عندما قامت دولة 23 يوليو 1952،كان كل خصومها، يتوقعون لها سقوطاً سريعاً، بعده يعود النظام القديم والأحزاب القديمة والسياسة القديمة والمجتمع القديم، ثم ها هي قد مضى عليها من عمر الزمان ثلاثة أرباع قرن، ولم تسقط إلا فاصلاً محدوداً مع موجة 25 يناير 2011 م، ثم عادت من جديد مع موجة 30 يونيو 2013، أي ما يقرب من ثلاثين شهراً فقط، سقط خلالها ظاهر دولة يوليو، أي اختفى رئيسها، لم يعد الرئيس من ضباط الجيش، لكن باطنها العميق كان على حاله مستقراً في مفاصل الدولة وبنية المجتمع، هذا الباطن العميق المتجذر المستقر، استوعب الرئيس الجديد، ثم في الوقت المناسب تخلص منه، وعادت دولة يوليو من جديد، تستأنف مسيرتها في التاريخ، رغم أنها تخلت عن كافة بنود العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه، وفرضت عقداً اجتماعياً جديداً، يحتفظ بديكتاتورية يوليو دون مزاياها الاجتماعية لصالح الفقراء، ودون مزاياها السياسية لصالح دور مصري قومي قوي في الإقليم والعالم، عادت دولة يوليو، لكن دون مزاياها لصالح الطبقات الوسيطة والفقيرة، دولة يوليو القديمة كانت تحتفظ بحقها في القهر، لكن كانت تحمي الشعب من الفقر، دولة يوليو الجديدة تجمع بين حقها في القهر، وترك عموم الناس لغوائل الفقر تفعل فيهم ما تشاء .
عندما قامت الجمهورية الإسلامية في إيران 1979، تكررت القصة ذاتها، توقع خصومها، أن تفشل، وأن تسقط سريعاً، ليعود النظام القديم، ولو في شكل جديد يسترضي به الشعب، بعد أن استوعب الدرس، فنظام الجمهورية الإسلامية في إيران لم يبدأ بانقلاب عسكري في منتصف الليل، مثل جمهورية الضباط الأحرار في مصر، نظام الجمهورية الإسلامية تأسس عقب سلسلة من الثورات الشعبية على مراحل متقطعة، شغلت سنوات الربع الثالث من القرن العشرين، وزادت عليه سنوات عدة، ثورات شعبية حقيقية تنطبق عليها كل مواصفات الثورات الشعبية العظيمة، وخابت كل التوقعات، ولم يسقط حكم آيات الله في إيران، كما لم يسقط حكم ضباط الجيش في مصر، ويظل النظامان لغزاً، يحير ألباب الكثيرين من دارسي الشرق الأوسط، لغز من عدة زوايا: 1- عدم خبرة الضباط في مصر بالحكم من قبل، في بلد تكونت فيه عبر مائة وخمسين عاماً طبقات اجتماعية وسياسية وفكرية غنية وثرية مادياً وأدبياً ومستقرة، ومتجذرة سواء في السياسة أو الثقافة أو المجتمع أو علاقاتها مع العالم الخارجي، وكذلك عدم خبرة آيات الله في إيران بالحكم من قبل، صحيح هم جزء فعال ومؤثر في السياسة، لكن لم يسبق لهم منذ تأسست الحوزات العلمية مع فرض عقيدة التشيع بصفة رسمية على الدولة والمجتمع قبل خمسة قرون أو أكثر عند مطلع القرن السادس عشر، لم يكن للضباط في مصر خبرة بالحكم، لكن كانوا جزءاً من العملية السياسية، وكذلك كان الفقهاء في إيران. 2- ثم لغز من جهة كثرة الخصوم في الداخل والخارج الذين يتمنون ويحلمون ويسعون ويعملون- سراً وعلانيةً- لإسقاط النظام، هكذا كان حال الضباط في مصر، كما كان، وما زال حال آيات الله في إيران. 3- ثم لغز من جهة أن قوى دولية وإقليمية كثيرة، تعاونت في الحالتين للتخلص من ضباط مصر وفقهاء إيران دون نجاح يُذكر، ففشلت كافة المحاولات، وبقي النظامان اللذان يخرجان من كل محنة أشد وأقوى. 4- ثم لغز من جهة أن الأنظمة التي كانت قبلهما سقطت، رغم أنها كانت أثبت وأشد وأرسخ أقداماً منهما، في حين تغلب الضباط، ثم الفقهاء على كافة الصعاب، كأنها لم تكُن. 5- لغز من جهة أن اللحظة التي تأسس فيها النظامان كانت هشة ومضطربة، وتختلط فيها الأوراق، ولا شيء مضمون سواء في بنية الدولة أو المجتمع، ورغم ذلك استطاعت مراكب الضباط، ثم الفقهاءأن تخترق الأمواج المتلاطمة والضباب الكثيف، رغم الرياح العاصفة ورغم هشاشة المركب وضعف المجاديف.
في نكسة 5 يونيو 1967م العربية، كان هدف الحرب إسقاط قيادة عبد الناصر، لكنه لم يسقط، سقط بعضه، لكن لم يسقط كله، سقط بعض نظامه، لكن بقي النظام صامداً رغم تصدع بعض جدرانه، سقطت هيبته، لكن لم تسقط محبته، انشرخت قامته، لكن لم تسقط زعامته، انهزمت الأمة العربية بكاملها تحت قيادة زعيمها الأول، سقطت في بئر عميق وسقطت الأمة خلفه، لكنها حتى في لحظة السقوط لم تفقد الثقة فيه، ولم تتنكر لزعامته، ولم تبحث عن غير قيادته، لقد أفلح عبد الناصر في إقناع الأمة، أنه الحل الوحيد حتى وهو مهزوم، فلم تجهد نفسها في البحث عن حل بديل، ما دام هو قائم وسطها، يحدثها وتسمعه، تساقط الكثير من عبد الناصر ومن نظامه ومن هيبته، لكن بقيت قيادته، كما بقيت محبته، كما بقي الاعتقاد الجازم، أنه الحل الوحيد الذي ليس عنه بديل.
في نكسة 13 يونيو 2025 الفارسية، كان الهدف إسقاط النظام، تساقط بعض النظام بالفعل، انهدت بعض أركانه، سقط عدد معتبر من كبار رجاله في العسكرية والاستخبارات والعلوم النووية، لكنه لم يسقط، عض على جروحه، ورد على العدوان، وسجل للتاريخ أول نار فارسية، تشعل عاصمة الدولة العبرية، لم يحدث ذلك من قبل بهذه القوة، وهذه الكثافة، عاصمة العدو عاشت اثني عشر يوماً في جحيم كاف، لنسف ليس فقط بعض المباني والمنشآت والأهداف، لكن كاف لينسف كافة نظريات الأمن الإسرائيلي من جذورها، في أقل من أسبوعين، انكشفت هشاشة هذا الكيان الاصطناعي الغريب على المكان والزمان، انكشف عجز الدولة الصهيونية عن استرداد مواطنيها من المقاومة الفلسطينية، كما انكشف عجزها عن تحصين نفسها ومواطنيها ضد الصواريخ الإيرانية، كما ينكشف عجزها الأخلاقي والإنساني كل يوم في ضمائر الرأي العام في كل مكان من العالم.
هذان درسان، يحتاجان للفهم والتدقيق والاستيعاب: لماذا لم يسقط عبد الناصر رغم الضربة قاصمة الظهر صباح 5 يونيو 1976؟ ولماذا لم يسقط آيات الله رغم الضربة المتوحشة صباح 13 يونيو 2025؟
عبد الناصر، وكذلك آيات الله، احتفظ، واحتفظوا، بعقيدة أنهم الحل، وليسوا المشكلة، المشكلة ليست فيه، المشكلة ليست في الفقهاء، المشكلة في العدوان. وهذا صحيح، فدولة الاحتلال لن تسمح بأنظمة تستمد بعض شرعيتها من المجاهرة بالخصومة الجذرية معها. لكن فكرة أن عبد الناصر حتى وهو مهزوم كان هو الحل الوحيد، كما أن فكرة آيات الله رغم مثالبهم الكثيرة، هم الحل الذي لا بديل عنه، هذه وتلك ليست التفسير الوحيد لعدم سقوط النظام في الحالتين، لكن هناك سببا أهم وأعمق، هذا السبب هو الديكتاتورية، الدكتاتورية خير وقاية لمثل هذين النظامين الشموليين، سواء الناصري أو الملالي، لو كان في نظام عبد الناصر مقدار ولو قليل من الديمقراطية الليبرالية الغربية، كان سقط بسهولة، ولو كان في نظام آيات الله قدر ولو يسير من الديمقراطية الليبرالية الغربية، كان سقط بسهولة، الدكتاتورية الكاملة تحمي النظام في لحظة الخطر من زاوية، أنها لا تدع خرم إبرة، يمر منه نقد النظام أو الهجوم عليه أو اتخاذ الهزيمة ذريعة للنيل منه، كما توفر الديكتاتورية سنداً حصيناً لتوحيد كافة المواطنين في جبهة وطنية واحدة موحدة ضد العدوان، فلا يجرؤ أحد على أن يشذ برأي مختلف، وإلا وضع نفسه في خانة الأعداء والخونة والجواسيس والمنافقين والمرجفين والمتعاونين مع الأعداء. الديكتاتوريات في بلادنا هي الأصل، وهي الساكنة في عمق الشعور الجمعي والثقافة الشعبية، كما الديكتاتورية هي البنية التحتية التي تراكمت على أحقاب التاريخ، وباتت تشكل عقل الدولة والسلطة والحكم والإدارة، تماماً كما تشكل بنية المجتمع وروح الثقافة، هذه البنية التحتية الدكتاتورية تضمن- في لحظات الخطر- بقاء النظام متماسكاً، رغم ما ينزل به من شروخ وتصدعات. هذه الدكتاتورية إذا توفرت معها يقظة القيادة السياسية- كما في حالة عبد الناصر وآيات الله- فإنها تسد كل المنافذ التي يتسلل منها العدوان لشراء ذمم وضمائر وولاء القيادات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، لم يحدث أن باع أحد من رجال عبد الناصر نفسه، ومن ثم كان عبد الناصر حصيناً بين رجاله الذين التفوا حوله، كأنه في لحظة نصر، وليس في وضع هزيمة مخجلة، تكرر الحال مع آيات الله، صحيح أن ايران- على مستوى القاعدة الشعبية- فيها عدد كبير من الجواسيس والمتعاونين مع العدوان الإسرائيلي، لكن على مستوى القيادات أظهروا تفانياً وإخلاصاً للنظام. بينما صدام حسين في 2003، باعه رجاله وقبضوا الثمن، وفروا من ميادين القتال، وتركوه لمصيره، وبشار الأسد في 2024، باعه رجاله وقبضوا الثمن، وكرروا كل ما فعله رجال صدام قبل أكثر من عشرين عاماً.
لم يضعف عبد الناصر تحت ضغط الهزيمة، ولم يستجب لأي مطالب ديمقراطية، فازداد تمكناً وتماسكاً، وهذا هو الرهان الوحيد المتاح أمام آيات الله، أي الاستمرار في ديكتاتورية الفقهاء وعدم السماح بأي تيار ديمقراطي حقيقي، يتسلل في وقت الشدة. المصريون قبلوا من عبد الناصر تشديد قبضته بمبررات الحرب وتوحيد الجبهة الداخلية، فضلاً عن ثقتهم في نزاهة مقاصده كديكتاتور وطني محل ثقة من عامة المصريين، فهل يقبل الإيرانيون من آيات الله مزيداً من الديكتاتورية؛ لأجل الحفاظ على النظام؟ هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.