القطاع بين الحصار والمراوغة: من يدير بوابة الحياة.. ومن يغلقها عمداً؟ الجوع سلاح.. والمساعدات رهينة

في يوليو 2025، تُسجّل غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخها الحديث أكثر من 2.1 مليون إنسان، محاصرون في رقعة جغرافية منهكة، وسط شلل شبه تام في الخدمات الصحية، ونفاد شبه كلي للوقود، وانهيار المنظومة الطبية. يموت الأطفال؛ بسبب الجفاف ونقص الحليب، وتتحول سيارات الإسعاف إلى عربات صامتة. شاحنات المساعدات، التي يُفترض أن تكون طوق النجاة، تقف على بوابات غزة لساعات وأيام، ممنوعة أو مهددة، كأن المساعدة نفسها فعل يجب أن يُجازى عليه.

ويُطرح السؤال من جديد، ويتكرر بلوم وعتب، وفي الكثير من الأحيان بنبرة اتهام.. هل تستطيع مصر أن تُدخل المساعدات، لكنها لا تفعل؟ لماذا لا يُفتح معبر رفح بشكل دائم؟ ولماذا لا تُسقط المساعدات جوًا، أو تُنزل بحرًا رغم مشاهد الجوع الفادح والفاضح؟

هذا الملف لا يتعامل مع الأسئلة كاتهام، بل كمحاولة لتفكيك الواقع المعقّد، عبر رسم خريطة المعابر، وتحديد مواقع النفوذ، وتحليل دور الأطراف العربية والدولية، واستشراف ما هو ممكن… وما لم يعد يُحتمل.

لماذا لا تدخل المساعدات بسهولة؟

المساعدات تشمل الغذاء، والأدوية، وأجهزة التنفس، والحليب، والوقود، والخيام، وغيرها. لكن إسرائيل تصنّف كثيرًا منها، على أنها “ذات استخدام مزدوج”، وتمنع دخولها بزعم إمكانية استخدامها عسكريا، واحتمالية أنها تمثل تهديدا أمنيا، وبالطبع هذا التعبير فضفاض، ويفتح بابا واسعا للرفض والتعنت.

كل شاحنة تمر عبر تفتيش إسرائيلي إلكتروني ويدوي. قد تُرفض حمولة كاملة؛ بسبب سلعة واحدة.

في إبريل 2024، احتُجزت قافلة مصرية 11 يومًا؛ بسبب صناديق منظفات غير مدرجة بالقوائم.

 معبر رفح لا يعمل منفردًا، فتحه من الجانب المصري لا يضمن دخولًا آمنًا دون تنسيق أمني غير مباشر، ووجب في هذه النقطة التأكيد على أن المعبر من ناحية مصر مفتوح وغير مغلق طوال الفترة الماضية، لكنه مغلق من الجانب الإسرائيلي، وهو ما يعنى استحالة المرور بدون تنسيق وموافقة إسرائيلية.     .

في مايو 2021، إبان تصاعد التوتر في جنوب قطاع غزة، قُصفت قافلة مساعدات مصرية، كانت على وشك الدخول، ما أدى لتدمير الشحنات من قذيفة إسرائيلية بالرغم من التنسيق وكانت الرسالة واضحة: حتى أثناء الهدنة، يظل الحصار ممسكا بالقوة العسكرية، وليس بالسياسة وحدها.

المعابر تحت السيطرة.. وأيها أهم؟                             

رغم أن معبر رفح خاضع للسيادة المصرية، إلا أن تشغيله في حالات الحرب يتم بتقدير أمني، ويتطلب ضمانات بعدم استهداف الشاحنات داخل غزة.

أما معبر كرم أبو سالم، فهو المعبر الأهم، إذ يمر منه أكثر من 70% من المساعدات، لكنه خاضع بالكامل لرقابة إسرائيلية. يملك تجهيزات لوجستية وتخزينية كاملة، ويتم عبره إدخال شحنات الأمم المتحدة والوقود، ولكن بعد تفتيش وتدقيق طويل.

معبر بيت حانون (إيريز) لا يُستخدم لنقل أي مساعدات، بل فقط لعبور بعض الأفراد والوفود. أما المعابر القديمة مثل كارني وصوفا، فقد أغلقتها إسرائيل ضمن استراتيجية لخنق القطاع، وتحجيم استقلاله الاقتصادي.

ما هو طبيعة الدور الذي تلعبه مصر وقطر والأردن في إطار المساعدات؟

مصر:

تدير معبر رفح، وتُدخل شحنات الهلال الأحمر، وتؤمّن المستشفيات الميدانية في العريش. لكنها تتعرض أحيانًا لاتهامات بالتأخر في فتح المعبر، خصوصًا في لحظات حرجة سياسيا.

قطر:

تُموّل رواتب موظفي غزة، وتدعم محطة الكهرباء بالوقود. ومع أن الدعم حيوي، إلا أنه لا يتم إلا بعد موافقة إسرائيل على كل دفعة، وتحت رقابة مصرفية مشددة.

الأردن:

يشغّل مستشفى ميدانيا دائما، ويُسقط مساعدات جوية محدودة، لكن دائمًا بتنسيق كامل مع إسرائيل، مما يجعل أثره محدودًا في لحظات الكوارث الكبرى.

لا أيّ من هذه الدول تمكّن من كسر الحصار فعليًا أو إدخال المساعدات دون التنسيق أو القبول الإسرائيلي، سواء علنيًا أو ضمنيًا.

لماذا لا يتم الإنزال الجوي أو البحري؟

  1. الإنزال البحري مستحيل؛ لأن غزة لا تملك ميناءً صالحًا، والبحر تحت السيطرة العسكرية الكاملة للجيش الإسرائيلي كذلك منطقة بحر غزة، تقع ضمن ما تسميه إسرائيل “المنطقة الأمنية البحرية”.
    وهي مساحة يُمنع دخول السفن غير الإسرائيلية أو غير المنسِّقة إليها، وتُفرض فيها قواعد اشتباك فورية.

الإنزال البحري ليس مجرد صعوبة لوجستية.. بل كسر لخط أحمر عسكري إسرائيلي. أي تحرك بهذا الاتجاه دون غطاء دولي أو تفاهم سياسي صلب، قد يُعتبر إعلان مواجهة.

في مايو 2010، هاجمت إسرائيل “أسطول الحرية” في عرض البحر، وقتلت 9 نشطاء على متن “مافي مرمرة”، فقط لأنه اقترب من شاطئ غزة محمّلًا بالمساعدات، وأوقفت الشهر الماضي أسطول الحرية، وقبضت على النشطاء وقامت بترحيلهم. 

أما الإنزال الجوي، فهو أيضًا غير عملي؛ لأن المجال الجوي مغلق، والطائرات التي لا تُنسق مع إسرائيل، تُعتبر أهدافًا مشروعة. الأردن وحده يقوم بإنزال مساعدات جوية صغيرة، وغالبًا ما تُمنع أو تتأخر؛ بسبب “ظروف التنسيق” هذه الجملة الخاضعة تماما للهوى الإسرائيلي.

  حين تتحول الإغاثة إلى أداة قتل وتجويع

المساعدات المشبوهة

المشهد الإنساني كارثي في غزة، لا يكفي أن الجوع يحاصر الأرواح، بل إن بعض المساعدات نفسها تحوّلت إلى أدوات موت.

تحت لافتة “العمل الإنساني”، برز اسم “مؤسسة غزة الإنسانية” (Gaza Humanitarian Foundation)، تلك الجهة التي رعتها إسرائيل وروّجت لها كبديل منظم للجهات الدولية، ولكنها لم تكن سوى أداة في سياسة التجويع الممنهج.

مؤسسة مشبوهة في ثوب الإغاثة

ظهرت المؤسسة “مؤسسة غزة الإنسانية” (Gaza Humanitarian Foundation)، فجأة بعد تصاعد الهجمات على غزة، وقدّمت نفسها كمصدر بديل و”موثوق” للمساعدات الإنسانية، لكنها:

  • لم تمتلك أي سجل حقيقي في العمل الإنساني سابقًا.
  • لم تتعاون مع أي من الهيئات الدولية المعترف بها.

انفردت إسرائيل باعتمادها، في وقت أغلقت فيه الطريق أمام منظمات الأمم المتحدة.

خلال الأسابيع الأولى لعمل المؤسسة، سُجّلت انتهاكات متعددة.

  • توزيع كميات ضئيلة من الغذاء غير الصالح.
  • التسبب في حوادث تدافع أدت إلى مقتل مدنيين.
  • تركيز التوزيع في مناطق محددة سياسيًا، واستثناء مناطق.

وفي حادثة دامية، استهدفت قوات الاحتلال حشودًا، كانت تتجمع لاستلام معونات منسَقة عبر هذه المؤسسة، مما أدى إلى مقتل أكثر من 60 شخصًا، بحسب تقارير ميدانية، دون أن تصدر المؤسسة بيان إدانة أو تعليق.

تفكيك المنظومة القديمة: من طرد المنظمات إلى تعويم البديل المصطنع.

كان من اللافت أن صعود هذه المؤسسة ترافق مع إنهاء عملي فعلي لوجود المنظمات ذات التاريخ والفاعلية، مثل وكالة الأونروا، التي كانت تتولى شؤون اللاجئين والمراكز الطبية والتعليمية، والمطبخ العالمي الذي كان يوفر وجبات ساخنة يوميًا في ظل الحصار.

وقد قُتل سبعة من العاملين في المطبخ العالمي في قصف مباشر لسيارتهم المموّهة بشعار المنظمة، رغم وجود تنسيق مسبق مع الجيش ووكالات الأمم المتحدة.

الرسالة كانت واضحة: إسرائيل تريد أن تبقي فقط على “الجهات التي تسيطر عليها هي، جهات لا تُحرجها إعلاميًا، ولا تكشف وجهها الحقيقي، وتنفذ سياسة “التوزيع المشروط” ضمن لعبة التجويع.

هل هناك بدائل إنسانية آمنة؟ التكنولوجيا تقول: نعم

رغم هذا السقوط الأخلاقي والإنساني، ظهرت بعض الحلول التقنية واللوجستية، التي يمكن أن تُعيد تعريف مسار المساعدات، بشرط وجود إرادة دولية، وإجبار إسرائيل على الالتزام، ومنها:

نموذج Careem– شريك التوصيل الذكي.

استخدمه برنامج الغذاء العالمي لتحديد المسارات الأكثر أمنًا، وتوجيه السائقين ببرمجيات آنية، قدّم تقارير لحظية عن حركة الشاحنات، مما قلل نسبة الفقد والارتباك، يُمكن توسيعه ليشمل مناطق توزيع متفرقة، اعتمادًا على السُكان المحليين.

. الإسقاط الجوي المشروط والمُراقب، تم تطبيقه جزئيًا في مارس–مايو 2024 عبر الأردن وبلجيكا، باستخدام طائرات مسيّرة مبرمجة. لا يُعتمد عليه حاليًا؛ بسبب رفض إسرائيل، لكن تقنيًا، يمكن تعميمه بغطاء دولي حال توافر الضغط السياسي.

المساعدات ليست مجرد طعام.
إنها ساحة جديدة للصراع، تُستخدم فيها مؤسسات وهمية لترويج “العمل الإنساني تحت الطلب”، بينما يُقتل الأبرياء على أرصفة الانتظار.

وحدها المنظمات المستقلة، المحمية دوليًا، والمراقبة بشفافية، يمكنها كسر هذه الحلقة الجهنمية.
أما غير ذلك، فهو مجرد إعادة تدوير للجريمة بوجه مبتسم، ولكن كيف يمكن إرغام إسرائيل على ذلك؟ دعونا نطرح السؤال الصعب في هذا المقال.

أوراق لم تُستخدم بعد.. والتنسيق الأمني الذي لم يُكسر

في الحرب المفتوحة على غزة، كثير من الأطراف تكتفي بالمشاهدة، وكأنها لا تملك شيئًا. لكن الحقيقة أن بين أيدي بعض الدول العربية، وخاصة الدول المحيطة، أوراق ضغط حقيقية، قادرة على تحريك المعادلة، بل وحتى زلزلة حسابات الاحتلال… لو توافرت الإرادة.

من بين هذه الأوراق، تبرز ورقة ظلّت لعقود خطًا أحمر، لا يُمس، ورقة وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل عربيا، رغم ما تحمله من قدرة كامنة على الإرباك والخلخلة.

الورقة الأخطر: كسر التنسيق الأمني

هذا التنسيق، الذي يدور في الخفاء والعلن، هو أشبه بشبكة أعصاب إقليمية، تربط إسرائيل بأجهزة أمنية في عدد من الدول، تحت مظلة “ضبط التهديدات المشتركة”؛ من تهريب السلاح والأنفاق، إلى تحركات الجماعات المسلحة والمعارضة.

  • تتعطل غرف العمليات الإقليمية المشتركة.
  • تتوقف عمليات رصد وتحليل التحركات عبر الحدود.
  • ترتبك آليات السيطرة على مسارات الدعم اللوجستي.
  • وتُفقد إسرائيل ميزة كانت تعدّها من بديهيات أمنها الخارجي.

ولعل حادثة عام 2020، حين لوّحت السلطة الفلسطينية بتجميد التنسيق الأمني تؤكد هذا؛ إذ سجلت التقارير ارتباكًا إسرائيليًا واضحًا، وتوقّفًا مؤقتًا لعدة عمليات أمنية في الضفة. أما في 2012، فقد امتنعت القاهرة عن تقديم دعم معلوماتي لتل أبيب أثناء التصعيد، مما شلّ قدرتها على تعقب خلايا حماس والجهاد الإسلامي في اللحظة الحرجة.

التنسيق الأمني ليس خدمة دبلوماسية، بل حجر الزاوية في قدرة الاحتلال على التحكم في محيطه.
ووقفه لا يُضعف القبضة الإسرائيلية فقط، بل يُحرر القرار العربي من قيد استخباراتي، ظل حاكمًا لعقود.

أوراق إضافية على الطاولة… لكنها لم تُفعّل:

إلى جانب كسر التنسيق الأمني، هناك أدوات ضغط قوية أخرى لم تُستخدم، رغم مشروعيتها وفعاليتها منها:

إغلاق المعابر والمجالات أمام الحركة الإسرائيلية غير الإنسانية.

تعطيل التنقل اللوجستي والاستخباراتي الإسرائيلي عبر الممرات البرية أو الأجواء، خصوصًا تلك التي تتم بتفاهمات أمنية صامتة.

فرض شروط واضحة مقابل استمرار تلك التسهيلات، أبرزها رفع الحصار الكامل عن غزة والسماح الفوري بدخول المساعدات دون قيد.

الضغط الدبلوماسي الجماعي الحقيقي.

تجميد العلاقات الاقتصادية– التقنية مع إسرائيل من قبل أطراف مطبّعة.

إطلاق حملة قانونية موحدة في المحافل الدولية لمحاكمة الاحتلال على جرائم تجويع المدنيين واستهداف قوافل الإغاثة.

التعبئة الإعلامية والشعبية المُنظمة.

لم تستخدم الدول العربية إمكانياتها الإعلامية لحشد عالمي ضد تجويع غزة، ولا لكشف منظومة الاحتلال التي تجعل من المساعدات هدفًا عسكريًا.

حتى الآن، لا توجد حملة موحدة على مستوى القنوات الكبرى، ولا حملة ضغط شعبي إلكتروني منظّمة منسوبة لدول أو جهات رسمية.

خلاصة حاسمة

إن الحديث عن “انعدام البدائل” ليس دقيقًا. هناك أوراق ضغط بيد الدول العربية، لكنها مؤجَّلة بالإرادة، لا بالقدرة.

لكن كل ذلك… لا يتحرك إلا بإرادة عربية حقيقية وليست إرادة مصر وحدها.
وحتى الآن، تبدو الإرادة مُعلّقة.. في انتظار قرار شجاع لا المزيد من البيانات أو التنديد بالأحداث.

ملحق المراجع والمصادر

برنامج الأغذية العالمي– WFP
 - “WFP delivers food inside Gaza amid restrictions and growing insecurity”
  www.wfp.org/news/wfp-delivers-food-inside-gaza

  1. Financial Times– تقرير المجاعة في غزة
     - “Gaza faces worst famine in decades as aid fails to reach civilians”

مؤسسة غزة الإنسانية– المساعدات المشبوهة

  • Wall Street Journal– تقرير عن مؤسسة غزة الإنسانية
     - “US and Israel Back Gaza Aid Group as UN Falters”
      wsj.com
  • Washington Post– نقد لدور المؤسسة وتسببها في ضحايا
     - “Gaza’s new aid system is flawed and deadly, critics warn”
      washingtonpost.com

التنسيق الأمني العربي– الإسرائيلي

  1. Foreign Policy– تقارير حول تأثير وقف التنسيق
     - “Palestinian Authority Suspends Security Coordination with Israel”
      foreignpolicy.com
  2. تحليل استخباراتي– مصر وإسرائيل 2012
     - مصدر داخلي مطابق للتسريبات الصادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي (INSS)

الحصار ومعابر المساعدات

  1. Reuters– القصف على معبر رفح (مايو 2021)
     - “Egypt closes Rafah border temporarily after Israeli strike”
      reuters.com
  2. ABC News Australia– تغطية القافلة المصرية وملابسات الاستهداف
     - “Aid heads to Gaza as ceasefire talks continue”
      abc.net.au