تشكل أحداث منطقة العوينات كمنطقة حدودية مصرية مع كل من السودان وليبيا نقطة تحول في ظني في التفاعل المصري مع الأزمتين السودانية والليبية معا، وذلك كنتيجة مباشرة للتطورات الأخيرة، إذ تم، اختراق الحدود المصرية من جانب قوات الدعم السريع، ربما بلا إدراك أنها الأراضي المصرية، ثم تم الانسحاب منها مع تمركز الدعم السريع في الأراضي السودانية بعد معارك عسكرية وقذف بالطيران ضد الدعم السريع، وذلك تحت مظلة مزاعم بالحماية من الهجرة غير الشرعية.
ولعل تصريحات محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي غازل فيها مصر، مرتبطة بهذا التطور في محاولة لتطويق أثره السلبي على قوات الدعم السريع، ومستهدفة أيضا محاولة تحييد مصر في الصراع السوداني.
القاهرة كعادتها، تملك حسابات حذرة ومركبة تجاه دول جوارها الإقليمي المباشر، وخاصة السودان، وبالتالي غالبا ما تبتعد عن ردود الفعل السريعة، وغالبا ما يكون أداؤها مرتبطا بمعطيات أمنها القومي على الصعيد الاستراتيجي.
من هذه الزاوية، نستطيع أن نتلمس التقديرات والدوافع المصرية في استقبال كل من اللواء خليفة حفتر وأبنائه من قادة الأسلحة في الجيش الليبي، بالتزامن مع استقبال الفريق عبد الفتاح البرهان وزير الدفاع السوداني في مدنية العلمين المصرية في لقاءات منفردة وثنائية، طبقا للمعلن عنه إعلاميا، وربما جمع القادة الثلاثة، لقاء لم يتم الإعلان عنه؛ نظرا لكون التطورات في المثلث الحدودي أصبحت بالغة الحساسية للقاهرة.
في ظني، أن التقدير المصري قد ذهب أولا إلى أن هناك ضرورة في تطويق التفاعلات العسكرية على الحدود المصرية من الجانبين السوداني أيا ما كانت أطرافه، والليبي من زاوية تفاعلاته مع قوات الدعم السريع على خلفية دعم سابق له في أتون الصراع العسكري على التراب الليبي، وربما أيضا بدفع مباشر من دولة الإمارات، وذلك تحت مظلة تحديات عسكرية تواجهها حاليا قوات الدعم السريع، بعد استعادة الجيش السوداني لقدراته الهجومية من ناحية وصموده في منطقة الفاشر بشمال إقليم دارفور من ناحية أخرى.
على الصعيد الليبي، فإن مجهودات القاهرة تسعى إلى تحييد قوات حفتر في الصراع السوداني، باعتبار ذلك مهددا للأمن القومي المصري من ناحية، ومهددا أيضا للدعم المصري لحفتر في المعادلات الليبية.
أما على الصعيد السوداني، فإن التقدير المصري يذهب حاليا إلى أن التوقيت الراهن بات مناسبا للضلوع في إنهاء الصراع السوداني العسكري، في ضوء تصاعد تهديداته للأمن القومي المصري من جهة، والهدوء المؤقت لجبهة إسرائيل/ إيران من جهة ثانية، وأيضا الاتجاه إلى وقف النار في غزة، وهما الملفين اللذين حصدا مجهودا واهتماما مصريا خلال الفترة الماضية.
في هذا السياق، لا بد من الانتباه لأمرين، الأول أن البيئة الدولية باتت مواتية لبدء مجهودات منسقة بشأن السعي لوقف الحرب السودانية، فاللجنة الرباعية التي تتضمن مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، قد اجتمعت في بروكسل مؤخرا بشأن سبل وقف الحرب.
أما البيئة الإقليمية فهي مشغولة بالحرب الإسرائيلية الإيرانية ونتائجها، وذلك تحت مظلة نتائج هذه الحرب التي لم تحسم انتصارا لأحد الطرفين، وهو ما يعني إننا أمام صراع عسكري مفتوح، له انعكاسات خطيرة على دول منطقة الخليج، بلا استثناء، خصوصا بعد قصف قاعدة العديد الأمريكية على الأراضي القطرية، بما يعني أن واشنطن لم تستطع أن تحمي الخليج من إيران، وباتت القواعد العسكرية الأمريكية، ربما بلا فائدة للخليجيين.
وفي السياق نفسه، فإن الجبهة الداخلية الخليجية باتت مهددة من العمالة الآسيوية الذين يشكلون وجودا مليونيا، بعد ما شهدناه من اختراق استخباري إسرائيلي لإيران مؤثر على مجريات الحرب، وذلك عن طريق العمالة الأجنبية.
هذه الأوضاع والتطورات، سوف يكون لها انعكاسات على الأداء الخليجي في السودان خلال المرحلة القادمة، إذ أنه من الأرجح أن ينصب المجهود الخليجي على المهددات المستجدة، ويتم العودة ولو تدريجيا إلى الأوضاع التاريخية التقليدية، في اعتبار القاهرة فاعل أساسي في السودان يمكن الاعتماد عليه.
المحددات المصرية في هذه المرحلة، طبقا لما نراه من مرئيات هي دعم القوات المسلحة السودانية، باعتبارها مؤسسة ممثلة للدولة السودانية، وذلك بغض النظر عن طبيعة تحالفات الجيش حاليا مع بعض القوي السياسية السودانية التي تنظر إليها القاهرة على اعتبار أنها مرحلة مؤقتة.
وفي هذا السياق، فإن مجهودات وقف الحرب السودانية ستتطلب التفاعل مع كل الأطراف المنخرطة فيها، بما في ذلك محاولة تخفيف ضغوط كل من الحلفاء الإسلاميين والفصائل المسلحة على الجيش، وبطبيعة الحال التعامل مع قوات الدعم السريع على قاعدة شرعية الجيش كمؤسسة قومية، وكذلك وحدة التراب الوطني السوداني.
وطبقا لذلك، فإنه على الرغم من مغازلة حميدتي لمصر، فإن التفاعل المصري معه لن يتجاوز هذه المحددات، وربما هذا ما دفع إلى الإعلان عن المجلس القيادي لـ “تأسيس” على اعتبار أن مغازلته للقاهرة لم تحقق النتائج المرجوة منها.
على صعيد مواز، فإن انتباه القاهرة لضرورات التوافق السوداني الداخلي، باعتباره أحد روافع وقف الحرب، سيجعل مسألة عقد المؤتمر الثاني للقوي السياسية السودانية في العاصمة المصرية أمرا واجبا خلال هذا الصيف، وهو المؤتمر الذي قد يكون مطروحا فيه على القوى السياسية السودانية مسألة عقد الانتخابات بعد فترة انتقالية قصيرة، وذلك طبقا لمناهج ونظم تسعى إلى تمثيل واقعي للمكون الديموجرافي “السكاني” السوداني، بما يستوعب التنوع العرقي والقبلي، وكذلك تمثيل للقوي المدنية السودانية، بما يمنع تغول الجيش على السلطة، باعتبار أن ذلك أحد شروط الاستقرار السياسي في السودان الذي يغلب عليه قوة المجتمع وضعف الاندماج الوطني.
وطبقا للبيان الختامي الصادر عن اجتماع الرئيس السيسي والفريق البرهان، فإن الدعم الإغاثي المصري لمتطلبات الإعمار الضرورية في السودان، خصوصا الصحية والطبية منها متفق عليه، وكذلك إحياء ما سمي في البيان بالاتفاقات القديمة بين مصر والسودان، والتي ستكون على الأغلب اتفاقات الحريات الأربع، هو تطور إيجابي.
إجمالا، يبدو أننا أمام متغيرات في المشهد العسكري والسياسي السوداني، ستكون فيه القاهرة لاعبا مؤثرا من هذه الزاوية. أدعو أن تضاف إلى الأدوات المصرية التقليدية في التفاعل مع المشهد السوداني آليات جديدة، يتم فيها دعم الآليات الصلبة للدولة المصرية في مهام هي معقدة بطبيعتها. ومن ذلك، توسيع التشاور مع المكون المدني السوداني، وإتاحة فرص التفاعل المصري المدني مع المُشَكّْل السوداني من زوايا التفاكر بشأن بلورة اقترابات وسياسات جديدة، يتم اقتراحها بشأن التحديات الداخلية السودانية.