“إن إسرائيل تقوم حاليا “بالعمل القذر” نيابة عنا جميعا (الغرب بأسره)”.
أحدث هذا التصريح الذي أدلى به المستشار الألماني “فريدريش ميرتس” للقناة الثانية الألمانية يوم الثلاثاء 17 يونيو الماضي جدلا واسعا، لما يحمله من دلالات سياسية وقانونية وعسكرية وثقافية خطيرة.

“العمل القذر”: مصطلح صادم ومعانٍ خطيرة

ميرتس بنفسه وصف الاعتداءات الإسرائيلية بـ”العمل القذر”، معترفًا بأنها أعمال مكروهة ومنفرة، ومستخدما مصطلحا يرتبط عادة بالمافيا وعمليات التصفية الجسدية، على حد وصف “معهد ليمكين لمنع الإبادة الجماعية”.
سياسيًا وعسكريًا، يمتد المفهوم ليشمل التلاعب بالانتخابات، وتدبير الانقلابات، والعمليات السرية وتدريب المرتزقة، والاغتيالات.

ولأول مرة هنا، يعترف زعيم غربي علنًا- بكل ما لذلك من مسئوليات سياسية وتبعات قانونية– بأن اعتداءات إسرائيل المتكررة على دول عربية ومسلمة، بما فيها من جرائم حرب وتطهير عرقي وإبادة جماعية، تتم نيابة عن الغرب وبدعمه، وهو يعتبر دليلا قاطعا، طبقا للقاعدة القانونية “الاعتراف سيد الأدلة”.

انتقادات ألمانية داخلية لاذعة

التصريحات أثارت غضبًا واسعًا داخل ألمانيا نفسها، وحتى من شريكه في الائتلاف الحاكم، مع وصف النائب “أديس أحمدوفيتش” المتحدث باسم الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي لها، بأنها “نبرة مهينة”، تؤجج التصعيد.

انتقادات المعارضة الألمانية كانت أكثر حدة، حيث وصفتها “لويزا أمتسبرج” مقررة شؤون إيران والشرق الأوسط للكتلة البرلمانية لحزب الخضر، بأنها “تصريحات ساخرة وجاهلة”، بينما اعتبرتها “ساره فاجنكنيشت” زعيمة تحالف “بي إس في” اليساري انحرافا غير مسبوق، وازدواجية معايير أخلاقية صارخة، وشرعنة لحرب عدوانية مخالفة للقانون الدولي بشكل فاضح.

ووصل الأمر برئيس حزب اليسار “يان فان أكين” للقول: إن على ميرتس “تنظيف المراحيض”؛ ليفهم معنى العمل القذر، لا أن يسخر من ضحايا الحرب والعنف، كما وصفها رئيس كتلة حزبه “زورين بيلمان” بـ”الفضيحة”، مؤكدا أنها تروج لمنطق “حق الأقوى”، وتضر بشدة بسمعة ألمانيا في الأمم المتحدة ودوليا.

صحيفة “ميركشه أودر” الألمانية، حذرت من أن تصبح ألمانيا كحليف لإسرائيل، متواطئة بصمتها تجاه أطفال غزة، هذا بينما أوجزت مجلة “بوليتيكو” الأمريكية الأوربية خلاصة رأيها في عنوان تقريرها “عمل ميرتس القذر”!

المسئولية السياسية والقانونية

على الصعيد الحقوقي، أدانته منظمة “هيومن رايتس ووتش” باعتباره تصريحا، يقلل من الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين بوصفها مجرد “أعمال قذرة”، بدلاً من وصفها بانتهاكات منهجية، وهو ما ذهبت إليه أيضا مؤسسة “روزا لوكسمبورج” التابعة لحزب اليسار الألماني، من أنها تخفف من المسئولية القانونية تجاه الضحايا المدنيين.

الانتقادات طالته حتى من الإيرانيين في المهجر في رسالة مفتوحة تحت عنوان “السيد ميرتس”، “عملك القذر” له عواقب- أوقف دعم جرائم الحرب الإسرائيلية الآن”، أكدوا فيها أن اختياره للكلمات كاشفٌ بشكل مرعب، ويشجع على انتهاك القانون الدولي، بدعم حرب دموية، تشنها حكومة يمينية متطرفة فاسدة، رئيس وزرائها متهم من المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب.

وكذلك نشر معهد “ليمكين لمنع الإبادة الجماعية” بيانا، أدان فيه تصريحات ميرتس لانتهاكها للدستور الألماني، وختم بحثّ القيادة الألمانية على إعادة تأكيد التزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه دستورها نفسه، وكذلك حث الشعب الألماني على محاسبة قادته الذين يُساهمون في تآكل القانون الدولي وحقوق الإنسان بدعم الحروب العدوانية والعنف والإبادة.

لم يتوقف الأمر على توجيه اتهامات سياسية له، بل تطور إلى إعلان عشرين شخصية ألمانية عامة تقديم دعوى جنائية ضده، بتهمة المسئولية عن انتهاك بعض أهم مواد الدستور الألماني، ومنها المادة “9” (المؤيدة لفكرة التفاهم بين الشعوب)، والمادة “25” (الملزمة بالقوانين الدولية) والمادة “26” (دعم التعايش السلمي، ورفض الحروب الهجومية العدوانية).

وأكدوا في بيانهم، أن “ميرتس” كان رئيسا لمجلس إدارة أكبر مستثمر في الأسلحة في العالم “بلاك روك” قبل تولي منصبه، وما يقوم به الآن من تمجيد لهجمات إسرائيل ضد إيران، يعد انتهاكا صريحا لميثاق الأمم المتحدة.

استخدام “مصطلح نازي”

لكن الأمر تجاوز كل ذلك إلى اتهامه باستخدام مصطلح نازي.
فقد أكد بيان إعلان الدعوى القضائية ضد ميرتس، ثم بيان معهد “ليمكين لمنع الإبادة الجماعية”، أن عبارته “العمل القذر” مصطلح نازي، سبق وأن استخدمه “أوجوست هافنر” قائد قوات العاصفة النازية أثناء محاكمته لتبرير الإعدام الجماعي لـ34 ألف يهودي في معسكر “بابي يار” عام 1942 خلال أقل من يومين.

وهو ما أكدت عليه رسالة الإيرانيين في المهجر، بأن قائد معسكر أوشفيتز “رودولف هوس” قام في شهادته أمام المحكمة البولندية بوصف الإبادة المنهجية للبشر، بأنها “مهمة”، و”عمل” ضروري، يجب القيام به.

تحالف استعماري غربي إسرائيلي؟!

تصريح “ميرتس” أحدث هزة في السردية التاريخية للدعم الغربي لإسرائيل، متجاوزا عقدة الذنب والهولوكوست، والإجابة على أسئلة مثل “من يتحكم بمن، ولماذا؟!” معلنا وبوضوح تام، أنه تحالف بنيوي عميق، تؤدي فيها إسرائيل “الأعمال القذرة” نيابة عن الغرب ولصالحه.

وهو ما أيده السفير الإسرائيلي في ألمانيا “رون بروسور” بالقول، إن ميرتس وصف واقع الشرق الأوسط بشكل صحيح، بينما قالت “هآرتس”، إن تصريحاته توقظ الإسرائيليين من سذاجتهم، وتنهي وهم الكرم الألماني، باستخدام الغرب لإسرائيل كمقاول، كما حدث في حرب السويس بعد تأميم عبد الناصر لقناة السويس، لتختم الصحيفة مؤكدة أن إسرائيل تحولت لقوة وحشية بفضل الدعم اللامحدود من الغرب.

بالمقابل، اعتبرها المفكر التركي “سلجوق ترك يلماز” في صحيفة “يني شفق” التركية كاشفة عن البعد الاستعماري الكامن في علاقة الغرب بإسرائيل، ودورها كمخفر متقدم للحضارة الغربية في الشرق الأوسط، وأن تحالفهم قائم على تنفيذ مشاريع تفكيك المنطقة، عبر بناء كيان استعماري جديد حليف للإمبريالية الغربية.

عناد ميرتس وتراجع شعبية إسرائيل وألمانيا عالميا

رغم كل ذلك، لم يأبه ميرتس بهذه الانتقادات، بل رد بطريقة “ترامبية”، بتأكيد سعادته بما وصفه بالتأييد الواسع الساحق لتصريحاته، وعدم اهتمامه بالقلة المنتقدة، كما كرر ثقته في مشروعية الهجمات الإسرائيلية الأمريكية بموجب القانون الدولي، وهو ما ناقضه تماما تقرير للبوندستاج بأغلبية ساحقة لخبراء القانون الألمان، لمخالفته المادة 51 من الميثاق الدولي.

هذا التباين أدى إلى ازدياد الفجوة بين الشعب الألماني وقيادته السياسية ومواقفها، وهو ما أبرزه استطلاع معهد “برتلسمان” في مايو الماضي، أكد تراجع النظرة الإيجابية للألمان تجاه إسرائيل من 46% في عام 2021، إلى 36% فقط حاليا، مقابل 38% بنظرة سلبية، هذا إلى جانب رفض 51% لتصدير الأسلحة لإسرائيل، بمن فيهم ناخبو الائتلاف الحاكم نفسه.

وكذلك نتائج استطلاع معهد “يوجوف”، بأن التعاطف الشعبي مع إسرائيل وصل إلى أدنى مستوياته في أوروبا الغربية، لدرجة أن الرأي الإيجابي تجاهها في كل دولها تراوح بين 13-20% فقط، مقابل 63-70% لديهم رأي سلبي تجاهها.


اللافت أن ألمانيا أيضا خسرت قدرا كبيرا من شعبيتها وسمعتها الحسنة في الشرق الأوسط، والتي زادت فترة شرودر، وميركل بعد رفضها المشاركة في حرب العراق واستقبالها لمليون لاجئ سوري، لتتراجع بشدة بعد رحيل ميركل، وخاصة بعد أحداث 7 أكتوبر ودعم حكومة المستشار “شولتس” الصارخ للاعتداءات الإسرائيلية على سكان غزة، حتى أن استطلاعا للرأي أجراه “معهد الدوحة” في ديسمبر 2023 في 16 دولة عربية أكد أن 75% من المشاركين لديهم رأي سلبي تجاه موقف ألمانيا مما بحدث، الأمر الذي أوجزته مجلة “فورين بوليسي” بعنوان دال هو “كيف خسرت ألمانيا الشرق الأوسط؟” يحوي كثيرا من تفاصيل ذلك.
وهذه النسب المستاءة مرشحة للتزايد بعد موقف وتصريحات “ميرتس”.

من التالي؟

 المشكلة أن تهديدات إسرائيل باحتلال أو ضرب دول عربية وإسلامية كلها معلنة، سواء مصطلح “إسرائيل الكبرى” بكل معانيه، أو إعلان نتنياهو في مقابلة تلفزيونية عام 2011، أن مهمته الكبرى هي منع أي نظام إسلامي عسكري من الحصول على الأسلحة النووية، والأول هو إيران، والثاني باكستان.

وكذلك تهديد الإعلامي الإسرائيلي “تسفي يحزكيلي” الأخير في قناة “آي نيوز 24” الإسرائيلية، بأن “الحرب القادمة بعد إيران مع مصر”، وكذلك تهديد الخبير الإسرائيلي “شاي جال” في صحيفة “إسرائيل هيوم” لتركيا بمقال بعنوان “تركيا هي إيران الجديدة”، ما يراه بعض الإسلاميين والقوميين العرب كتحالف ديني مسيحي يهودي ضد دول العالم الإسلامي.

والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، هل سيدعم المستشار “ميرتس” وباقي الزعماء الغربيين عدوانا إسرائيليا قادما على مصر أو تركيا أو باكستان وغيرها؟ أيضا باعتباره دفاعا عن النفس، وهل سيكون ذلك ضمن الأعمال القذرة التي ستقوم بها لصالح الغرب بأسره، وهل سنسمع عبارة لترامب كتلك التي أعلنها لإيران، “أتطلع من مصر أو تركيا أو باكستان للإذعان التام، وأدعو جميع سكان القاهرة أو إسطنبول أو إسلام أباد إلى إخلائها فورا؟!

———
المصادر:

ميرتس: إسرائيل تقوم بالعمل القذر في إيران نيابة عنا جميعا– القناة الثانية الألمانية.
https://www.zdfheute.de/politik/g7-gipfel-merz-100.html

انتقادات حادة لمصطلح ميرتس “العمل القذر”– موقع “تاجيس شو”.
https://www.tagesschau.de/inland/innenpolitik/merz-drecksarbeit-debatte-100.html

عمل ميرتس القذر– مجلة بوليتيكو.
https://www.politico.eu/newsletter/berlin-bulletin/merzs-dirty-work/

بيان “الإيرانيون المغتربون”.
https://www.theleftberlin.com/open-letter-friedrich-merz/

بيان معهد ليمكن لمنع الإبادة الجماعية
.
https://shorturl.at/YkFLE

دعوى جنائية ضد المستشار “ميرتس”.
https://weltnetz.tv/story/3230-strafanzeige-gegen-bundeskanzler-friedrich-merz

اعتراف قائد معسكر أوشفتس بالإبادة المنهجية كعمل قذر ضروري القيام به.
https://www.herder-institut.de/digitale-angebote/dokumente-und-materialien/themenmodule/quelle/1673/details.html

ماذا قصد المستشار الألماني ميرز، عندما قال إن إسرائيل تقوم بالعمل القذر من أجلنا جميعًا؟- هآرتس
.
https://shorturl.at/abNHb

فريدريش ميرتس والصيغة الصادمة: إسرائيل تنفذ “المهام القذرة” باسم الغرب- يني شفق.
https://www.turkpress.co/node/106038

ميرتس: هجوم إسرائيل على إيران ليس انتهاكاً للقانون الدولي.
https://shorturl.at/K5vh5

تراجع غير مسبوق في شعبية إسرائيل في أوربا الغربية– معهد يوجوف للاستطلاعات
.
https://yougov.co.uk/international/articles/52279-net-favourability-towards-israel-reaches-new-lows-in-key-western-european-countries



استطلاع رأي عن شعبية ألمانيا في بعض دول العالم العربي– مؤسسة “كونراد أديناور”.
https://www.kas.de/de/web/auslandsinformationen/artikel/detail/-/content/zehn-jahre-arabischer-fruehling-wie-denkt-die-region-heute

كيف خسرت ألمانيا الشرق الأوسط؟– مجلة “فورين بوليسي”
.
https://foreignpolicy.com/2024/05/24/germany-israel-gaza-palestine-war-middle-east-politics-soft-power-speech/

نتنياهو: مهمتنا منع الأنظمة الإسلامية من امتلاك أسلحة نووية، الأول إيران، والثاني باكستان.
https://youtube.com/shorts/jK5MWl97mbU?feature=shared

تهديد إسرائيلي بأن الحرب القادمة مع مصر.
https://shorturl.at/MqGbx

تركيا هي إيران الجديدة– يسرائيل هيوم.
https://www.israelhayom.com/opinions/turkey-is-the-new-iran/

—-