تستدعي الأزمات الوجودية مراجعات من عند الجذور، حتى يكون البلد مستعدا ومتأهبا لكافة السيناريوهات المحتملة.
لا أحد يطلب الحرب، لكنها قد تداهمنا كخيار إجباري، إذا مضى مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء لخطوته الأخيرة.
إنه الآن على بعد خطوة واحدة، إذا مضت إسرائيل في إنشاء “مدينة خيام” يحشر فيها أكثر من (600) ألف نازح فلسطيني على جزء من منطقة غرب رفح؛ تمهيدا لإجبارهم على تهجير قسري إلى سيناء.
إطلاق اسم “المدينة الإنسانية” على “مدينة الخيام”، هو في ذاته استهتار بأية قيمة إنسانية.
إنه معسكر نازي، كما يصفه الإسرائيليون أنفسهم.
معسكر للقتل بلا أي خدمات أساسية فيه، أو أية مقومات حياة.
يكفي أن يكون الوزير المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” هو صاحب هذه التسمية؛ لندرك أننا أمام صيغة جديدة من حربي الإبادة والتجويع.
من يموله؟!
إنهم العرب أنفسهم!
ينشأ ذلك المعسكر النازي من ضمن خرائط إسرائيلية لنشر قواتها بقطاع غزة.
أمام رفض المفاوض الفلسطيني للخرائط المقترحة عدلت أكثر من مرة.
فكرتها الرئيسية إنشاء منطقة عازلة بعرض (3) كيلو مترات على طول الحدود مع مصر قرب مدينة رفح؛ بهدف السيطرة العسكرية على (40%) من قطاع غزة؛ تمهيدا لفرض حكم عسكري عليه، وتمهيدا آخر للتهجير القسري داخل سيناء، أو إلى بلدان أخرى عبر البحر المتوسط.
فيما هو واضح وصريح، فإنه معروض على مصر خياران على درجة عالية من الخطورة.
لا يمكن بأي حال قبولهما، مهما كانت التكاليف والأثمان.
الأول، قبول تهجير نسبة من أهالي غزة طوعيا مقابل تحسين أوضاعها المالية المتدهورة، أو أن تجد نفسها تحت مشروع التهجير القسري بقوة السلاح.
الثاني، إدارة قطاع غزة بالنيابة عن الأمن الإسرائيلي بمشاركة دول عربية أخرى، مستعدة ومتأهبة.
إذا ما تورطت مصر في ذلك المستنقع، فلا قومة لها ولا احترام في محيطها كله.
حتى الآن الموقف المصري الرسمي، يضع خطا أحمر على خياري التهجير والإدارة.
القضية تتجاوز النظام الحالي إلى مستقبل البلد لآماد طويلة مقبلة.
رغم ذلك لا تعرض حقائق الموقف على الرأي العام، حتى يتنبه لما هو مقبل عليه من أخطار وتحديات جسيمة.
لا تساعد البيئة العامة المسمومة على أي إسناد جدي ومؤثر لقضية مصيرية، يتعلق بها مستقبل سيناء ومصير القضية الفلسطينية معا.
ضياع سيناء يعني- بالضبط- ضرب الأمن القومي المصري في مقتل.
التورط في تصفية القضية الفلسطينية خيانة تاريخية تداعياتها كارثية على احترام البلد لنفسه.
يستلفت النظر- هنا- أن المقاومة الفلسطينية نجحت بقدر كبير في تعطيل مشروع التهجير القسري، أو النكبة الثانية بتعبير آخر، رغم حربي الإبادة والتجويع.
تشبث الفلسطينيون بأرضهم، ورفضوا التهجير قسريا أو طوعيا.
كان ذلك خط الدفاع الأول عن مصرية سيناء وخط الدفاع الأخير عن القضية الفلسطينية.
يجب أن ندرك جيدا رغم حملات الدعاية والتحريض على المقاومة الفلسطينية، أن المصير واحد.
أي تخاذل إضافي في دعم غزة والمقاومة، يعني فتح المجال واسعا لضياع سيناء وإهدار الأمن القومي.
من زاوية فلسطينية، رفضت المقاومة في مفاوضات الدوحة الخرائط الإسرائيلية المقترحة؛ لأنها تمنح شرعية لإعادة احتلال نصف قطاع غزة.
ومن زاوية مصرية، بدا الدعم الذي حازه الفلسطينيون من القاهرة متسقا مع مقتضيات الأمن القومي وسلامة سيناء.
إنه استشعار وطأة الخطر المشترك.
لهذا السبب بالذات، جرى استبعاد الوسيط المصري في محادثات واشنطن!
في السياق، بدا لافتا إشارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إلى أزمة سد النهضة الأثيوبي بشيء من الانفتاح على المصالح المصرية في مياه نهر النيل.
كانت تلك إشارة إلى مقايضة أخرى محتملة، التساهل في ملف التهجير مقابل إنهاء أزمة السد الأثيوبي.
إنها مقايضة قضية وجودية بقضية وجودية أخرى.
أي مقايضة من هذا النوع جريمة تاريخية متكاملة الأركان.
هل مصر مستهدفة فعلا؟
باليقين: نعم.
لماذا لا تصدق غالبية الرأي العام، أن هناك خطرا داهما على مصالح البلد العليا ووجوده نفسه؟!
إنها أزمة صدقية النظام في عين شعبه.
بصياغة أخرى: إنها فجوات الكراهية، التي قد تعمي الأبصار عن الأخطار المحدقة.
ماذا قد تفعل مصر، إذا ما جرى التهجير قسريا داخل سيناء؟
هذا سيناريو لا يمكن استبعاده.
لا يمكن تصور أن تضيع سيناء دون طلقة رصاص واحدة.
الذرائع كلها تسقط أيا كانت توجهات النظام الحالي.
المعضلة الكبرى، أن البيئة العامة في مصر لا تساعد على أي تماسك وطني واسع، تستدعيه الأخطار والمخاوف.
يكفي نظرة واحدة على تساؤلات الرأي العام، ومعدلات القلق العالية، التي كشفت عن نفسها عقب حادث الطريق الإقليمي وحريق سنترال رمسيس.
في الحادثتين المروعتين، بدا الأداء العام هزيلا على المستويين السياسي والإعلامي.
لم يكن هناك ما يطمئن على قدرة الدولة في إدارة الأزمات.
كانت فاجعة حادث الطريق الإقليمي داعية إلى التساؤل عن سلامة الأداء العام.
تأكدت أزمة الأداء العام بصورة أكبر وأفدح في حريق سنترال رمسيس.
كادت الحياة العامة في مصر أن تتعطل تماما.
لا جرى استبيان ما الذي حدث فعلا؟
ولا طرح سؤال من يتحمل مسئوليته؟
بفوائض القلق بدت مصر بلدا مضطربا في مشاعره العامة، غاضب ويائس معا من أي إصلاح ممكن.
الأزمة الاقتصادية تتفاقم دون أمل في تخفيف وطأتها بأي مدى منظور، والقنوات السياسية مسدودة إلى حد الإلغاء الواقعي لفكرة الانتخابات نفسها بالقوائم المطلقة المغلقة.
إذا أردنا المصارحة بحقائق الأمور في لحظة، يتقرر على أساسها مستقبل البلد ومصيره، فإن أوضاعه هشة تماما وبيئته مسمومة.
أمام الخطر المحدق تحتاج مصر إلى “نوبة صحيان”، أن تنتبه إلى مكامنه، وتعمل على تصحيح السياسات والأولويات والرجال، حتى نأخذ أنفسنا، ويأخذنا الآخرون على محمل الجد.