استخدمت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق “كونداليزا رايس” تعبير “الفوضى الخلاقة”؛ لتبرير ما سبق وأعدته إداراتها الجمهورية للمنطقة عقب الغزو الأمريكي للعراق، واعتبرت أن الفوضى التي جلبها هذا الغزو خلاقة، وسيخرج منها طريق التقدم والازدهار.
“؛ لتبرير ما سبق وأعدته إداراتها الجمهورية للمنطقة عقب الغزو الأمريكي للعراق، واعتبرت أن الفوضى التي جلبها هذا الغزو خلاقة، وسيخرج منها طريق التقدم والازدهار.
والمؤكد، أن الفوضى التي روجت لها الوزيرة الأمريكية لم تكن خلاقة، وأن الفوضى التي تجري حاليا في أكثر من بلد عربي، لم تجلب أي تقدم، إنما باتت بالتأكيد “فوضى غير خلاقة”، تكرس البؤس في أكثر من مكان.
وقد تحدث القادة الأمريكيين لعقود عن الشرق الأوسط الجديد، وعن واحة الديمقراطية المنتظرة والازدهار والرخاء الذي ينتظر شعوبه بعد تفكيك المؤسسات القديمة، وكانت أفغانستان والعراق هي ساحة التجارب، ونتيجتها هي ترحم معظم الناس على القديم بمؤسساته ورموزه، بعد أن شاهدوا سوء أداء الجديد وسراب وعودة.
وقد شهدت مصر في الفترة الأخيرة أشكالا متعددة من الفوضى، ليست بسبب غزو أو مؤامرات خارجية، حيث بات لا يمر شهر إلا وتشهد البلاد حادثا مروعا؛ نتيجة الفوضى والإهمال وسوء الأداء، وأيضا بسبب غياب الأولويات الصحيحة والاهتمام بمشاريع من نوعية “الأطول والأعرض”، حتى لو كانت لا تمثل احتياجا حقيقيا وأولوية لأغلب الناس.
والحقيقة، أن ما يجري من مظاهر “الفوضى غير الخلاقة” هو نتيجة سوء أداء داخلي فادح، عكس أزمة في طريقة التفكير.
اعتبرت أن هدم أو تجاهل المؤسسات القديمة هو الهدف، وليس إصلاحها الذي يتطلب بالأساس إصلاح جراحي للمؤسسات القديمة، وربما تفكيك اضطراري لقله منها، وليس هدمها، وغابت فكرة تطوير وتحديث القديم.
والحقيقة، أن مسلسل الحوادث “غير الخلاقة” التي شهدتها مصر مؤخرا سواء كانت على طريق سريع مثل الطريق الإقليمي الذي راح ضحيته ٢٨ شهيدا، وعشرات المصابين أو في مبنى حكومي مثل حريق سنترال رمسيس الذي راح ضحيته ٥ شهداء، فإن السبب المعلب دائما هو الإهمال ورعونة السائقين، ويتم تجاهل الأسباب الأخرى التي جعلت مثل هذه الحوادث نمطا متكررا في أرض المحروسة.
لقد بدا هناك فارق هائل بين الكلام الرسمي عن الرقمنة والجيل الرابع والخامس من الهواتف المحمولة والسنترالات الجديدة ” الشيك” وبين الواقع المعاش من ترهل وبدائية في الأداء، كما أن حوادث الطرق المتكررة تقول، إن هناك طرق ومحاور بنيت لزوم الوجاهة والإنفاق في غير محلة، وأدت في النهاية إلى التأخر في استكمال توسيع الطريق الإقليمي، فمثلا إعادة رصف 400 كيلو ذهاب وإياب في طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي أنفقت مليارات الجنيهات عليه، رغم أن حالته كانت جيدة، ولا يمثل إعادة رصفه أولوية، وامتد مجال الإنفاق في غير محلة إلى ما عرف بتطوير الحدائق من المنتزه إلى القلعة ومن حديقة الحيوان إلى الأورمان، كما هدم جانب من المقابر التاريخية لصالح محور أجمع الخبراء الذين اختارتهم الدولة، إنه لا يمثل أولوية، وسيوفر دقيقتين فقط، وكانت له أكثر من بديل، تعمدت الحكومة تجاهلهم لصالح “قبح” المحاور والكباري.
في أي بلد لديه تاريخ في التحديث، تجاوز القرنين مثل مصر تحتاج مؤسساته القديمة إلى إصلاح وتطوير، وتحتاج أيضا إلى تحديث، ولكن ليس هدما، فقد ثبت بألف دليل، أن قلب مصر وعقلها لا زال في القاهرة التاريخية بمبانيها التي تهدم، أو تترك فريسة الإهمال لتحترق، وأن كثير من موظفيها الذين يعملون في صمت بعيدا عن الشو واللقطة،/ ولم تستثمر الدولة في تدريبهم وتحسين أدائهم، رغم أنهم لا زالوا أساس العمل الإداري في البلاد، وأن سنترال مثل رمسيس لا زال هو قلب الاتصالات في مصر، حتى لو أصابه الإهمال وعدم الاهتمام، وأن المؤسسات والمباني الحقيقية هي الأولى بالتطوير والتحديث من ماسبيرو العريق إلى كل مبنى اتصالات حكومي، يعمل في ظروف صعبة، أقلها إنه يشعر بالتهميش والتجاهل لصالح مباني شاهقة وضخمة وفارغة من البشر.
إن حصيلة الإنفاق في غير محلة وإهدار المال العام في مشاريع غير منتجة، لا تدر عائدا ولا تمثل أولوية لدى أغلب الناس، جعل ديون مصر تصل إلى نحو ١٥٠ مليار دولار، وارتفع الدين الخارجي في الربع الأول من هذا العام إلى ١.٦ مليار دولار، وهو يتطلب إجراء مراجعة جذرية للسياسات التي أدت إلى هذه الحالة، وعلى رأسها الإنفاق غير المسبوق على الانشاءات والكباري والمحاور والمشاريع غير المنتجة، التي تجاهل جانب منها العلم ودراسات الجدوى وأولويات الإنفاق.
ما يجري على الطرق المنسية كارثة حقيقية، تعكس الأولويات الخاطئة للدولة، وما جرى في سنترال رمسيس رسالته أكبر من مجرد حريق؛ بسبب ماس كهربائي أو إهمال أو حمولة زائدة، إنما يقول إن مشاكل مصر كثيرة وحلها لن يكون إلا بالتخلي الكامل عن هذا التصور الذي يعتبر، أن الحل في بلد قديم مثل مصر هو هدم مؤسساته ومبانيه القديمة، رغم كل مشاكلها وعيوبها، فليس المطلوب تفكيكها وهدمها، إنما إصلاحها وتطوير أدائها وإزالة الركام من عليها، حتى لو كانت مداخلها ليست فخمة وحجمها ليس الأطول والأعرض فهي جوهر التنمية ومستقبلها بالاستثمار في البشر الذين يعملون فيها، وهم نقطة البداية والانطلاق.
لقد أصبح مطلوبا إحداث قطيعة مع من يتخيل أن المؤسسات القديمة، لأنها قديمة سيئة، إنما هي مؤسسات تعاني من ترهل إداري وبيروقراطية والحل في إصلاحها، وليس بناء مباني فاخرة وضخمة، ينفق عليها مليارات الجنيهات، وتدار بنفس العاملين الذين لم يتدربوا، ولم يستثمر في تطوير كفاءتهم أحد، لأن وجود “الموظف الكفء هو الذي سيجذب رجل الصناعة المنتج، وليس السماسرة والمضاربين.