أجيال النضال ضد الاستعمار الأوروبي من الهند حتى المغرب، كانت على وعي كامل بخطورة التحدي الغربي، كانت على إدراك كاف لطبيعة الصراع بين الشرق والغرب، كما كانت من الحكمة، بحيث تأخذ من الغرب وعن الغرب، ما تستطيع أخذه من تفوقه الحضاري سواء المادي أو الأدبي. كان الاستعمار تحدياً كبيراً، يستفز أعصاب تلك النخب القديمة، ويستحثها على النهوض بكل وسيلة ممكنة، لذلك لا تخلو حقبة الاستعمار من ازدهار فكري وسياسي على أيادي نخب وطنية رفيعة المستوى، لكن هذه النخب منها من سقط قبل رحيل الاستعمار مثل، مصر، ومنها من سقط بعد رحيله مثل، سوريا، ومنها من استكمل مهمته في قيادة البلاد بعد الاستقلال مثل، الهند وباكستان مع تحول الهند بالتدريج إلى حكم عنصري هندوسي، وتحول باكستان بالتدريج إلى حكم عسكري، مع واجهة مدنية تظهر وتختفي.
قبل أن يرحل الاستعمار الأوروبي حقن مفاصل الشرق الأوسط، بحقنتين من سموم مزمنة: 1- صراع مزمن أبد الدهر بين الهند وباكستان. 2- خلق دولة إسرائيل، وما ترتب عليه من صراع مزمن أبد الدهر بين إسرائيل ومحيطها العربي الإسلامي. ثم ورثت أمريكا كاستعمار جديد تركة الشرق الأوسط بكامله، وقد بدأت هندسته عند منتصف القرن العشرين بتدبير وترتيب وترحيب بالانقلابات العسكرية وتأسيس ديكتاتوريات عسكرية، وكفالة ورعاية العائلات والمشيخات القبائلية في جزيرة العرب والخليج، ثم انتهت بقبول حكم الميليشيات المسلحة في دول مهمة مثل، العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان لتنتهي بذلك الدولة الوطنية، وتبدأ دولة الفصائل، لقد فشلت الدولة الوطنية بعد الاستقلال في إقامة نموذج حكم صالح رشيد، كما فشلت في استيعاب كافة مواطنيها على اختلافهم، واختارت أن تكون مَكَنة للقهر المنظم، تتمول من عرق الشعوب، وقد أصبحت وظيفة الشعوب في أنظمة ما بعد الاستعمار، هي تمويل فساد الحكام وتغطية نفقات رفاهيتهم وبلهنية عيشهم، أصبحت وظيفة شعوب الشرق الأوسط بعد رحيل الاستعمار هي تمويل نفقات قهرهم، وتمويل رفاهية من يتولى صناعة فقرهم، لقد تشوهت فكرة الدولة الوطنية عند الممارسة العملية، فتحت غطاء الوطنية، سمحت السلطات الموصوفة بالوطنية لنفسها، أن تمارس على شعوبها مقادير زائدة من القسوة والعنف والإذلال والتخويف، ربما كان الاستعمار يفكر كثيراً فيها قبل أن يقرر ممارستها، ويراجع نفسه كثيراً؛ خوفاً من عواقبها، لقد سعت الأنظمة الوطنية تحت غطاء الوطنية سعياً حثيثاً منظماً؛ لدفع الشعوب للاستسلام والرضا والقبول بالقهر والفقر؛ لإثبات وطنيتهم وإخلاصهم لبلدهم ولإثبات انتمائهم وولائهم.
لكن الأخطر من هذين القهرين المادي والروحي، هو هشاشة وتخلف ورداءة وضعف نظم التعليم والثقافة والفكر والصحافة والإعلام، وسيطرة الحكومات على حريات التفكير والتعبير والإبداع، وتمكين ثقافة النفاق والملق والوضاعة النفسية والروحية، وكل ذلك كان كافياً لظهور ثم انتشار ثم استفحال ثم تضخم، ما عُرف باسم الصحوات الإسلامية منذ سبعينيات القرن العشرين، حتى ركبت موجات الربيع العربي مع مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، ثم وجدت لها مواضع أقدام مطمئنة، في كل بلد انهارت فيه السلطة المركزية، ثم تفككت فيه مؤسسات الدولة، ثم تمزق فيه المجتمع شيعاً متناحرة وأحزاباً متحاربة، في مثل هذه الأجواء، تتطور الصحوات الإسلامية من تنظيمات دعوية إلى ميليشيات مسلحة، تتلقى التمويل والتسليح والرعاية من كل الجهات الأجنبية التي لها مصالح في زعزعة البلدان وتمزيق الشعوب وتسليم الشرق الأوسط لموجات من الاضطراب، تتوالي وتتعاقب، ولا تتوقف ولا تنتهي .
محطة الربيع العربي، وما أعقبها من ثورات مضادة، ثم ما أعقبها من حروب أهلية، هي البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية الملائمة؛ لتتجول تنظيمات الصحوة الإسلامية من الدعوة إلى السلاح، وحسب تعدد مصادر السلاح تتعدد ولاءاتها لكل الجهات المانحة للمال والسلاح، وتكون الأوطان هي آخر جهات الولاء والالتزام والانتماء، فقط تكون الأوطان محلاً للنزاع والاحتراب وبناء مناطق النفوذ والقوة.
في عام 1969، أي بعد عامين من نكسة 5 يونيو 1967، زار المؤرخ والمستشرق برنارد لويس مصر، وكتب دراسة موجزة عن أوضاع النظام الحاكم بعد الهزيمة، وقال إن النظام مستقر، لا يتعرض لخطر جسيم يهدد بقاءه، وشرح واقع كافة التيارات الاجتماعية والسياسية، ثم تحدث عن الإخوان المسلمين وعن فرصتهم في الوصول إلى حكم مصر فقال: “لن تحين فرصة الإخوان إلا في حال تحطم النظام تماماً” (انظر ص 517 من الطبعة العربية من كتاب: تفسير الشرق الأوسط من بابل إلى التراجمة، ترجمة وتقديم طلعت الشايب صادر عن المركز القومي للترجمة). وكانت ملاحظة ذكية وأريبة من مستشرق ومؤرخ، لا يُضمر أي خير للشرق وأهله.
ملاحظة برنارد لويس عام 1969، وجدت أول تطبيق لها في إيران بعد ذلك بعشر سنوات مع الثورة الإسلامية، وتحطم نظام الشاه 1979، ثم في السودان بعد ذلك بعشر سنوات أخرى مع ثورة الإنقاذ وتحطم آخر ديمقراطية هشة في السودان 1989، ثم كانت الجزائر على وشك السقوط بعد ذلك بعامين، ثم سقطت مصر وتونس بعد ذلك بعشرين عاماَ مع ثورات الربيع العربي 2011، فقد كانت اللحظة المناسبة، اللحظة التي تحطم فيها النظام سواء في مصر أو تونس، فكان الطريق مفتوحاَ لصعود الإسلاميين، ثم الثورة المضادة، ثم عودة الديكتاتورية في مصر وتونس أشد بأساً وأشد تنكيلاً.
هذه هي المعادلة العنيفة والحادة وشديدة العنف والحدة: ديكتاتوريات تحكم طويلاً، ثم تسقط سريعاً، ثم يقفز الإسلاميون على جثث الأنظمة المحطمة، ثم الرد بثورات مضادة، إذا نجحت أقامت ديكتاتوريات، وإذا فشلت اندلعت حروب أهلية، والحروب الأهلية بيئة مواتية للإسلاميين بعد المرور بخبرات الميلشيات المسلحة. سوريا نموذج مثالي لهذه المعادلة العنيفة الحادة، حيث ديكتاتورية نموذجية، ثم ثورة ضمن الربيع العربي، ثم إجهاضها بثورة مضادة، ثم حرب أهلية فتحت ثغرات لكافة القوى الإقليمية والعالمية؛ لتعبث في سوريا من خلال ميليشيات محلية، تحتاج من يسلحها ومن يمولها، ثم استطالت الحرب أربعة عشر عاماً كاملة، نزح نصف الشعب خارج البلاد، وسقط عشرات الآلاف من الضحايا، وتم تخريب عمران وحضارة سوريا، فلم يسلم من الخراب بشر ولا شجر ولا حجر، وفي النهاية سقط النظام، وقبله كانت سوريا ذاتها قد سقطت، بل تمزقت بين أكثر من احتلال، وأكثر من قوة أجنبية، ثم سقطت في يد فصائل مسلحة، هكذا تمثل الحالة السورية نموذجاً فريداً في الانتقال من ديكتاتورية حكم الأقلية الظالم إلى ديكتاتورية حكم الفصائل قرارها النهائي، في أيادي من تولوا تسليحها وتمويلها ورعايتها وتوصيلها لحكم سوريا، ثم كسب الاعتراف الإقليمي والدولي لها، هذا تطور جديد في فكرة الدولة ذاتها، دولة فصائل، وجيش فصائل، وعقلية فصائل، وثقافة فصائل، وضمير فصائل. دولة منزوعة السياق الأهلي الشعبي الوطني الطبيعي، دولة تخلقت، ثم ولدت من رحم الألاعيب الدولية التي لعبتها كافة أجهزة المخابرات السرية من الإمارات والسعودية وقطر وتركيا وإيران وروسيا وإسرائيل وأمريكا، نخبة حكم لم تولد من النضال ضد الاستعمار مثل، نخب ما بعد الاستقلال، ولم تولد من الجيش الوطني مثل، نخب الانقلابات العسكرية، ولم تولد من مؤسسات أهلية مستقرة مثل، فقهاء إيران، ولم تولد من حراك ثوري طبيعي، لكن ولدت من حرب أهلية، تعددت فيها مصادر التسليح والتمويل السريين من أجهزة مخابرات سرية.
خلق إسرائيل، وتدبير الانقلابات العسكرية، واعتماد نموذج لدولة الفصائل، ثلاث مراحل في تفكيك مفاصل الشرق الأوسط الذي يتجه صاعداً نحو المزيد من الغليان ثم الانفجار.