قرأت خبراً بتاريخ الاثنين الموافق 14/ 7/ 2025 على صفحة موظفي وزارة العدل المصرية، والذي يجيز للمواطنين التقدم بطلبات للاستفادة من خدمات النيابة العامة الإلكترونية، ولكن في هذه الحالة سيتم إجراء كشف جنائي على مقدم الطلب، والتحقق من وجود أي مطالبات مالية من عدمه.
لكن هل معنى ذلك، أنه يسهل للمواطنين الحصول على الخدمات القانونية أو تيسير سبل العدالة وإنفاذ الحق في التقاضي بكافة مشتملاته، أم أنه يسعى إلى هدف مغاير، وهو الهدف الموجود في الشرط الموضوع للحصول على هذه الخدمات، بما يعد عائقاً ما بين المواطنين وبين حقهم في الحصول على كافة الخدمات القضائية، دونما قيد أو شرط.
وإذ أن العدالة تعد من أهم ركائز ودعائم إقامة المجتمعات الإنسانية وضمان تقدمها وتطورها وتنميتها، وتحقيق الاستقرار والأمن والأمان لها وللأفراد المنتمين إليها أو المتواجدين في كنفها، وبات الأمر بذلك مؤكداً لحقيقة، أنه من المسلمات التي يقاس بها نجاح وتقدم الأمم والدول والمجتمعات الإنسانية، كما أن ضمان استقلال ونزاهة القضاء يعد التزاما على الدولة وأحد مهامها، إذ هو الركيزة الأساسية التي يقوم عليها مبدأ سيادة القانون في الديمقراطيات الحديثة؛ لأن مبدأ الفصل بين السلطات يقتضي وجود سلطة قضائية مستقلة تتولى المراقبة القضائية لمدى شرعية القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية من جانب، ومدى شرعية القرارات التي تصدرها السلطة التنفيذية في ممارستها للعمل التنفيذي وسلامة إجراءات تنفيذها، ومدى مطابقتها للقوانين الصادرة بشأنها- ومن جانب آخر، ملاحقة الخارجين عن القانون لمساءلتهم عن أفعالهم بتوقيع العقوبات التي يقررها القانون والفصل في المنازعات المدنية الحاصلة بين الأفراد- لذلك تستند السلطة القضائية في قيامها إلى التفويض الشعبي والسيادة الوطنية وللوثيقة الأساسية للدولة ”الدستور“، وتلتزم في ممارسة اختصاصاتها بإعمال القانون وضمان تطبيقه تطبيقاً سليماً ونزيهاً تحقيقاً للعدل.
كما وأن الأمر يتعلق بضمانة العدالة ذاتها، لكون ممارسة كافة الإجراءات القضائية وعملية التقاضي ذاتها غايتها المثلى، تقف عند حد تحقيق العدالة في كافة المنازعات القضائية، وهو ما يضفي قيمة فعلية على وجود القوانين كلها، وهو ما يعني أن تبذل الدولة بكافة أجهزتها، ما يقتضيه الأمر من تسهيل طرق التقاضي وتذليل العقبات أمام الحق في المقاضاة، وتيسير الوصول للقضاء، وتسهيل أمر التقاضي بكافة إجراءاته، سواء كان ذلك الأمر مرتبطا بزيادة عدد المحاكم أو زيادة أعداد القضاة، واستخدام كافة السبل التكنولوجية الحديثة لضمانه، دونما أية قيوم أو تعقيدات، سواء كانت مالية أو إجرائية، لا يقف الأمر عند حد النصوص دون تفعيل حقيقي أو ممارسة فعلية، كما أن الخدمات المرتبطة بسير العدالة لا يمكن فصلها عن إنفاذ الحق في التقاضي وتسهيل أمر الوصول إليه، سواء كان للمحامين أم للمواطنين، كذلك فإن الحديث عن حق المواطنين في النفاذ إلى الجهات القضائية، لا يقل أهمية عن الحديث عن استقلال القضاء، إذ لا قيمة لوجود قضاء مستقل، دون أن تكون هناك إمكانية فعالة لضمان نفاذ المواطنين إليه، دون أية عوائق أو موانع أو استثناءات، قد تفرغ الحق في التقاضي من مضمونه الحقيقي، وهدفه من الوجود والمتمثل في حماية حقوق المواطنين والدفاع عن حرياتهم ومصالحهم كذلك، وهو الأمر الذي يرتبط بشكل وثيق بمبدأ سيادة القانون، أو خضوع الدولة للقانون. والحديث عن دولة المؤسسات وعن مبدأ سيادة القانون وعن المشروعية في دولة، لا يوجد فيها قضاء مستقل، يصبح نوعاَ من العبث، لأن هذه الأمور جميعا مرتبطة ارتباطا وثيقا لا ينفصم، فحيث يوجد إيمان بمبدأ المشروعية وسيادة القانون، وحيث يوجد الدستور، فإن السلطة القضائية المستقلة تأتي كنتيجة طبيعية، أما عندما يختفي مبدأ المشروعية، وعندما لا يكون هناك إيمان بمبدأ سيادة القانون، فإنه لا يمكن تصور وجود سلطة قضائية مستقلة في مواجهة بطش السلطة التنفيذية.
وهذه الأسس هي ما تتوافق مع ما أقره الدستور المصري بشأن الحق في التقاضي في نصوص عديدة منه، كفلت جميعها ذلك الحق بحسبه، حق لا يجب أن تقف أمامه العوائق أو توضع له الحدود، بحسبه هو الحامي لجميع حقوق المواطنين وحرياتهم، فنص في المادة 53 منه، على أن المواطنين أمام القانون سواء، وبحسب كونه من الحقوق والحريات اللصيقة بالإنسان، فلا يجوز الانتقاص منها أو تعطيلها بحسب نص المادة 92 من الدستور المصري، كما أن سيادة القانون هي أساس الحكم، هذا بخلاف التزام الدولة، بما أبرمته من اتفاقيات حقوقية.
وإذا كان للحق في النفاذ إلى الجهات القضائية مجموعة من العناصر الواجب تحققها، حتى يكون النفاذ إلى الجهات القضائية ذات قيمة ومعنى حقيقي، ولا يكون مجرد إدراج شكلي في النصوص، إذ أن المؤسسات القضائية تضطلع بالدور الأهم الذي يكفل تحقيق سيادة القانون في أي مجتمع، فالقضاء المستقل هو الذي يضمن أن يتم احترام القوانين على أرض الواقع، فلا تكون مجرد نصوص شكلية، ولا يتم تعطيلها، أو عدم تطبيقها إلا بكيفية انتقائية، وإنما ينبغي أن تسري على جميع الحالات المشابهة، إذ لا غنى عن وجود سلطة قضائية مستقلة ونزيهة، وجديرة بالثقة، وأن تكون قراراتها وأحكامها ملزمة لجميع الفرقاء، ولا تقبل التعطيل أو المماطلة في تنفيذها من طرف المحكوم ضدهم، ولو كانوا يمثلون الدولة، أو إحدى مؤسساتها، وأن يكون النفاذ إليها ميسراً. ومن أهم تلك العناصر، الحق في النفاذ الميسر إلى القضاء، والحق في المساواة أمام الجهات القضائية، والحق في المحاكمات العادلة.
فبماذا إذن يمكننا توصيف مثل ذلك القرار، والذي بتطبيقه لن يجد له أي صدى في النفاذ الحقيقي أو التجاوب مع موقع النيابة العامة، والذي هو من المفترض موقع خدمي مخصص بالأساس لخدمة العدالة في مسماها الأعم، وبما يضمن نفاذ المواطنين إليه، دونما قيد أو شرط أو عائق، حيث يمثل هذا القيد شرطاُ واقفاً أمام تقديم هذه الخدمات، لا يمكن قبوله بحال من الأحوال، إذ أن هناك جهات أخرى وظيفتها الرسمية تنفيذ الأحكام وتحصيل الغرامات أو المبالغ المقضي بها، أو الرسوم القضائية المستحقة على المواطنين، ولا يجب ربط هذه الخدمة المحدثة بأي اشتراطات أو قيود، تمنع أو تحد من حق المواطنين في استخدام تلك المواقع للحصول على الخدمات القضائية، أو التقدم بأية طلبات من خلال تلك النوافذ الإلكترونية.