انتهكت على نحو فادح أية قيمة إنسانية وأخلاقية في محادثات البيت الأبيض الأمريكية الإسرائيلية.

جرى القفز على أزمتي غزة وإيران ومخاوف اتساع نطاق المواجهات العسكرية لتشمل الإقليم كله، إلى حديث بلا سند من رجل بلا أهلية يرشح الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لجائزة “نوبل للسلام”، دون أن يكون هناك سلاما!

أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بإرثه وتاريخه وجرائمه، هو صاحب الترشيح، فإنها مفارقة غير متخيلة، كأنها انتزعت من مسارح اللا معقول.

هو مجرم حرب، صدرت بحقه مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، وحكومته متهمة أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.

إنها إهانة بالغة لجائزة “نوبل للسلام”، وحكم عليها بالإعدام التاريخي.

رغم ذلك، فمن غير المستبعد، أن يحصل عليها “ترامب” بضغوط السياسة وإغواء المصالح.

هناك فارق جوهري بين جوائز “نوبل” في العلوم بمختلف تخصصاتها وجائزة “نوبل للسلام”.

الأولى، تخضع لفحص وتدقيق من لجان، تضم علماء وخبراء على درجة عالية من التخصص والأهلية، يكسبها صدقيتها واحترامها.

والثانية، تمنحها لجنة منتخبة من البرلمان النرويجي، سلطتها تقديرية والطابع السياسي عليها غالب.

على مدى عقود خامرت أغلب الرؤساء الأمريكيين فكرة الحصول على جائزة “نوبل للسلام” من بوابة إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي بتسوية ما.

هذه المرة تخامر “ترامب” الفكرة نفسها، تسكنه ويلح عليها، لكن بإلغاء أي حق فلسطيني وإنكار قضيتهم نفسها.

إنه نفس الرجل الذي دعا إلى “تطهير غزة” من أهلها الفلسطينيين، أو أن يستولى عليها لإنشاء مشروع عقاري كبير، يستثمر في شاطئها الساحر، كما قال نصا قبل أن يتراجع قليلا ومؤقتا.

في اجتماع البيت الأبيض سئل “ترامب” عن موقفه من إنشاء دولة فلسطينية، لم يجب وأحال السؤال إلى “بيبي” ليجيب عليه.

لم ينف “نتنياهو” خشية إفساد ترشيحه لـ”ترامب” نيل جائزة “نوبل للسلام”.

ولم يؤكد خشية تفكك تحالفه الحكومي وتضادا مع أرائه المعلنة وسياساته المتبعة.

“لدى الرئيس فكرة رائعة.. أن يتاح لأهل غزة الخيار بين البقاء أو الهجرة الطوعية”.

كان ذلك تأكيدا مراوغا على مشروع الإبادة الجماعية.

إذا حصد “ترامب” جائزة “نوبل للسلام”، سوف يبدو ذلك إذنا دوليا بالإبادة الجماعية، التي لم يدنها بأية درجة، ولو تلميحا!

هكذا تبدو “جائزة نوبل للسلام، بالإضافة إلى كامب ديفيد، إذنا دوليا بالقتل الذي لا يجرمه أحد”.

كان ذلك استخلاصا كتبه الأديب الكولومبي العالمي “جبرائيل جارثيا ماركيز” عام (2002):

“إنه لمن عجائب الدنيا حقا، أن ينال شخص، كمناحيم بيجين جائزة نوبل للسلام، تكريما لسياسته الإجرامية التي تطورت في الواقع كثيرا خلال السنوات الماضية على يد مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة”.

“إن فوز مناحيم بيجين بجائزة نوبل في السلام لسنة 1978 مناصفة مع الرئيس المصري أنور السادات، يظل من عجائب الدنيا حقا، ولا يخفف من الدهشة القول، بأن الدنيا مليئة بالطرائف، وأن هناك ما هو أغرب”.

“جاء ذلك كنوع من المكافأة على اتفاقية براقة أرست قواعد السلام من طرف واحد هو العربي- الرجلان اقتسما الجائزة- لكن المصير اختلف من أحدهما إلى الآخر”.

“في حالة أنور السادات ترتب على الاتفاقية انفجار بركان غضب داخل جميع الدول العربية، فضلا عن أنه ــ صباح 6 أكتوبر 1981 ــ دفع حياته ثمنا لها”.

“أما بالنسبة لبيجين، فلقد كانت الاتفاقية نفسها بمثابة ضوء أخضر، ليستمر بوسائل مبتكرة في تحقيق المشروع الصهيوني”.

“جائزة نوبل في السلام فتحت الطريق على مصراعيه لقطع خطوات متزايدة السرعة نحو إبادة الشعب الفلسطيني، كما أدت إلى بناء آلاف المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المغتصبة”.

كان استخدام “ماركيز” لعبارة “إبادة الشعب الفلسطيني” لافتة بذاتها، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح.

بمضي السنين، واصلت حركة الاستيطان توسعها، حتى كادت تقضم أراضي الضفة الغربية، ثم بدأ الحديث يتواتر عن مشروع ضمها إلى الدولة العبرية باسم “صفقة القرن”، التي تبناها “ترامب” في ولايته الأولى، أو باسم “سلام القوة”- كما يحدث حاليا.

أقصى ما يعرضه “ترامب” في محادثات واشنطن والدوحة وقف إطلاق نار لمدة ستين يوما دون ضمانات، يعتد بها لعدم العودة للحرب وتبادل الأسرى والرهائن.

إننا أمام مجموعة مقايضات محتملة لتثبيت وقف إطلاق النار، أهمها وأخطرها عقد اتفاقيتين أمنيتين بين إسرائيل وكل من سوريا ولبنان، تمهدان لمعاهدتي سلام والتوصل بالوقت نفسه لاتفاقية سلام أخرى مع السعودية كحافز، يدعو الدولة العبرية لنوع من السلام.

لا مكان للسلطة الفلسطينية؛ خشية أن تمهد لدولة فلسطينية ما رغم الأدوار، التي تلعبها بأدوارها الوظيفية منخفضة التكلفة في ضمان الأمن الإسرائيلي.

التحدي الحقيقي أمام الفلسطينيين هو إعادة توصيف القضية الفلسطينية على نحو صحيح كشعب تحت الاحتلال.

هذه مسألة بالغة التعقيد في عالم عربي تكاد تتقوض أية مناعة سياسية فيه، وأوضاع فلسطينية مرشحة لصراعات داخلية، تسحب على المكشوف من رصيد عدالة القضية نفسها.

أي قبول إسرائيلي شكلي بدولة فلسطينية منزوعة السيادة، ومجزأة الأطراف هو الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أغلب الضفة الغربية.

لن تكون هناك دولة فلسطينية في لحظة إعلانها.. ويتحول الكلام عنها إلى ألعاب في الهواء.

بصياغة المفكر الفلسطيني الراحل الدكتور “إدوارد سعيد” فإنه: “سلام بلا أرض”..

وبصياغة مستحدثة فإنها: “دولة بلا دولة”!

باستخلاص آخر من “ماركيز” فإن: “نظرية المجال الحيوي الصهيونية تستند، إلى أن اليهود شعب بلا أرض، وأن فلسطين أرض بلا شعب.. هكذا قامت الدولة الإسرائيلية غير المشروعة في 1948، فلما تبين أن هناك شعبا، وأن فلسطين شعب، يسكن في أرضه، كان من الضروري حتى لا تكون النظرية مخطئة إبادة الشعب الفلسطيني بصورة ممنهجة”.

“حسنا.. ما العمل الآن؟.. الحل عثرت عليه مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة، لتصبح فلسطين. تماشيا مع النظرية، أرضا بلا شعب. وعلى الذين يتكاثرون كالأرانب ليقاوموا الفناء، أن يبادوا بسلام”.

“أنا لا أعرف هل هؤلاء، يدركون أنهم هكذا يبيعون أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص، لا يجب التصدي له بغير الاحتقار. لا أحد عانى في الحقيقة كالشعب الفلسطيني، فإلى متى نظل بلا ألسنة”.

المشكلة الحقيقية في العالم العربي الآن، إنه بلع ألسنته.

لم يتردد “ماركيز” في إدانة الجبناء، الذين لا يجرؤون على قول الحقيقة.

كأنه يخاطبنا الآن قال: “سامحوني إذ قلت إنني أخجل من ربط اسمي بجائزة نوبل”.