عند صيف (2008)، غابت المساءلة الحقيقية في مأساة العبارة “السلام 98”.

أسوأ ما قد يحدث الآن، أن تغيب أية مساءلة في حادث الطريق الإقليمي.

في الفاجعة الأولى، استبيحت حياة (1034) مواطنا من فقراء المصريين، دون حساب على أي قدر من الجدية.

بدت أرواح الضحايا بلا اعتبار، أو قيمة، أو سند.

في الفاجعة المستجدة، قد يفلت سؤال المسئولية عن أي حساب وتضيع دماء (18) فتاة فقيرة بعمر الزهور، تجاهد من أجل لقمة العيش هدرا.

فاجعة العبارة ما زالت ماثلة في الذاكرة العامة.

إثر الحكم القضائي الابتدائي ببراءة المتهمين في الحادث المروع، تولدت صدمة هائلة في الرأي العام.

أثارت الإجراءات القانونية تساؤلات معلقة وعلامات تعجب بلا نهاية.

كيفت النيابة العامة التهم الموجهة للمتهم الأول صاحب العبارة “ممدوح إسماعيل”، بطريقة تجعل البراءة مؤكدة في النهاية.

ثم أحالت أخطر قضية رأي عام إلى محكمة جزئية في مدينة نائية!

بدا كل شيء مقصودًا لحمايته والحكم ببراءته، وقبل ذلك جرى التمهل طويلًا في رفع الحصانة البرلمانية عنه، أو إصدار قرار بمنعه من السفر للخارج.

كان ذلك استفزازًا للمشاعر العامة، التي تماهت مع ضحايا العبارة، فالانسحاق واحد، والضجر مما هو قائم، وسع من فجوات الكراهية.

لم يكن ممكنًا أمام ردة الفعل الخطرة على الحكم الابتدائي ببراءة المتهمين التباطؤ في الطعن عليه.

جرى ذلك فعلا بعد أربع ساعات من صدوره.

لم يكن صاحب “العبارة المنكوبة” رجل أعمال عاديا، تربطه صداقات شخصية مع قيادات عليا في الدولة، وهو عضو في الحزب “الوطني” الحاكم، وعضو معين في مجلس الشورى بقرار من رئيس الجمهورية، دون أن نعرف له دورًا، يؤهله للتعيين في الغرفة النيابية الثانية!

كان معنى هروب مالك العبارة المتنفذ بسهولة بالغة إلى لندن، وتمكنه بعد وقت قصير من إصدار صحيفة يومية، تتحدث باسمه في مصر، أن حياة الذين لقوا حتفهم في حادث العبارة بلا ثمن.

النظام كله دفع الثمن فادحا بعد سنوات قليلة في يناير (2011).

إنه حساب التاريخ.

إذا غابت المساءلة القانونية والهندسية في حادث الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية، فإن دواعي الغضب لن تغادر مسارح السياسة ولا المتهمين بالتقصير الفادح، سوف يفلتون من حساب التاريخ.

في حادث العبارة لم يبد الرئيس “حسني مبارك” شيئا من التضامن مع الضحايا، ولا أبدى شيئا آخر من الحزم في استقصاء أسبابه، ومراجعة أوجه الخلل الفادح، التي أودت بحياتهم.

الفاجعتان غير متشابهتين، وليستا على نفس الدرجة من الخطورة، لكن رسائلهما إلى المستقبل المنظور واحدة، أن دم الضحايا لا يذهب هدرا.

في فاجعة العبارة، عرض محامو رجل الأعمال الهارب “الدية” قاصدين التعويضات، التي حصلوا على أضعافها من شركات التأمين الدولية، رغم أن القانون المصري لا يعترف بـ”الدية”!

“الدية” بحمولاتها تنطوي على استهتار بحياة الناس، أن كل شيء قابل للبيع والشراء- الحياة والكرامة وذمة بعض المحامين والإعلاميين.

في فاجعة الطريق الإقليمي، بدا لكثيرين، أن التعويضات المالية تكفي وتزيد لتخفيف آلام الأسر المنكوبة.

التعويضات لازمة، لكنها لا تكفي وحدها لتضميد الجراح العامة.

الحساب السياسي والقانوني والفني له الأولوية القصوى، حتى لا تتكرر مثل هذه المآسي.

إذا غاب الحساب، فلن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، ونظل في المكان نفسه، حتى تداهمنا كارثة جديدة.

لا تدع تصريحات وزير النقل “كامل الوزير” مجالا لأي رهان على الحساب والتصحيح.

بدت كارثية تماما بكل معنى سياسي وإنساني.

“أنا مش هستقيل.. ومش هسيبها إلا لما أموت”.

عزا رفض فكرة الاستقالة، إلى أنه مقاتل لا يهرب من المعركة.

لا يدرك أن هناك ما يسمى بـ”المسئولية السياسية”، المنصب الوزاري نفسه، “سياسي” قبل أن يكون فنيا.

شخص مأساة الطريق الإقليمي، كأنه هو المقصود والمستهدف، أو أنها تطعن في أهليته الفنية.

“من قال إنني غير مؤهل”.

الكلام بنصه ورسائله السلبية، يسحب على المفتوح من شرعية النظام، ويستدعي إقالته من منصبه.

كما يستدعي تحقيقا قضائيا وفنيا موسعا في أسباب الحادث ومسئوليته.. تكاليف الطريق وكيف تم اعتماده؟

لا أحد فوق المساءلة، أو فوق القانون.

أخطر ما قد يحدث، أن يستقر في الظن العام، أن الوسيلة الوحيدة للحصول على الحقوق هي استخدام العنف، أو أن يواجهوا بلطجة المال والجبروت ببلطجة مقابلة.

في توصيف طبي للحالة المصرية، التي تبدت في حادث العبارة، شبهها الجراح المعروف الدكتور “وائل غفير” على النحو التالي: أنها حالة فشل لأعضاء وأنظمة الجسم المتعددة، فالكلى تعاني نقصًا في البول، وهذا النقص علاجه مزيد من المحاليل، غير أن ضخ المحاليل يؤدي إلى احتقان رئوي وهبوط بالقلب، فالماء بالجسم لا يمكن التخلص منه، وهذا يؤدي إلى صفراء، يعقبها نزيف بالمعدة والقولون مع عدم القدرة علي ضخ الدم لهبوط بوظائف الكلى- حلقة مغلقة من الفشل النهائي والمميت، كأن جسد النظام بات عصيًا على العلاج، ولم يعد أمام أحد غير توقع النهاية وانتظارها.

أثبت ذلك التوصيف صحته ودقته.

آخر ما تحتاجه مصر الآن في أوضاعها الاقتصادية الصعبة والاستراتيجية المأزومة، أن تصل إلى هذه النقطة، أو أن تبدو بلدًا ضائعًا ورجالها ضائعون.

المساءلة بكامل الجدية في حادث الطريق الإقليمي، ما قبله وما بعده، ضرورة سياسية وفنية لسلامة الأداء العام واستراتيجية؛ لتجنيب البلد أية هزات كبيرة، تفقده الحد الأدنى من التماسك في وقت حرج، قد ترسم فيه خرائط الإقليم من جديد على حساب مصر قبل غيرها.