في مشهد مثير للعجب والعجاب، ستجرى انتخابات مجلس النواب، وقبلها مجلس الشيوخ (لا يعد دستوريا ضمن البرلمان). أي انتخابات لا يصح إلا أن تجرى في مناخ ديمقراطي سليم، تكون القوى السياسية المشاركة في الانتخابات سواء أحزاب أو مستقلين، وكذلك الناخبين، أحرارا بشكل كامل في عمليتي الترشيح والاقتراع مرورا بالحملات الانتخابية، لا يحول بينهم وبين تلك الخطوات حائلا سوى أمور تنظيمية، يشترط ألا تكون مقيدة لحركة الناس وحقوقهم في لقاء المرشحين، وعقد هؤلاء مؤتمراتهم الانتخابية، قبل أن ينتقل الناخبون إلى مقرات الاقتراع للتصويت، وفق نظام متعارف عليه دوليا؛ لكونه يتسم بالعدالة والمساواة وعدم التمييز.
كل ما سبق من أمور، يبدو أنه غير متوفر على الإطلاق في العملية الانتخابية القادمة، لكون ما يجري الآن لا يبشر بوجود أي تغيير عن ذلك الذي جرى في الانتخابين السابقين عام 2015 وعام 2020. بل أنه لا غرو، أن المُناخ بأسره مناخ مقيد، ولا يتيح حرية الحركة للناس.
استغلال سيئ للظروف الداخلية والخارجية
واحد من أكثر الأمور التي يتم تداولها، ويروج إليها في الإعلام الذي تم تأميمه منذ نحو عقد عبر الشركة المتحدة، هو أن هناك مشكلات في البيئتين الداخلية والخارجية، لا تمنح المزيد من الحركة، وأن الناس عليها أن تصبر لتمرير الاستحقاقات الدستورية المختلفة. تنتهي الظروف الداخلية أو تتبدل، وتتغير الظروف الخارجية، وإذا الدنيا كما نعرفها، لا جديد تحت شمس مصر.
أبرز الأمور التي لا زالت تستخدم رغم فراغها من مضمونها، هي فزاعة الإخوان، صحيح أن الإعلام قل نفيره الموجه لبقاء تخويف الناس من الإخوان، إلا أن أحد سلطات الدولة من خلال “الانضمام لجماعة إرهابية”، أبقت على الضجيج وعلى نار الغل متقدة بين أبناء البلد الواحد، رغم إدراك الناس، أنه لم يعد هناك لا إخوان ولا إرهاب. لذلك استمرأت تلك السلطة، ترمي الناس، بمن فيهم غلاة العلمانيين، وربما المسيحيين، بهذه التهم كطابع بريد، يلصق على صفحة الجبين.
بطبيعة الحال، ونتيجة التضخم الحادث، والذي لم تشهد البلاد له مثيلا، ما زاد من أسعار السلع والخدمات، وخفض من سعر الجنيه، وزاد من حجم الدين الخارجي والداخلي، (كل ما سبق)، جعل الناس في مصر تسير في دوامة، وكأنهم أعجاز نخل خاوية، أو كالسكارى وما هم بسكارى، ما أفضى إلى عدم وقفة الناس بجدية وانتظار لترقب المشهد الانتخابي والتعاطي معه، فأي أمر تقوم به السلطة هو محل رضاء منهم، ما دامت هي راضية عنهم أو تتظاهر، بأنها راضية عنهم.
وعلى الجانب الخارجي، تبدو شماعة القيود الخارجية سواء من جائحة كوفيد أو الحرب الروسية الأوكرانية أو حرب غزة أو الحرب الإيرانية الإسرائيلية، مشهدا غريبا لتعليق الاستحقاقات الدستورية المصرية أو سيرها بطريقة الطوارئ، رغم أن الكثير من الناس تُسّير أمورها بشكل طبيعي، ولدينا المستعمر الصهيوني الذي يخوض حربه ضد المقاومين منذ أكثر من سبعة عقود، ولم يقهر يوما تظاهرة أو ينوى تغيير موعد انتخاب، أو يقفز على مشهد برلماني، أو يدعي حتمية الاصطفاف خلف قيادة نتنياهو الحكيمة… إلخ.
أحزاب في مُناخ غير حزبي
ما هو ملفت في المشهد الراهن، هو أننا لدينا أحزاب سياسية لا علاقة لها بالأحزاب في النظم المتمدينة. هي أشبه بمؤسسات مجتمع مدني، وتلك الأخيرة أشبه بالجمعيات الخيرية. غالبية الأحزاب منذ نشأتها الثالثة في 11 نوفمبر 1976، وحتى اليوم، وهي في حالة استغلال مذري من جانب السلطة، مع الخلاف في درجة الاستغلال. فهي في الأغلب الأعم كيانات طيعة، ترضى بالقليل، لا تبغي إلا رضاء السلطة عنها، وبعضها قادته في حالة عوز انتهازي من السلطة، حيث يقوم نفر من هؤلاء نظير ما يقدم لهم من خنوع وجثو حزبي بالكثير، مما يُطلب منهم، في مشهد مثير لتبادل المصالح على حساب العامة، وعلى حساب أعضاء وثقوا في هؤلاء.
مقررات الحوار الوطني نحو تأسيس نظام حزبي مختلف، ذهبت أدراج الرياح، ولا زالت الحكومة ورئيسها يرددون أسطوانة، أن مقررات الحوار الوطني نفذ منها 70% على الأقل من مخرجات الحوار.
تأليف قائمة الدولة الانتخابية
منذ أسبوعين تقريبا، أعلن موقع بصراحة الإخباري عن قائمة الدولة التي أعدتها السلطة أو الأمن أو ما شابه. هذه القائمة على رأسها مستقبل وطن الذي كان سيستبعد منها، لولا المال الكثير المدفوع من بعض المرشحين الذين تفاجأوا، كما تفاجأ الكثيرون بتأسيس حزب القبائل أو الجبهة الوطنية أو حزب العرجاني (كل ما سبق من مسميات، هو صحيح سياسيا). القائمة ضمت أيضا أحزابا أخرى، ركضت للمشاركة والنهل من الكعكة التي ستقسم بمقاعد محدودة، وفتات عظام أُكل اللحم من حوله، وفي نفس الوقت سعى معدو القائمة لإشراكهم، إما رغبة في إظهار عدم المغالبة، كما كان يفعل الإخوان لذر الرماد في العيون، وإما لإسكات من سيكون مصدرا للإزعاج، إذا ما أُستبعد.
لم يكن من الغريب أن تتضمن القائمة المحظوظة أحزابا، ملأت مصر ضجيجا، بأنها ضد القائمة المطلقة، “رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون” تماما كما فعل منافقو تبوك القابعون مع النساء والمسنين والأطفال، خشية من الجهاد. لو صحت تلك المعلومات التي ذكرها “بصراحة” لتبين أن التجمع خرج من القائمة الموعودة على عكس ما حدث في قائمة 2020، وأن مجلس النواب الجديد سيتضمن 50% منه من أحزاب أغلبها موالاة والقليل منها معارضة مدجنة متفق على الدور الذي ستقوم به، ولو بشكل غير مكتوب.
مُناخ مقيد لحرية الرأي والتعبير
والانتخابات كما هو معروف، لا يمكن أن تجرى في مُناخ مسمم، يمنع الناس من الكلام بحرية، وتسوده العدالة بين الناس من خلال سلطات عدلية تحقق المساواة والشفافية. لأن ما هو كائن، هو دستور، جمدت الكثير من مواد الحريات وعديد الاستحقاقات التشريعية فيه، وسنت قوانين كثيرة لغلق المجال العام. قانون التظاهر المانع للتظاهر، والإجراءات الجنائية الذي لم يلغ الحبس الاحتياطي كعقوبة، ويقيد حرية الدفاع، ويزيد من سلطة النيابة على حساب القضاء، ولا يجرم تدوير المتهمين، والإعلام المؤمم بموجب هيمنة الشركة المتحدة، والفتاوى الشرعية التي أصبح للحكومة دور كبير فيها عبر الأوقاف، والمجتمع المدني المحجوب عن أي دور غير اجتماعي، والأحزاب مشلولة الحركة في مقراتها وغير المعروفة للناس والتي باتت محجورة على أغلب رؤساء الأحزاب وأقاربهم، والقضاء الذي يلعب فيه -بحكم الدستور- رأس السلطة التنفيذية دورا في تعيين رؤساء الهيئات والجهات القضائية، والمواقع الإلكترونية الممنوعة والمحجوبة عن الكلام…. إلخ كل ما سبق، يفضي إلى مجتمع غير مسيس وموت للسياسة.
الحل الأمثل للخروج من تلك الشرنقة
هنا يصبح السؤال ،ما العمل؟ قد يرى البعض، أن كل ما سبق يجعل المرء يتحسر على هدر المال في الانتخابات، فلو أنفق المال المكرس للدعاية والمدفوع للأحزاب المرشحة للناس على أمور مفيدة، لكان الأمر أفضل كثيرا. بعبارة أخرى، لو تم تعيين البرلمان، ونقض مادة أو أكثر من مواد الانتخاب في الدستور لتلحق بعشرات المواد غير المفعلة فيه، لكان خيرا، وعوضا عن التعيين المقنع والتزكية، والتي تفضي لبرلمان ينفق مليارات الجنيهات كل فصل تشريعي على مكافآت أعضاء الكثير منهم، إما غائب وإما موافق على طول الخط، وإما موقع على عرائض وطلبات ومقترحات تشريع، لا يكلف عديد النواب أنفسهم عناء قراءتها قبل التوقيع عليها. لو فعلنا ذلك لما ضحكنا على أنفسنا بهذه الإجراءات.
لكن في مواجهة ما سبق، يجب المطالبة والسعي حتما بكافة الطرق السليمة لتغيير تلك الأوضاع. الناس تريد أن تعيش بكرامة، وتذوق كغيرها من مواطني البلدان الغربية طعم الديمقراطية، وتصنع قراراتها بنفسها عبر ممثلين حقيقيين في مسرح واقعي، وليس مسرح عرائس. في بعض مؤسسات المجتمع المدني المصري، يصعب خرق قواعد النزاهة والعدالة. الناظر لانتخابات الصحفيين أو الأطباء أو المهندسين على سبيل المثال، يشغُف لنقل تجربتها على المستوى القومي. فهل لنا أن يرى الناس انتخابات برلمانية من نوع جديد؟