لو نجحت الخطة الصهيونية في تغيير نظام الحكم في إيران، ولو قرر الحكم الجديد استئناف السلام القديم مع إسرائيل، تكون إسرائيل بذلك قد استعادت الحزام الإسلامي الذي تطوق به العالم العربي، هذا الحزام طرفه الشرقي إيران، وطرفه الغربي تركيا، وقد حافظت تركيا على السلام مع إسرائيل، وواصلت تعميقه وتطويره في حكم الجنرالات العلمانيين كما في حكم الإسلاميين، ثم زاد الإسلاميون الأتراك بقيادة أردوغان حقيقة جديدة، وهي أن السلام التركي الإسرائيلي مصلحة تركية عليا، وقيمة سياسية مصونة حتى لو تناقضت أو تعارضت مع تعرض شعب مسلم للإبادة في غزة على يد إسرائيل، لقد وازن أردوغان- بمهارة شديدة- بين التمسك بالسلام مع إسرائيل من جهة وإشباع الأشقاء في غزة بتصريحات التعاطف الحميم من جهة أخرى، لقد أعطى أردوغان إسرائيل أملاً، بأن السلام مع الدول الإسلامية الكبرى مثل، تركيا وإيران وإندونيسيا ليس مستحيلاً، فحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، كانت مقياساً حساساً، أثبت صدق وصلابة التزام الإسلاميين الأتراك بالسلام، مثلما سبق والتزم به أسلافهم الجنرالات والمدنيون العلمانيون والوطنيون والقوميون، وهذا واحد من أهم ما خرجت به إسرائيل من مكاسب حربها على غزة من خريف 2023، حتى كتابة هذه السطور في صيف 2025، أضف إلى ذلك ما جرى من تعاون بين إسرائيل وتركيا في ملفات ثلاثة: إنهاء حقبة الأسد في سوريا، إنهاء النفوذ الإيراني في الشام، اقتسام النفوذ في سوريا الجديدة. ولا يقلل من هذا التعاون الاستراتيجي ما هو وارد- بطبيعة الأمور- من صراع تكتيكي على مقدار وحجم نفوذ كل منهما في سوريا الجديدة، المهم هو اتفاقهما الضمني والصريح على استباحة سيادة سوريا، ووضع أقدامهما فيها، ثم الأقل أهمية هو تحرش كل منهما قصداً أو سهواً على الحدود بين مناطق النفوذ سواء مناطق جغرافية أو مناطق التأثير والتوجيه والتحكم في حركة وقرار وتوجهات السلطة الجديدة ومعها مسارات المستقبل.
أما إيران فهي تستقبل عهداً جديداً من الجزر دون المد ومن التراجع دون الإقدام، فهي- على عكس تركيا أردوغان- أكبر الخاسرين من حرب الإبادة الصهيونية في غزة، خسرت المقاومة اللبنانية، خسرت المقاومة الفلسطينية، خسرت وجهها الإمبراطوري الكاسح الذي عاشت به ربع قرن، منذ استغلت أخطاء وحماقات الأمريكان بعد 11 سبتمبر 2001 وغزوهم أفغانستان، ثم العراق ثم انشغالهم بمشروع الفوضى الخلاقة، حتى إسقاط عدد من الأنظمة العربية في ربيع 2011، عاشت إيران من مطلع القرن حتى 2025 إمبراطورية إقليمية حقيقية ذات نفوذ ظاهر لا خفاء فيه، حتى طوقت الخليج وجزيرة العرب وبين النهرين أو الهلال الخصيب والشام، حتى وقفت على حدود الأناضول مع تركيا، ووقفت على حدود غزة مع مصر، وطوقت السعودية ودول الخليج من كافة الجهات، شيدت إيران أركان هذه الإمبراطورية الإقليمية- الساسانية- في ربع قرن ثم شهدتها، تتقوض أركانها وتنهدم معالمهما في عامين اثنين، كان ختامهما حرباً نظامية بالجيوش بين إيران وإسرائيل لأول مرة منذ تأسست إسرائيل قبيل منتصف القرن العشرين، إيران الآن بين خيارين كليهما أصعب من بعضهما: استمرار النظام الحاكم رغم انكساره وهشاشته وانطفاء جذوته واضمحلال قوته، وهذا هو الاختيار الأفضل لإسرائيل وأمريكا وحلفائهما من عرب الخليج، فلهم جميعاَ مصلحة أكيدة في بقاء نظام مهيض الجناح مكسور العزيمة منطفئ الوهج، يتململ منه شعبه، ولم يعد قادراً على ممارسة أي مشاغبات حقيقية، تقلق خصومه. ثم الخيار الثاني، وهو تغيير النظام، وهو مغامرة غير محسوبة العواقب، سوف يتضرر منها كافة الأطراف دون استثناء وبالذات الجوار العربي الخليجي. لكن أخطر ما أثبتته حرب الاثني عشر يوماً من 13 حتى 25 يونيو 2025، هو أن إسرائيل لديها ظهير سياسي موالي لها داخل إيران، لها عناصر مؤيدة للتعاون معها، تستطيع أن تقول، إن هناك تطبيعاً فعلياً واقعياً على الأرض بين إسرائيل وقطاعات من الشعب الإيراني، تطبيع من نوع غريب، تطبيع تجاوز الدولة الإيرانية، مع بعض من الشعب الإيراني، لقد كانت الحرب الإسرائيلية على إيران جهداً مزدوجاً، تضافرت فيه جهود إسرائيل من الخارج مع جهود بعض الإيرانيين من الداخل، ليس عندهم موانع في استغلال العدوان الإسرائيلي لإسقاط النظام، لهذا خرج الشرفاء من رموز المعارضة الوطنية، يعلنون رفضهم للعدوان، ويؤكدون وقوفهم مع إيران، رغم اختلافهم الشديد مع سياسات النظام. كان هذا عن المكون الإسلامي من الشرق الأوسط.
أما عن المكون العربي من الشرق الأوسط، فيمكن إجمال صورته، عندما قامت حرب الطوفان “طوفان الأقصى“، ثم أعقبتها حرب الإبادة في خريف 2023، حتى حرب إسرائيل على إيران في صيف 2025، في عدة نقاط:
1 – لا يوجد نظام حكم عربي واحد من اختيار الشعب، لا فرق بين مملكة وراثية وجمهورية، الحكم في العالم العربي جبر وقسر وقهر لا اختيار ولا إرادة ولا حرية فيه. الاستبداد العربي يختلف عن نظيره الإيراني، حيث السيادة للفقهاء، ولكن السياسة العملية فيها مجال للمنافسة الانتخابية المحكومة والموجهة بين عناصر من داخل التركيبة ذاتها، الاستبداد الإيراني ألطف في الشكل من نظيره العربي وجوهرهما واحد: حكم بالإكراه. كذلك يختلف الاستبداد العربي عن نظيره التركي، حيث يمتاز هذا الأخير بانتظام الآلة الانتخابية بصورة دورية متكررة دون تزوير، لكن هذه الآلة الانتخابية باتت غطاءً جميلاً لاستبداد شرقي مكتمل الأركان. الشرق الأوسط من عرب وفرس وترك تتعاظم فيه سلطات الحكام تحت مسميات شتى، وتتناقص فيه حريات الشعوب تحت مبررات لا انتهاء لها، تظل السمة الأساسية الأولى للشرق الأوسط هي تقييد حريات الشعوب ومحاصرة حقوقها في الاختيار والتعبير. في عامي حرب الإبادة كانت شعوب هذه المنطقة هي الأقل حريةً في التعبير عن رفضها لإبادة أشقائهم في غزة، بينما تمتعت شعوب كثيرة في أوروبا وأمريكا وأمريكا اللاتينية بمساحات واسعة من التعبير عن التعاطف الأخلاقي والإنساني مع فلسطين وأهلها. الديكتاتوريات في الشرق الأوسط حريصة على قتل الهمم وإطفاء الأنوار وتسميم الضمائر وتخريب الأرواح وتحطيم العزائم وإحباط المبادرات الحرة وتثبيط الإحساس بالكرمة وإجهاض كل معاني النخوة والمروءة والإنسانية، ديكتاتوريات الشرق الأوسط- إسلامية، وعربية- لا تجد أمانها وبقاءها إلا في نزع فتيل الحرية والإنسانية والعدالة من نفوس مواطنيها وتجريدهم من مصادر غناهم وثرائهم المعنوي والروحي والأخلاقي، تهدف الديكتاتوريات إلى خلق مواطن محايد يسير فوق القضبان المرسومة له من سلطات بلاده، من ميلاده حتى وفاته، هذا المواطن- من حيث لا يدري- يحصل تخريب لقلبه، وإذا خرب قلبه، فقد بهجة الحياة، وإذا فقد بهجة الحياة، ماتت فيه الدوافع وروح المبادرة وكافة الحوافز التي تملأ حياته حيوية ونشاطاً وحركة، ويؤول في نهاية المطاف إلى مجرد جثمان حي، يأكل ويشرب ويقضي الأيام حتى يلقى حتفه، وينسدل الستار على حياته. من لا يعيش حياة بهيجة حيوية جميلة، يعيش من حيث لا يدري حياة كئيبة كسيرة مهيضة الجناح حزينة ذليلة، ويعتاد ذلك، ولا يقلق من ذلك، بل يكون العادي والطبيعي، أن يعيش كذلك. وهذه هي جوهر مأساة الشرق الأوسط، ولهذا يدوم فيه التخلف، ويرتع فيه التطرف، وينتشر الفقر، وتزدهر الطائفية والعنصرية وكافة الحواجز التي تحول دون اندماج الناس كمواطنين كرماء أحرار شرفاء متساوين في وطن عادل ناهض، يحكم بالعقل، ويسوده القانون ويحتكم إلى الدستور. في هذه الهشاشة الشرق أوسطية قامت إسرائيل، واستمرت وانتصرت، ثم أصبحت تحلم بإعادة صياغته على مقاسها وتشكيله على هواها، وبنائه بما يخدم مصالحها وأمنها وبقاءها .
2 – قبل حرب الطوفان والإبادة في خريف 2023، كان العرب جاهزين- بترحيب كبير- لركوب قطار المستقبل خلف القيادة الصهيونية، اعتراف عربي، بالذات من قوى المال والثراء، بأن إسرائيل هي بوابة المستقبل لأي نظام حكم عربي، يريد الأمان والبقاء، كانت اتفاقات السلام الإبراهيمي 2020 هي ذروة هذا الفهم، حيث حكومات الخليج لديها ثروات لا حدود لها، وليس لديها شعوب تحميها ولا جيوش تحرسها، وفقط كل ما عندها خمس عائلات حاكمة، اصطفاها الاستعمار البريطاني ثم بعد رحيله كفلها المتعهد الأمريكي، وخوف هذه العائلات الخمس التقليدي من بعضهم أولاً، فالصغير منهم يخشى غدر الكبير، وكلهم يخشى الشقيق السعودي الأكبر، ثم صغارهم وكبارهم بما في ذلك السعودية لديهم المخاوف التي لا يمحوها الزمن من العراق العربي ومن إيران الفارسي. الآن هم في وضع أفضل لم يستمتعوا به منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، فقد زال خطر العراق بالغزو الأمريكي 2003، ثم زال خطر إيران بحرب الطوفان، ثم الإبادة ثم الحرب على إيران ذاتها، ثم زال خطر البعث السوري بسقوط النظام بجهد خليجي تركي إسرائيلي أمريكي مشترك، لكن خلاصة ما آلت إليه أوضاع الإقليم بعد عامين من الحرب، لا تصب في مصلحة إسرائيل، ومن ثم لا تصب في مصلحة شركائها سواء دول الخليج أو تركيا، صحيح إسرائيل قتلت ودمرت وخربت وأبادت وقصفت اليمن وإيران ولبنان وسورية وفلسطين، وعاثت في الشرق الأوسط فساداً غير مسبوق إلا في حملات الصليبيين، ثم المغول، لكن كل هذه الدمار لم يوفر ميزة لإسرائيل التي تقدم نفسها على أنها ديمقراطية وسط عالم من الطغيان، وتقدم نفسها حضارة غربية متقدمة وسط عالم من التخلف، العكس هو الذي حدث، أظهرت الحرب عدوانية وهمجية ووحشية وبربرية إسرائيل، وخسرت صورتها الديمقراطية المتحضرة في أعين شعوب الشرق والغرب، وبالأخص في وجدان وضمائر الأجيال الشابة في جامعات العالم. أضف إلى ذلك أن الحكومات العربية التي كانت- قبل الحرب- تعتقد أن إسرائيل بوابتها الآمنة للمستقبل، لا يمكنها أن تستمر، فيما كانت عليه دون مراجعة جادة، لقد رأوا إسرائيل مختلفة، طبعة جديدة من إسرائيل، إسرائيل قادرة على تدمير كل من في الشرق الأوسط، دون ممانعة جادة من أوروبا وأمريكا، ولولا أن تدمير إسرائيل للشرق الاوسط يعني تدمير إسرائيل ذاتها في الوقت ذاته، لما ترددت في ذلك ، ولولا مصالح أوروبا وأمريكا في هذا الشرق الأوسط من خطوط مواصلات وغاز وبترول ونزوح مهاجرين، لَما مانعت أوروبا وأمريكا في ذلك. اليقين أن جنون الإبادة الإسرائيلية أعاد حلفاءها العرب- في صمت- للتفكير من جديد، إلى فرملة الاندفاع الإبراهيمي الساذج أعمى البصر والبصيرة، كل من رأى وسمع ما قد جرى في العامين الأخيرين، ثم لا يشهد أن إسرائيل خطر، بل أول خطر، بل أكبر خطر على هذا الإقليم.
…………………………
بعد حرب الإبادة اكتسبت إسرائيل تعريفاً لم يكن من قبل.
ومن ثم اكتسب السلام معها معنى لم يكن من قبل.
ومن ثم، فإن رهان الحكام العرب عليها باعتبارها بوابة المستقبل الآمن لنظم حكمهم قد بات محل شك عميق.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.