في منتصف نهارٍ خانق، وبينما كانت القاهرة غارقة في زحامها المعتاد وضجيجها الإلكتروني اليومي، وقع ما لم يكن في الحسبان: الهواتف لا تعمل، الإنترنت مقطوع، القطارات متوقفة، والإشارات المرورية عمياء. الحسابات البنكية معطلة والسبب؛ حريق اندلع داخل سنترال رمسيس، أحد أكثر النقاط التكنولوجية حساسية في العاصمة المصرية..
لم يكن هذا الحريق مجرد حادث عرضي. لقد كشف عن حالة الهشاشة في البنية التحتية الرقمية للدولة، وفضح تناقضًا صارخًا بين الشعارات التي نُردّدها عن “التحول الرقمي” ومصر الذكية”، وبين واقع لم يصمد أمام خلل موضعي في مبنى واحد، يجمع مفاصل وعقل الدولة إلكترونيا..
النيران التي اندلعت في سنترال رمسيس، لم تأتِ فقط على الكابلات والأجهزة، بل كشفت زيف تصورات كثيرة عن جاهزية الدولة الرقمية. فالخدمات توقفت، والمؤسسات تعطلت، ولم تصدر بيانات رسمية، تشرح ما جرى، وكأن القطيعة الرقمية التي أصابت المواطنين والجهات الحكومية معًا، لا تستحق تفسيرًا ولا مساءلة. وفي اللحظة التي كان يُفترض فيها، أن تظهر خطط الطوارئ والبنى البديلة، لم يحدث شيء… سوى الصمت.
هذا الصمت كان كاشفًا بقدر ما كان صادمًا. لقد بدا جليًا، أننا نُدير منظومة رقمية بعقلية تقليدية، ونعيش في واقع هش يُحرّكه مركز واحد… فإذا تعطل، تعطلنا جميعًا.
التحول الرقمي لا يُقاس بعدد المواقع الحكومية ولا بحجم الحملات الإعلانية، بل بقدرتنا على الصمود في الأزمات، والاستمرار دون توقف، والتأمين الكامل للبنى الأساسية.
لفهم الصورة بشكل أدق، لا بد أولًا أن نسأل: ما معنى أن تكون الدولة “رقمية”؟ وما المقومات التي تجعل هذا التحول ممكنًا وآمنًا؟
“السحابة”، مثلًا، ليست شيئًا في السماء كما معتاد. إنها شبكة من الخوادم الموزعة التي تضمن استمرارية الخدمات وعدم الاعتماد على نقطة واحدة. لكن ما حدث في سنترال رمسيس، يؤكد أن البنية الرقمية في مصر لا تزال تعتمد على عدد محدود من نقاط التمركز شديدة الحساسية، من دون وجود بدائل حقيقية أو خطط للتعامل مع الطوارئ.
هذه المراكز، مثل سنترال رمسيس والمعادي وبعض السنترالات الأخرى، تُعد بمثابة القلب النابض لشبكات الاتصالات والإنترنت، وتربط بين مختلف الوزارات والمؤسسات. لكنها لا تزال تُدار بأنظمة بدائية، من دون نسخ احتياطية جاهزة، ولا مراكز بيانات رديفة احتياطية يمكنها التدخل تلقائيًا عند الحاجة..
الأخطر من ذلك، أن منظومة الأمان بدت غائبة تماما عن المشهد. فلم ترصد أي إشارات مبكرة من أجهزة الإطفاء الآلي، كما هو مفترض في منشأة بهذا المستوى الحساس والهام، ولم يصدر أي تنبيه تلقائي، يعكس وجود نظام رقابة فعال واحتواء. غابت الاستجابة التقنية وغاب التدخل الإلكتروني الذي يفترض أن يفعل خطط الاحتواء في اللحظة الأولى قبل تفاقم الأزمة. كل هذا يشير الى أن الحريق على محدودية موقعه واجه بنية تحتية، لا تعرف كيف تحمي نفسها ولا كيف تنبه من يديرها لخطورته، قبل أن يتفاقم ويتحول لكارثة.
في الدول التي سبقتنا على طريق الرقمنة، هناك مساران متوازيان لحماية البنية الرقمية: حماية مادية للبنية التحتية من الكوارث، وحماية سيبرانية من الاختراقات. وفي مصر لا تزال الأمور تُدار برد الفعل، من دون اختبار فعلي للجاهزية، ومن دون محاكاة للأزمات..
ويُضاف إلى كل ذلك تعقيد آخر: الخلل في إدارة الملف الرقمي ذاته. فغالبًا ما تُعامل نظم المعلومات والأمن الرقمي في بعض الجهات الحكومية كخدمات تابعة للدعم الفني، لا كملف استراتيجي سيادي. وتقارير مثل “مؤشر الأمن السيبراني العالمي” تشير إلى أن مصر تحتاج إلى تطوير حقيقي في البنية التنفيذية وتوحيد المرجعيات.
بل إن العديد من المؤسسات، كما تكشف تقارير رسمية، لا تملك إجابة دقيقة على سؤال بسيط، من يدير أنظمتها الرقمية؟ هل هو موظف حكومي؟ شركة خارجية؟ جهة أمنية؟ هذا الغموض يُنتج تداخلًا في السلطات، وغيابًا للمحاسبة، وضعفًا في التأهب.
والمشكلة ليست محلية فقط. فوفق تقرير البنك الدولي بعنوان “تقييم الاقتصاد الرقمي في مصر”، فإن الدولة تعاني من تبعية تكنولوجية خارجية واضحة، تتجلى في:
- سيطرة جهة واحدة (Telecom Egypt) على جميع كابلات الإنترنت الدولية المارة بمصر، ما يجعلها نقطة اختناق قابلة للتعطيل بسهولة.
- غياب مركز تبادل بيانات دولي مفتوح، مما يعني أن معظم المحتوى العالمي (IXP) يمر عبر مراكز خارجية في أوروبا، أو دبي قبل الوصول إلى مصر.
- ضعف مراكز البيانات المحلية، مما يؤثر على سرعة الخدمة وكلفتها.
- غياب استقلال الجهة المنظمة (NTRA)، التي لا تزال تتبع وزارة الاتصالات، ما يخلق تضاربًا بين التنظيم والتشغيل.
كل هذه العوامل تجعل من مفهوم “السيادة الرقمية” في مصر هدفًا مؤجلًا، لا واقعًا فعليًا.
وفي خضم هذه التعقيدات، برزت أصوات، تُطالب بفتح ملكية الشبكة الفقرية القومية للاتصالات أمام القطاع الخاص، بدعوى أن احتكار الدولة لهذا المرفق هو السبب في ضعفه.
هذه الدعوة، رغم ما قد يبدو فيها من منطق اقتصادي، تتجاهل حقيقة جوهرية: أن الشبكة الفقرية ليست مجرد كابلات تحت الأرض، بل البنية العصبية التي تمر عبرها الاتصالات الحكومية، والبيانات السيادية، والبث الإعلامي، والمعاملات المالية والمصرفية. هي العمود الفقري الذي ترتكز عليه الدولة الرقمية الحديثة.
ولهذا، فإن الملكية السيادية لهذه الشبكة يجب أن تبقى خطًا أحمر.
لكن في الوقت ذاته، هذا لا يعني أن الدولة يجب أن تعمل بمعزل عن القطاع الخاص. بل العكس، يجب أن يكون هناك تعاون فني وتكنولوجي مع جهات موثوقة، في إطار من الشفافية والرقابة السيادية الكاملة. فالتحدي ليس في التعاون، بل في مدى وضوح القواعد التي تنظمه، ومن يملك القرار النهائي.
المعادلة المطلوبة دقيقة: سيادة كاملة، وشراكة فنية محسوبة، لا تمس البنية، ولا تفتح ثغرات للنفاذ إلى مفاصل الدولة.
تاريخيًا، لم تكن هذه المعركة جديدة. فقد حاولت بعض الجهات، منذ توقيع اتفاقية 1979 مع الولايات المتحدة، تمرير تصورات لخصخصة الشبكة تحت ذرائع تحسين الأداء، أو إدخال القطاع الخاص لزيادة الكفاءة. وفي العقد الأول من هذا القرن، طُرحت مخططات متعددة، بعضها حمل أسماء مطمئنة، وبعضها كان سافرًا، وكلها سعت لفتح قلب الشبكة أمام من لا يملك إلا منطق الربح.
ومن هنا، فإن ما كشفه الحريق، يجب أن يكون نقطة مراجعة كبرى. تقرير البنك الدولي ذاته، أوصى بعدة خطوات عاجلة:
- تحرير سوق الإنترنت الثابت والسماح بدخول مشغلين جدد في البنية التحتية بضوابط حاكمة.
- إنشاء مراكز بيانات وطنية مستقلة بمواصفات عالمية.
- إعادة توزيع الطيف الترددي بشكل أكثر كفاءة.
- تمكين الجهة المنظمة من الاستقلال الكامل عن الجهة المنفذة.
- وضع خطة وطنية واضحة ومُعلنة، بتواريخ ومسؤوليات محددة.
لكن الأهم من كل هذا هو الاعتراف بأن ما لدينا اليوم لا يُسمى بنية رقمية متطورة، بل منظومة هشّة، مركزية، تفتقر إلى الحماية، والاستقلال، والشفافية.
السؤال الحقيقي لم يعد: كيف نُطلق بوابة إلكترونية جديدة؟
بل: كيف نمنع البوابة من الانهيار عند أول حريق… أو أول اختراق؟
فالتحول الرقمي ليس موقعًا إلكترونيًا، ولا شعارًا إعلاميًا، بل منظومة سيادية متكاملة، لا يمكن بناؤها إلا بعقول تؤمن أن التكنولوجيا اليوم…
هي أمن قومي..
المصادر المستخدمة:
· تقرير البنك الدولي
- “تقييم الاقتصاد الرقمي في مصر” – World Bank, 2021
- يتناول تقييم شامل للبنية التحتية الرقمية، السوق، السياسات، والحوكمة الرقمية في مصر.
· مؤشر الأمن السيبراني العالمي– الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)
- Global Cybersecurity Index (GCI), 2020 & 2021 editions
- يقدم تصنيفًا دوليًا لمستوى التقدم في الأمن السيبراني على مستوى الدول.
· الاتفاقية المصرية الأمريكية للتعاون التقني– 1979
- إشارات تاريخية موثقة في تقارير بحثية وملفات أرشيفية منشورة في دراسات حول العلاقات المصرية-الأمريكية، وتحديدًا في برامج المعونة الفنية الأمريكية (USAID).
· مداخلات إعلامية وتصريحات رسمية.
- تصريحات منشورة على لسان مسؤولي “الشروق” وحول حادث سنترال رمسيس.
· تقارير تحليلية وورقات بحثية منشورة عن “حوكمة البيانات” و”السيادة الرقمية”.