بالخرطوم ومدن أخرى، ولم تتردد طهران الطامحة لتوسيع نفوذها في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي في مد اليد بسرعة.

وصل الدعم الإيراني إلى السودان بأشكال متعددة: طائرات مسيّرة متقدمة، أنظمة مراقبة تقنيات تشويش واتصالات وأفراد تدريب ميداني، يعملون غالبًا تحت غطاء خبراء تقنيين، هذا التعاون غير المُعلن، انتقل من مستوى الدعم الفني إلى تموضع عملياتي فعلي، شمل توريد معدات عبر مواني البحر الأحمر ومناطق حدودية بالتوازي مع تعاون وثيق بين الجيش السوداني والحركة الإسلامية التي تشكّل أحد أبرز الحلفاء المحليين لطهران.

دكتور علي كرتي
دكتور علي كرتي رئيس التيار الإسلامي العريض

غير أن هذا التموضع تعرض لهزة مبكرة في مايو 2025، حين شُنّت هجمات بطائرات مسيّرة على منشآت في بورتسودان وكسلا شرق السودان، يشتبه أنها كانت مراكز مراقبة استخباراتية على صلة بالوجود الإيراني. ورغم أن هذه الضربات سبقت الحرب المفتوحة بين إيران وإسرائيل في يونيو، فإنها بدت كمقدمة استراتيجية لحملة أوسع، حيث تعمل إسرائيل على استهداف بنى إيران في مناطق خارج الجبهات التقليدية. التقارير التي بثتها جهات استخباراتية، مثل موقع Behold، وThe Jerusalem Post، تحدثت عن وجود عناصر من جماعة الحوثي داخل السودان، وأشارت إلى تنسيق عملياتي إيراني في تلك المنطقة، هذه الهجمات أظهرت هشاشة التموضع الإيراني، وكشفت عن قدرة خصومه– وعلى رأسهم إسرائيل– على الوصول العميق إلى شرق السودان دون ردّ فعلي مؤثر من الجيش، كما أظهرت محدودية قدرة السودان على استثمار هذه الشراكة، من دون أن يتحول إلى مسرح لصراعات خارجية.

وبعد اندلاع الحرب الإيرانية الإسرائيلية في يونيو، تغيّرت الحسابات. إيران بدأت في إعادة تموضع قواتها ومواردها بعيدًا عن الساحات الطرفية كالخرطوم، لتصب التركيز في مناطق أولويتها مثل الجولان، والضاحية الجنوبية بلبنان، واليمن، وداخل أراضيها. ونتيجة لذلك، بدأ يظهر نوع من “الفراغ الإيراني” في السودان، أو على الأقل تراجع حجم الدعم وعدد الموفدين الفنيين.

ومع ذلك، فإن الحركة الإسلامية السودانية لم تتراجع، بل عززت من خطابها التعبوي، وأصدرت في 12 يونيو بيانًا على لسان علي كرتي رئيس ما يسمى التيار الإسلامي العريض، أعلنت فيه دعمها الكامل لإيران، ووصفت المواجهة مع إسرائيل، بأنها معركة مصيرية للأمة الإسلامية، هذا الخطاب العقائدي يعكس حجم الارتباط بين الطرفين، ويُظهر أن العلاقة ليست فقط ميدانية، بل أيديولوجية واستراتيجية تمتد إلى ماضي الحركة الإسلامية التي لطالما رأت في طهران سندًا في مواجهة الغرب رغم الاختلافات المذهبية.

أما في الضفة الأخرى، فإن الجيش بقيادة البرهان لا يزال يمضي في اتجاه موازٍ– وربما متناقض– يتمثل في تعزيز العلاقات مع إسرائيل، فمنذ لقاء أوغندا الشهير مع نتنياهو في 2020، لم تتوقف قنوات الاتصال، وإن تراجعت وتيرتها؛ بسبب الحرب. ومؤخرًا برز ترشيح السفير عمر صديق لتولي منصب وزير الخارجية في الحكومة التي يقودها كامل إدريس، وصديق هو أول دبلوماسي سوداني تواصل مع إسرائيل بعد ثورة ديسمبر، وقد ذكرت صحف إسرائيلية أن صديق كان من أوائل الدبلوماسيين الذين زاروا تل أبيب سرًا.

هذا التناقض الصارخ، يضع الجيش السوداني في مفترق طرق، فمن جهة، يعتمد ميدانيًا على دعم إيراني، يوفر له الطائرات المسيّرة والتقنيات العسكرية، ومن جهة أخرى، يسعى إلى التطبيع مع إسرائيل؛ طمعًا في شرعية سياسية خارجية ودعم غربي، فيما تتحرك الحركة الإسلامية بقوة فارضة رؤيتها على ساحة المعركة ومتمسكة بمحور المقاومة رافضة أي شكل من أشكال العلاقة مع إسرائيل أو الغرب.

مستقبل العلاقة بين الجيش السوداني وإيران

في ضوء هذا الواقع، يمكن استشراف عدة مسارات محتملة للعلاقة بين الجيش السوداني وإيران، كلها محفوفة بتعقيدات وتضارب مصالح داخلي وخارجي، أولها، مسار تصادمي، إذا اختار البرهان المضي قُدمًا في مسار التطبيع الكامل مع إسرائيل بدعم من شركاء عرب وغربيين، فستصبح العلاقة مع إيران عبئًا ثقيلًا. حينها قد يُضطر الجيش إلى التضحية بالوجود الإيراني تدريجيًا، وقد يتخذ قرارات بإعادة التموضع، أو حتى نزع النفوذ الإيراني من الشرق، خاصة إذا تعرّض لضغوط دولية أو إسرائيلية مباشرة، هذا المسار قد يصطدم بعنف مع الحركة الإسلامية، ويدخل الجيش في صراع داخلي مع حلفائه الحاليين.

ثانيها، مسار توفيقي، قد يسعى الجيش إلى الحفاظ على علاقة مزدوجة: التنسيق التكتيكي مع إيران في مجال السلاح والتقنيات، مقابل انفتاح سياسي على إسرائيل. لكن هذا المسار محفوف بالمخاطر؛ لأنه غير قابل للاستمرار طويلًا في بيئة دولية استقطابية، وقد يُفقد الجيش ثقة الطرفين، ويضع السودان في قلب عاصفة اتهامات بالإرهاب أو التواطؤ.

ثالثها، مسار ايراني كامل، في حال استمر تخلي الغرب عن السودان، ولم تتحقق أي مكاسب من مسار التطبيع، فإن الجيش قد يجد نفسه مضطرًا للمضي أبعد في التعاون مع إيران، خاصة إن استمرت الحركة الإسلامية في محاولات السيطرة على مفاصل الدولة والجيش، عندها قد يتحول السودان رسميًا إلى أحد أذرع محور المقاومة، مع كل ما يعنيه ذلك من عزلة دولية وخطر استهداف استخباراتي متصاعد.

رابعها، مسار وطني خالص، وهو المسار الأصعب، لكنه الأكثر استدامة، أن يتخلى الجيش عن جميع المحاور الخارجية، ويعيد ترتيب أولوياته على أساس وطني، دون تحالفات عقائدية أو تطبيعية، وهذا يتطلب قيادة مدنية قوية ومشروع سياسي جامع وقطعًا مع حالة “الارتهان الاستراتيجي”.

وفي جميع الأحوال، فإن استمرار الحرب الإقليمية بين إيران وإسرائيل سيؤثر بشكل مباشر على طبيعة التحالفات داخل السودان، وأي تصعيد في الشرق الأوسط قد يدفع السودان ثمنه سواء عبر استهداف مباشر لمواقعه، أو عبر استخدامه كساحة بديلة لتصفية الحسابات، وسيظل مستقبل العلاقة بين الجيش السوداني وإيران مرهونًا بميزان المصالح لا المبادئ، وبمدى قدرة الجيش على الخروج من معادلات النفوذ وبناء سياسة خارجية مستقلة، تعكس أولويات الداخل لا أجندات الخارج.