كشف وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، في حديث مطول (بُث في 29 يونيو) عن مجمل تصورات مصر لسياساتها الخارجية في الفترة الراهنة، بعد استعراض أهم ثوابت هذه السياسات، وأبرزها ما وصفه بالالتزام الاستراتيجي، وعدم الدخول في تحالفات دولية والحفاظ على الدولة الوطنية، تطرق إلى أهم ملفات سياسات مصر الخارجية، وبرز منها في سياق الاهتمام الحالي قضايا إفريقية ملحة بالنسبة للقاهرة باعتبارها في صميم أمنها القومي، وذلك في ظل ما وصفه عبد العاطي بالنظام الدولي “الذي ليست له قواعد أو معايير واحدة”، والازدواجية الفجة في المعايير وتجاوز القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
أكد الوزير على ارتهان الأمن الإقليمي بإرادة دول الإقليم “وليس بإرادة دولة بمفردها”، في إشارة إلى إسرائيل وخياراتها الجانحة للهيمنة، والإملاءات بغطاء أمريكي، في مؤشر إلى دفع مصر القوي نحو استعادة زمام المبادرة في صيانة الأمن الإقليمي “بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية”.
وتعول مصر على إعلان سياسة خارجية، تقوم على حماية الأمن الإقليمي العربي في الخليج العربي بشكل واضح، وتجاوز أية خلافات في هذا السياق.
وبخصوص الملفات الإفريقية، فإنها شملت أمن البحر الأحمر بشكل عام، ولا سيما الموقف من مساعي إثيوبيا لتأمين نفاذ سيادي على البحر الأحمر، والأزمة الراهنة في السودان، وملف سد النهضة، والوضع في ليبيا.
وكان ملفتًا لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي في يومين متتاليين (29-30 يونيو)، بالمشير خليفة حفتر قائد “الجيش الوطني الليبي”، ثم الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، ما يمكن عده توكيدًا على سمة رئيسة في سياسات مصر الإفريقية الراهنة، وهو تفهم تناقضات المرحلة، واستفادة لحظية من تداعيات الحرب الإسرائيلية الإيرانية التي جددت مخاوف الأطراف الخليجية الفاعلة في هذه الملفات الإفريقية من الاستقطاب الحالي (حتى بالنسبة للقوى الشريكة للولايات المتحدة وإسرائيل في سياساتها الحالية)، وما سيؤدي له ذلك من تجدد أهمية الدور والرؤية المصرية التي تكتسب مرونة متزايدة، وتراهن على اضطلاع واشنطن بمسئولياتها في المنطقة رغم مراوغة سياسات ترامب، وضرورة وضعها في الحسبان لتفادي تعمق آثار هذا الاستقطاب.
أمن البحر الأحمر: تنشيط العمل الجماعي العربي- الإفريقي
لفت وزير الخارجية المصري، إلى حقيقة أن مصر هي الدولة الأكثر تضررًا من تهديد أمن وحرية الملاحة الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن مرورًا بمضيق باب المندب، (وقدر أن صافي خسائر مصر الشهرية بلغت نحو 600 مليون دولار).
وتتجه مصر إلى تعميق سياساتها الإقليمية النشطة، حتى قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية- الإيرانية، بمنأى عن الاستقطابات الدولية والإقليمية بقدر الإمكان.
على سبيل المثال، تجري مصر – وفق تصريحات عبد العاطي- اتصالات مع الجانب الإيراني للضغط على الحوثيين لوقف تهديداتهم للملاحة في البحر الأحمر، كأحد محاور استعادة العلاقات بين مصر وإيران.
ويمثل هذا الخيار توجهًا جاذبًا لإيران لاستعادة موقعها الإقليمي كقوة استقرار مهمة، وليست قوة تهديد للدول العربية.
كما تخوض مصر محادثات دؤوبة مع الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن؛ من أجل تفعيل المجلس الذي يضم ثماني دول (باستثناء إسرائيل، ورفض متكرر لضم إثيوبيا مراقبًا أو عضوًا به).
وتشير هذه المحادثات إلى عودة مرتقبة للتنسيق المصري- السعودي في أمن البحر الأحمر من بوابة مؤسساتية مهمة بعد سنوات من تجميد نشاطها، وما تردد عن خلافات في الرؤى بين الرياض والقاهرة، تتعلق بأولويات المجلس (الذي أطلق رسميًا في يناير 2020)، والأدوار القيادية المنوطة لدوله الأعضاء (تحديدًا السعودية ومصر).
ومع تصاعد القلق السعودي من ترتيبات واشنطن في البحر الأحمر، واحتمالات زعزعة استقرار الإقليم بأكمله، لا سيما على الساحل الإفريقي (مثل الاعتراف بجمهورية أرض الصومال دولة مستقلة بعد بدء مشاروات في الكونجرس الأمريكي بهذا الخصوص في مايو- يونيو 2025؛ وتكثيف ضربات عسكرية ضد الحوثيين، مما قد يشعل الجبهة السعودية مرة أخرى).
وتؤكد مصر على ما يعرف بـ”حوكمة الأمن” في البحر الأحمر، وتنشيط هياكل المجلس المحددة، وسرعة استكمال بقية الهياكل المقررة، وتولي المجلس مسئولية مباشرة في ترتيبات الأمن (وصولًا ربما إلى تكوين قوة بحرية من دول الجلس بتفاهمات ناجزة).
مع تأكيد عبد العاطي على جدية عدم قبول مصر لعضوية أية دولة غير مطلة على البحر الأحمر (في إشارة لإثيوبيا)، وأن هناك “خط أحمر بالتأكيد ضد وجود أية قواعد أو مراكز مستدامة لأية دولة غير مطلة على البحر الأحمر”، وهو الموقف الذي أكدته مصر لدى الجانب التركي خلال رعايته لمحادثات صومالية إثيوبية (محادثات انقرة)، واعتبر أن وجود إثيوبيا في البحر الأحمر يمثل تهديدًا وجوديًا.
تشير هذه التفاصيل التي أعلنها وزير الخارجية إلى ملاحقة مصرية حثيثة، ومبدئية، لمنع إثيوبيا من الوصول للبحر الأحمر بشكل كامل، وعدم ربط هذا المسار بملف سد النهضة خلافًا لما تروج له أديس أبابا.
الأمن القومي المصري- السوداني المشترك
يظل الملف السوداني أولوية قصوى في سياسات مصر الإفريقية، وقد أوضح وزير الخارجية المصري قيام مصر بتحركات مستمرة في أكثر من مجال أهمها الوقف الفوري لإطلاق النار فيما وصفها “بالحرب العبثية التي تهدد الدولة السودانية”، وحرصها على النفاذ الكامل للمساعدات الإنسانية في مختلف مناطق السودان، وخاصة في دارفور.
وهناك تخوف من تمدد الصراع، ما قد يؤدي إلى تأثير على أمن واستقرار وحدة الأراضي السودانية، حيث أكد الوزير، على أن “مصر لن تسمح بالمساس بوحدة الأراضي السودانية” التي تمس (مباشرة) الأمن القومي السوداني والمصري على حد سواء”.
ويضاف إلى ذلك إعلان القاهرة أكثر من مرة تفهمها وجود تصورات “عربية” مغايرة تجاه المشكلة السودانية، وأنها تتفهم ذلك، وتعمل على تقريب وجهات النظر لصالح السودان وسيادته.
ويمكن وضع هذا “التفهم” في سياق تفادي القاهرة الصدام مباشرة مع الإمارات في الملف السوداني لاعتبارات متنوعة منها، ما يتعلق بالاقتصاد المصري، وحرص القاهرة على عدم العودة إلى أجواء 15 إبريل 2023 “بداية الحرب السودانية”، وضمان عدم حدوث انتكاسات في التقدم الحالي الذي يحققه الجيش السوداني على الأرض في مواجهة ميليشيات الدعم السريع (التي تدعمها الإمارات بشكل مباشر، حسب تقارير أممية ومحلية سودانية موثوق فيها).
وقد عبر الرئيس عبد الفتاح السيسي عقب استقباله المشير خليفة حفتر في العلمين (29 يونيو) عن موقف مصري مبدئي من الأزمة الليبية، وأن استقرار ليبيا جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري والتنسيق مع الأطراف الليبية والقيادة العامة للجيش الليبي” من أجل دعم الأمن والاستقرار في ليبيا، والحفاظ على وحدتها وسيادتها واستعادة مسار التنمية فيها. كما أكد السيسي، حسب بيان للرئاسة، على حرص مصر على وحدة وتماسك مؤسسات الدولة الليبية، وأهمية “التنسيق بين جميع الأطراف الليبية لوضع خارطة سياسية شاملة، تفتح المجال لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بشكل متزامن”.
وفيما يتصل بذلك، يتوقع أن تكون محادثات الرئيس السيسي مع رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان (العلمين، 30 يونيو) قد شملت الأزمة في المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا، وانتشار ميليشيات الدعم السريع فيه منذ مطلع يونيو.
وقد جاءت قمة السيسي- البرهان بعد ساعات من لقاء أجراه الرئيس المصري مع المشير خليفة حفتر، والذي تضمن بشكل مؤكد مسألة المثلث، وضمان عدم تورط حفتر وقواته في إسناد ميليشيات الدعم السريع أو التعاون معها، ولا سيما أن الجيش السوداني اتهم رسميًا جماعات سلفية ليبية موالية لحفتر بدعم ميليشيات الدعم السريع، وهي اتهامات ذات مصداقية كبيرة في واقع الأمر.
كما رجحت مصادر سودانية وساطة السيسي بين حفتر وبرهان للوصول لتفاهمات محددة حول هذه الأزمة.
ويكشف الإطار الذي حدده وزير الخارجية المصري، وعززته الدبلوماسية الرئاسية المصرية على الأرض نهاية يونيو، عن مرونة واضحة في سياسة مصر تجاه السودان (وملفات إفريقية أخرى في واقع الأمر)، تقوم بالأساس على المبادرة بتسوية العقبات أولًا بأول، وتقديم حلول مبتكرة لتفادي الاستقطاب، وربما طرح تفاهمات واقعية، تفيد مرحليًا في تلبية مخاوف الأطراف الفاعلة في أزمات دول جوار مصر، ولا سيما ليبيا والسودان.
سد النهضة: لا عودة للوراء!
اتضح من تصريحات وزير الخارجية بدر عبد العاطي تأكيد القاهرة على ضرورة عدم المساس بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وهي المسألة التي تعتبرها مصر التهديد الوجودي الأول والأوحد بالنسبة لها، وعبر عن ضرورة الثقة في الدولة المصرية ومؤسساتها في إدارة هذه الأزمة (ربما في محاولة لتهدئة المخاوف والانتقادات المستمرة للأداء المصري الرسمي في هذا الملف).
وردًا على سؤال حول مستقبل المسار التفاوضي (مع إثيوبيا)، أكد عبد العاطي بلغة واضحة، أنه ليس هناك أي متسع لمزيد من المحادثات مع إثيوبيا؛ لأن المفاوضات التي استمرت 12 عامًا، وصلت إلى طريق مسدود، وبرهنت على تعمد أديس أبابا تضييع الوقت طوال هذه المراحل، قبل أن يضيف “أن مصر تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن النفس والحفاظ على مصالحها المائية، إذا تعرضت لأي تهديد”، وأنه لا مجال أمام مصر للرفاهية أو المساومة حول حصتها من مياه النيل.
وفي واقع الأمر، فإن مصر تجاوزت شكلًا مسألة التفاوض مع إثيوبيا حول سد النهضة، وكثفت دبلوماسيتها النشطة في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا منذ مطلع العام الجاري، وتمكنت من تحقيق اختراق في تفهم عدد من دول الإقليم للمخاوف المصرية المشروعة، وحجم التعنت الإثيوبي في الملف.
ويتضح من التشدد الأولي الذي أبداه وزير الخارجية في مسألة سد النهضة، الذي يتوقع تشغيله بالكامل حسب الإعلام الإثيوبي في سبتمبر المقبل، أن القاهرة ستبني موقفها في الشهور المقبلة على ضرورة حسم الملف (إيجابًا أم سلبًا) بشكل واضح دون الارتهان بالمراوغات التي دأبت عليها الحكومات الإثيوبية منذ قرابة العقدين. كما أن سياسة القاهرة سترفض ضمنًا أية عودة للوراء لبدء مفاوضات جديدة، على الأقل دون وضع أفق موضوعي وزمني لها حال اقتراح أديس أبابا عقد “جولة جديدة”.
إجمالًا، تبدو سياسة مصر الإفريقية، كما كشف بعض جوانبها وزير الخارجية المصري، أكثر تماسكًا شكلًا ومضمونًا، وأكثر قدرة على امتلاك زمام المبادرة، وإبداء قدر ملحوظ من المرونة والقدرة على تجاوز تناقضات وتغيرات حادة في الشرق الوسط والبحر الأحمر.
كما بات ملموسًا تَوفُر زخم جديد للقاهرة في مجمل السياسات الإقليمية، مع تبنيها خطاب يدعم سياساتها في المنطقة العربية، كما حدث مع دول الخليج العربي على سبيل المثال، عقب الضربات الصاروخية الإيرانية التي طالت الأراضي القطرية قبل ساعات من إعلان ترامب وقفًا لإطلاق النار بين طهران وتل أبيب).
ويتوقع أن تسفر هذه الدينامية الواضحة في التوصل لمقاربات جديدة تطمح القاهرة أن تمهد لها الطريق لمعالجة مشكلات وقضايا حيوية على درجة بالغة من الأهمية لأمنها القومي، في صدارتها أمن البحر الأحمر والحرب في السودان وملف سد النهضة وغيرها، لا سيما أن القاهرة تتبنى موقفا مرنا للغاية من سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أغلب الملفات المشتركة على أرضية التفاهم المشترك، وأهمية الموقف المصري في ضبط التغيرات المتسارعة التي تطال هذه الملفات.